“يا فضيلة الإمام.. انت تعبتني”..لم تكن هذه العبارة التي خرجت على لسان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي موجهًا بها حديثه لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب خلال الاحتفال بعيد الشرطة في الرابع والعشرين من يناير الماضي، مجرد كلمات عابرة أو مزاح مع أكبر قامة دينية رسمية في البلاد، كما روج البعض حينها، لكنها كشفت النقاب عن توتر العلاقة بين الأزهر ومؤسسة الرئاسة.
العلاقة بين الأزهر وأنظمة الحكم – لاسيما العسكرية – في مصر تاريخ طويل من المد والجذر، نجح فيه العسكر في تحقيق الكثير من المكاسب حين تم التعامل مع هذه المؤسسة باعتبارها أحد أبرز وسائل “القوى الناعمة” التي يوظفها النظام لخدمة مصالحه وتوسيع نفوذه الداخلي والخارجي، إلا أنه في الوقت نفسه هناك العديد من صفحات هذا التاريخ الممتد منذ يوليو 1952 وحتى الان غرد فيها الأزهر خارج السرب، وهو ما دفع النظام الحاكم حينها إلى تقليم أظافر المعارضين.
قرار هيئة كبار العلماء بالأزهر أمس بشأن وقوع الطلاق الشفوي حتى وإن لم يوثق، والتي جاءت على عكس هوى السيسي والذي طالب بضرورة وضع قانون للحد من هذا الطلاق، والبحث عن حل فقهي له، يعد الحلقة الأخيرة في مسلسل معارضة مؤسسة الأزهر للنظام بعد جولات وصولات من الدعم والتأييد.. فهل انقلب السحر على الساحر؟
تاريخ من الانقسام
لم تكن علاقة الأزهر بالدولة علاقة ثابتة على مر التاريخ، بل مرت بالعديد من موجات المد والجذر ما بين التأييد والدعم والمعارضة والخلاف والصدام في بعض الأحيان، لكن في المجمل يمكن القول أن الدولة العسكرية نجحت في فرض هيمنتها على أكبر مؤسسة دينية في البلاد منذ يوليو 1952.
كانت أولى مواجهات الدولة مع رجال الأزهر عام 1882 عقب فشل الثورة العرابية حين تم نفي الإمام محمد عبده خارج البلاد لثلاث سنوات كاملة، بسبب موقفه ضد الخديوي، وتشجيعه على التصدي للإنجليز ودعم أحمد عرابي في تحركاته ضد القصر، ثم توالت المواجهات بعد ذلك حين أجبر الشيخ المراغي على تقديم استقالته للملك فؤاد بعد رفض الأخير لمشروع قانون إصلاح الأزهر.
وحين جاءت حركة الضباط الأحرار في 23يوليو 1952، كان الأزهر أول المؤيدين لهذه التحركات، حيث كتب مقالا في مجلة “صوت الأزهر” يومها، وصف فيه ما حدث بأنه ” انقلابًا عظيمًا كرم الله الإنسانية به وأذهب النظام الجاهلي، وموالية أنصار الملك والديكتاتورية”
في عهد السادات بارك الأزهر توقيع الرئيس لاتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث أعلن الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر وقتها :”أن مصر تعيش هذه الأيام أمجد أيامها بالزيارة التي يقوم بها الرئيس السادات لتوقيع معاهدة السلام”
لكن سرعان ما تحول هذا الدعم إلى خلاف إثر مساعي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إحكام سيطرته على المؤسسات ذات التأثير الشعبي والجماهيري، من أجل دعم التوجه الاشتراكي الجديد، وكان في مقدمتها مؤسسة الأزهر، وبالرغم من قلق بعض رجالات الأزهر من سيطرة ناصر، إلا أن الأخير نجح في النهاية في إحكام قبضته بصورة كاملة، ضامنًا الولاء الكامل لنظام حكمه، وهو ما تجسد في عدد من المواقف اللاحقة التي استطاع من خلالها الرئيس المصري إقصاء معارضيه بصورة كبيرة، يأتي في مقدمتها تأييده لحكم الإعدام بحق الشيخ سيد قطب مرشد جماعة الإخوان المسلمين حينها عام 1966.
