ربما تتكرر الحرب الباردة التي سادت طوال العقود الأربعة في الألفية الماضية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وانتهت بانهيار الاتحاد وتفككه وظهور روسيا، ولكن هذه المرة لن تكون مع روسيا، فأغلب التوقعات تشير أن الطرف الآخر هذه المرة سيكون بكين؛ القوة الاقتصادية الثانية في العالم والتي يقدر حجم اقتصادها بنحو 10 ترليونات دولار بينما يقدر حجم الاقتصاد الأمريكي بـ16.77 ترليون دولار.
ترامب بين موسكو وبكين
بقي 8 أيام على تنصيب ترامب رئيسًا على الولايات المتحدة، وتصريحات الرجل بين الصين وروسيا تظهر إيجابية كبيرة لروسيا ولبوتين، وسلبية كبيرة للصين؛ إذ لم يصدر حتى الآن من الرئيس الجديد أي تصريح إيجابي تجاه الصين، واستفتح العلاقة معها بعد فوزه باتصال مع رئيسة تايوان هو الأول من نوعه منذ العام 1979 بعدما اعترفت الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان.
وصدرت تصريحات عن ترامب عن إمكانية تراجع واشنطن عن دعم سياسة الصين الواحدة إذا لم تقدم بكين تنازلات حول التجارة وقضايا أخرى، وأعربت بكين عن قلقها البالغ من هذه التصريحات، وحذرت وزارة الخارجية الصينية أنه في في حال تراجع واشنطن عن التزامها بمبدأ الصين الواحدة فإن النمو الصحي والمطرد للعلاقات الصينية الأمريكية بالإضافة إلى التعاون الثنائي في مجالات كبرى سيصبح غير وارد.
أما روسيا ففوز ترامب وقع بردًا وسلامًا على مجلس النواب الروسي وذكر أحد النواب الروس “فاز مرشحنا دونالد ترامب” حيث اختفت المصطلحات التي كانت سائدة في الإعلام الروسي كالحرب الباردة والحرب العالمية الثالثة لتطغى لهجة تصالحية مع واشنطن وآمال بفتح صفحة جديدة عنوانها التعاون والانفتاح.
تأمل موسكو فتح صفحة جديدة مع واشنطن في عهد ترامب
فترامب بالنسبة لروسيا سيعمل على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو مجددًا وسيلغي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليها وآخرها ترحيل الدبلوماسيين الروس الـ35 وإغلاق مجمعين روسيين في ماريلاند ونيوييورك والعقوبات المفروضة منذ العام 2014 على خلفية ضم القرم والأزمة الأوكرانية، ووقف توسيع الناتو شرقًا وتجميد نشر منظومات جديدة للدرع الصاروخية في أوروبا.
أما الصين فترامب لم يهدأ من التصعيد معها إذ وعد بفرض رسوم جمركية عالية على السلع والخدمات المستوردة من الصين وقال أنها ستكون في حدود 50% وأعلن أن الصين دولة تتلاعب بالعملة ضد الولايات المتحدة والدولار، وتعهد بفرض مجموعة من العقوبات التجارية على الصين حيث يسعى لتحجيم التمدد التجاري الصيني في الولايات المتحدة.
ومن ثم عين فريقًا تجاريًا يكن العداء للصين، إذ عين بيتر نافارو وهو بروفيسور في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا ومعروف بعدائه للصين، ليكون رئيسًا لمجلس التجارة الوطني المشكل حديثًا في البيت الأبيض مع الدول الأخرى، وعين أيضًا روبرت لايتهايزر في منصب نائب الممثل التجاري الأمريكي ليكون مسئولا عن المفاوضات التجارية الدولية وهو معروف بأنه من دعاة تعزيز نظام الحماية للمنتج المحلي أو ما يعرف بالسياسة الحمائية. وتعيين نافارو ولايتهايزر عبارة عن تغيير أولي لشكل العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم.
حمائية ترامب ضد توسع الصين
يركز ترامب في سياسته الاقتصادية على الحمائية التجارية القائمة على تعزيز المنتج المحلي ومنع الشركات الأمريكية من إنتاج السلع والخدمات خارج الولايات المتحدة وفرض ضريبة مرتفعة على الشركات الأمريكية التي تنتج في الخارج وتدخل سلعها للولايات المتحدة، كما حصل مؤخرًا مع شركة فورد الأمريكية التي ألغت عقد بناء مصنع لها في المكسيك بسبب الخلاف مع ترامب حول هذا الموضوع، ويعد ترامب الصين أن سلعها ستخضع لهذه السياسة أيضًا بغرض تقليص التجارة الصينية في الولايات المتحدة والحؤول دون إغراق الأسواق الأمريكية بالسلع الصينية.