وفي عهد السادات بارك الأزهر توقيع الرئيس لاتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث أعلن الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر وقتها :”أن مصر تعيش هذه الأيام أمجد أيامها بالزيارة التي يقوم بها الرئيس السادات لتوقيع معاهدة السلام”، وذلك عبر برقية تهنئة قدمها للسادات بمناسبة توقيعه المعاهدة، فضلا عن تأييد الشيخ جاد الحق على جاد الحق مفتي الجمهورية للمعاهدة حينها.
الشيخ جاد الحق لمبارك ردًا على طلب فتوى بتحليل فوائد البنوك: ومن قال لك إني أحرم أو أُحلل؟ إن الذي يُحلل أو يُحرم هو الله ولن تتغير فتواي أبدًا أبدًا بتحريم فوائد البنوك
وفي عهد مبارك كانت العلاقة مع الأزهر في أفضل حالاتها، حيث كرًست المؤسسة كافة جهودها لدعم قرارات الدولة ضد الجماعات المتطرفة، إلا أنها لم تخلو أيضًا من بعض المناوشات الجانبية، أبرزها ما حدث في منتصف التسعينات حين شهد الاقتصاد المصري حالة من الركود بسبب فتاوى لجنة الإفتاء وقتها بتحريم فوائد البنوك، ووضع المصريين لأموالهم فيها، فسارع مبارك باستدعاء شيخ الأزهر وقتها الشيخ جاد الحق، لاستصدار فتوى منه بإباحة فوائد البنوك وأن تصدر فتوي رسمية من الأزهر بذلك، وكان الأزهر يُحرمها تمامًا، وقال للشيخ جاد الحق إن البنوك توشك على الإفلاس بسبب فتوى الأزهر، ونحتاج فتوى جديدة تحلل وضع الأموال في البنوك، مستغلاً ثقة المواطنين بالأزهر وعلمائه، فما كان من شيخ الأزهر إلا أن انتفض وقال لمبارك بغضب شديد: “ومن قال لك إني أحرم أو أُحلل؟ إن الذي يُحلل أو يُحرم هو الله ولن تتغير فتواي أبدًا أبدًا بتحريم فوائد البنوك”.
تأييد الأزهر لإعدام الشيخ سيد قطب 1966
ثورة يناير.. الأزهر يبحث عن الاستقلالية
في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 رأي الأزهر أن هذه الفرصة ربما تكون الأفضل لفك قيود تحرره من قبضة النظام الذي ظل مهيمنًا عليه منذ 1952، وفي يونيو 2011 شارك شيخ الأزهر أحمد الطيب مع عدد من المثقفين والسياسيين في اصدار وثيقة الأزهر والتي كانت تضع رؤية تلك المجموعة في خارطة الطريق والمبادئ التي يروا أنها سوف تعيد بناء مصر قوية.
ومع بدايات 2012، أقر المجلس الأعلى للقوات المسلحة عددًا من التعديلات على قانون اختيار شيخ الأزهر، ليصبح بالانتخاب بدلًا من تعينه من قبل رئيس الجمهورية، كما كان معمولا به منذ عهد عبدالناصر، إلا أن المؤسسة الأزهرية لم تتمتع بالاستقلال السياسي والمالي تمامًا.