من حيث بنية الاقتصاد فترامب يرتكز على بنية الاقتصاد الأمريكي القوي للتغلب على الصين في حربها التجارية معها، حيث يعتمد على الصناعة المصرفية وأسواق المال، والدولار؛ العملة الاحتياطية الدولية ذات الوزن الكبير في أسواق الصرف العالمية، إذ لا يزال اليوان الصيني مرتبط بالدولار نسبيًا وترفض الحكومة تعويمه لأسباب تتعلق بالمنافسة التجارية.
في حين أن الاقتصاد الصيني يعتمد على بيع السلع والخدمات بتكاليف منخفضة ويسوق نفسه للشركات حول العالم بأنه أرخص مكان من حيث الأيدي العاملة، وتتوسع في الاستثمار في العالم بغرض إيجاد أسواق جديدة لتوسيع أسواقها الحالية، حيث توسعت في اسثمارات في مجالات عديدة في أفريقيا وفي جمهوريات روسيا الاتحادية والدول العربية والغربية من خلال السكك الحديدية.
حيث انطلق أول قطار شحن من مقاطعة “تشيجيانغ” شرق الصين والمعروفة بإنتاج السلع إلى لندن قاطعة مسافة تزيد من 12 ألف كيلو متر، وتعد لندن المدينة الـ15 في أوروبا التي يتم إضافتها لخدمات قطارات الشحن بين الصين وأوروبا.
يقدر حجم الاقتصاد الصيني بـ10 ترليونات دولار
حيث سيؤدي هذا الخط إلى تحسين العلاقات التجارية بين الصين وبريطانيا وتعزز التواصل مع غرب أوروبا وسيخدم مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تتكون من شبكة بنية أساسية وتجارة تربط آسيا مع أوروبا وأفريقيا على طريف الطرق التجارية القديمة.
ومن الناحية المالية تعمل بكين على تحرير سعرف صرف اليوان من خلال زيادة هامش الحركة مقابل الدولار وتعويمه في حال تشديد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وقد عمدت خلال العامين الماضيين لتأسيس مؤسسات مالية موازية لصندوق النقد والبنك الدولي مع مجموعة بريكس، ومن هذه المؤسسات بنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي برأس مال يقدر بنحو 100 مليار دولار والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره بكين برأس مال أولي قيمته 50 مليار دولار.
وفي حال انتهاء العلاقة الحميمية بين واشنطن وبكين في عهد ترامب فإن هناك نوايا صينية لبيع سندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها والبالغة ترليون دولار تقريبًا وهو ما قد يؤثر على سعر صرف الدولار وكذلك اشترت الصين كميات كبيرة من الذهب حيث بلغ رصيدها من الذهب حوالي 1839 ألف طن لحماية عملتها اليوان واقتصادها.
يرى محللون أن ترامب ربما يسعى من عدائه وتهديداته للصين الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات التجارية الممكنة بهدف فتح أسواقها التجارية بدرجة أكبر أمام الشركات الأمريكية. وهناك تحليلات أخرى ترى أن الصين استفادت من العولمة والانفتاح ومن عضويتها في منظمة التجارة العالمية على حساب المعسكر الرأسمالي في الولايات المتحدة وأوروبا حيث خدمت العولمة وسياسة تحرير التجارة والاستثمار والانفتاح الاقتصادي التي تبنتها أمريكا خلال العقدين الأخيرين، وتذهب هذه التحليلات بضرورة إيقاف الفائدة الصينية وحرمانها من حرية التجارة.
في حين يرى آخرون أن ترامب أخذ خطًا عدائيًا مع الصين في حملته الانتخابية لكسب أصوات الناخبين من عمال المصانع التي أغلقت بسبب إغراق الصين للأسواق الأمريكية بالبضائع الرخيصة الثمن وأنه حين يتسلم الحكم سيتعامل مع الصين بطريقة مختلفة تمامًا تقوم على منطق التفاوض والتفاهم.