دور الأزهر في انقلاب 30 يونيو
كان الأزهر مثله مثل بقية عناصر ومقومات الدولة العميقة يشعر بالقلق حيال حكم الإخوان المسلمين، حيث كان يرى فيهم مصدرًا لتهديد عرشه، لذا جاءت مواقفه المتباينة إبان عهد مبارك وفي فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي، ففي الأولى أفتى الأزهر بعدم جواز الخروج على الحاكم في التظاهرات وغيرها، ثم تبدلت الفتوى في عهد الإخوان بجواز الخروج بسلمية، وهو ما مهد الطريق لانقلاب الثالث من يونيو والذي كان فيه الأزهر أحد أبرز أضلاعه.
وبالرغم مما قيل عن تحفظ شيخ الأزهر على قرار الانقلاب على مرسي إلا أن حضوره ومشاركته في بيان العزل الذي ألقاه الفريق أول عبدالفتاح السيسي حينها، بجانب بعض ممثلي القوى المدنية والسلفية وبابا الكنيسة، يعكس توافق ودعم المؤسسة للتوجه السياسي الجديد.
الأزهر والسيسي.. خلاف أم صدام؟
دخلت العلاقة بين مشيخة الأزهر ومؤسسة الرئاسة نفقًا مظلمًا جديدًا بسبب تباين وجهات النظر بين الطيب والسيسي، حيث وجه الأخير العديد من اللوم والانتقاد لشيخ الأزهر، ما تسبب في إحراج الأخير بصورة كبيرة، وأحدث شرخًا في العلاقة بينه وبين النظام الحالي تجسد في عدد من المواقف.
أولاً: تجديد الخطاب الديني
كثير ما دعا السيسي إلى إحراج الأزهر عبر بوابة “تجديد الخطاب الديني” حيث عبر في أكثر من مناسبة عن مسئولية المناهج الدراسية في الأزهر عن تخريج أجيال من المتطرفين، وهو ما عزفت عليه آلة الإعلام الداعمة للنظام بصورة كبيرة، تجاوزت حد انتقاد المناهج إلى تشويه صورة الأزهر كمؤسسة دينية عريقة، وهو ما أستفز رجال الأزهر بصورة كبيرة، فخرج ممثلون عنهم على شاشات الفضائيات يدافعون عن أنفسهم ومناهجهم وفكرهم، ما تسبب بصورة أو بأخرى في إحداث شرخ في الصورة الذهنية للأزهر ورجاله في عقول المصريين.
ثانيًا: الخطبة الموحدة
ربما يأتي مقترح الخطبة الموحدة التي دعا لها وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، وأيدتها مؤسسة الرئاسة بصورة كبيرة في إطار الحديث عن تجديد الخطاب الديني، إلا أن هذا المقترح كان له أثر كبير في إشعال الخلاف بين الأزهر من جانب، والأوقاف كممثلة عن النظام من جانب أخر، حيث اعترض شيخ الأزهر على هذا المقترح منوهًا أنه يقضي على مسألة الإبداع في الخطابة، فضلا عن السلبيات الفقهية وأوجه القصور الدعوية المترتبة على توحيد الخطبة، وهو ما أعتبره مقربون من قصر الاتحادية بأنه معارضة أزهرية للسيسي ونظامه.
ثالثًا: الطلاق الشفوي
ثم جاءت مسألة الطلاق الشفوي والذي طالب السيسي خلال كلمته في احتفالية عيد الشرطة هذا العام بضرورة إصدار قانون يمنع الطلاق، إلا عند الوقوف أمام المأذون لإعطاء الفرصة للزوجين لمراجعة الأمر مرة أخرى، داعيًا شيخ الأزهر، للبحث عن حل فقهي لتقليل حالات الطلاق المرتفعة في مصر، والتي تعدت 40%.
السيسي يلتقي ورجال الأزهر ومفتي الجمهورية
“انت بتعذبني وتعبتني يامولانا”
انتقادات السيسي لشيخ الأزهر لم تقف عند حد الحديث عن دور المؤسسة ومناهجها ومنصاتها الفكرية والثقافية فحسب، بل تجاوزت إلى الانتقاد الشخصي، كما جاء في احتفالات مؤسسة الرئاسة بليلة القدر خلال شهر رمضان الماضي، حيث انتقد السيسي الطيب بشكل خاص وعلماء الأزهر بوجه عام، موجهًا حديثه له قائلا: فضيلة الإمام كل ما أشوفه بقول له إنت بتعذبني، بينما في احتفالات مؤسسة الرئاسة بعيد الشرطة وجه الحديث لشيخ الأزهر قائلا: تعبتني يا مولانا.
جزاء سنمار
“هناك موقف شبه ثابت في التاريخ المصري المعاصر في علاقة شيوخ الأزهر بالعسكر مفاده: ما من شيخ أزهري نافق العسكر، وسار في ركابهم، وطوع لهم نصوص الشرع بالباطل لتحقيق أغراضهم، إلا أذلوه شر ذلة، ونالوا منه بعد انتهاء غرضهم منه..” بهذه المقدمة أستهل الشيخ عصام تليمه، مقاله الذي عنون له بـ”شيوخ الأزهر والعسكر!!” مستعرضًا تاريخ العلاقة بين شيوخ الأزهر ورجاله مع أنظمة العسكر في مصر.
تليمه استشهد في مقاله بما حدث مع الشيخ أحمد حسن الباقوري، فبعد أن قبل تولي وزارة الأوقاف سنة 1953م، وجاء حادث المنشية، وما أعلن وقتها من محاولة قتل عبد الناصر، كان حكم المحكمة العسكرية بإعدام ستة من قيادات الإخوان المسلمين، وجاء يوم تنفيذ الأحكام عليهم، وكان لدى عبد الناصر بعض القلق، وعدم الراحة من تنفيذ الحكم، فجاءوا له بالشيخ الباقوري لكي يطمئنه ويهدئ من روعه، وأن الحكم لا يتعارض مع ضميره، كما حكى ذلك موسى صبري في كتابه (وثائق 15 مايو) ص: 267. وأن الباقوري دخل على عبد الناصر غرفة نومه لأول ولآخر مرة، وبعدها انطلق عبد الناصر بهذا الضمير الذي خدره له أحد شيوخ الأزهر، لتنطلق موجة كبرى من التعذيب وانتهاك حرمات الشعب المصري.
تليمه: خلال لقاء كان في بيت الشيخ الباقوري، وقد هاجم فيه الشيخ محمود شاكر، عبد الناصر، ونقل الخبر لعبد الناصر، وإذ به يقول للباقوري: لِم أهل بيتك الأول وبعدين ابقى اتكلم.
وتابع: فماذا كان مصير الباقوري من عبد الناصر والعسكر؟ قيل: إن لقاء كان في بيت الباقوري، وقد هاجم فيه الشيخ محمود شاكر عبد الناصر، ونقل الخبر لعبد الناصر، فتم عزله من الوزارة، وقبل العزل، أراد عبد الناصر أن يهينه على ملأ من الناس، في حفل في بيته، وإذ بعبد الناصر يقول للباقوري: لِم أهل بيتك الأول وبعدين ابقى اتكلم، وما حدث مع الباقوري هو نفس ما حدث مع شيخ الأزهر عبد الرحمن تاج، الذي وظف كل نصوص الشرع لخدمة الحكم العسكري، وكان جزاؤه الطرد من المنصب بشكل لا يليق على يد عبد الناصر.
مما سبق يتضح أن العلاقة بين مؤسسة الأزهر ونظام السيسي ليست كما يتمناها البعض، فبعد أن كان شيخ الأزهر ورجاله أحد أبرز دعائم نظام ما بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو، ها هو الأزهر يغرد خارج السرب ولو لفترة مؤقتة، ويضع النظام في حرج أمام المصريين المتدينين بطبعهم والذي يمثل الأزهر لهم مكانة كبيرة، فهل يمكن القول أن شهر العسل بين الأزهر والسيسي قد انتهى؟ وأن السحر حان له أن ينقلب على الساحر؟