بعد 24 يومًا من تسلم ترامب للسلطة في الولايات المتحدة بدأت مظاهر عدم تماسك الفريق الرئاسي، حيث استقال مساء أمس الإثنين مايكل فلين مستشار الرئيس للأمن القومي لتترك استقالته جدلًا عن طبيعة العلاقة التي كانت تربطه مع الروس من جهة حيث سيكون لخروج الرجل تبعات على شكل العلاقة المستقبلية بين روسيا والولايات المتحدة، وأزمة ثقة في فريق ترامب تشتت انتباه البيت الأبيض بالخلافات الداخلية من جهة أخرى وخصوصًا بعد سلسلة استقالات في وزارة الخارجية الأمريكية احتجاجًا على سياسة ترامب.
إذًا استقال الشخص الذي وصف الانتخابات الأمريكية لهذا العام بأنها “ثورة وليست انتخابات”، وقال عنها “قد تكون الأكبر في تاريخ أمتنا من أن جاء جورج واشنطن وقرر ألا يكون ملكًا”.
مايكل فلين حارس أمن الولايات المتحدة خارج البيت الأبيض
انفجر أول لغم روسي في إدارة الرئيس ترامب بعد استقالة رجل في منصب حساس قبل أن يمضي شهر على وجوده فيه، فحسب المعلومات الاستخباراتية التي أوردتها واشنطن بوست فإن فلين سبق أن أجرى اتصالًا بالسفير الروسي في واشنطن، قبل تنصيب الرئاسة الجديدة في 20 من يناير/ كانون الثاني الماضي، وتباحث معه موضوع العقوبات الأمريكية المفروضة على موسكو، والتي فرضتها إدارة الرئيس أوباما قبيل رحيلها بسبب ثبوت تدخلها في الحملة الانتخابية الرئاسية عن طريق القرصنة، شملت إغلاق مؤسسات استخباراتية وترحيل دبلوماسيين روس من الأراضي الأمريكية.
القشة التي قصمت ظهر البعير أن فلين سبق له الإنكار أمام نائب الرئيس مايك بنس، لدى سؤاله إن كانت مكالمته مع السفير تناولت العقوبات، وكان نائب الرئيس بنس نفى علنًا قيام محادثات بين الروس والأمريكان عن قضية العقوبات.
وقال فلين في خطاب استقالته الذي أوردته صحيفة نيويورك تايمز: “للأسف، بسبب تسارع وتيرة الأحداث فقد أخطرت نائب الرئيس المنتخب وآخرين دون قصد بمعلومات غير كاملة فيما يتعلق باتصالاتي الهاتفية مع السفير الروسي، اعتذرت للرئيس ولنائب الرئيس وقد قبلا اعتذاري”.
الرئيس ونائبه عرفا بأمر الاتصال في حينه عن طريق وزيرة العدل بالنيابة، حيث أبلغته أن فلين عرضة لابتزاز الروس، ووافقها في تقديرها هذا كل من وكالة الأمن الوطني ومكتب التحقيقات الفيدرالية “إف بي آي” إلى أن جاءت التقارير الاستخباراتية لتفضح اتصال فلين وكلامه مع السفير الروسي فيما يخص العقوبات المفروضة على روسيا.
استقالة فلين تعد إزالة عثرة كبيرة بالنسبة لدول العالم التي كانت ترى في الرجل خطرًا يهدد مصالحها وفي نفس الوقت سيؤثر على دول أخرى كانت ترى فيه داعمًا لها في إدارة ترامب
حيث أوردت تنصتات أجهزة الاستخبارات الأمريكية على محادثات فلين مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن فلين نصح السفير الروسي بعدم إبداء أي رد فعل على العقوبات المفروضة من إدارة الرئيس السابق، بذريعة أن إدارة ترامب الجديدة ستتمكن من مراجعتها وستعمل على شطبها، ويرى مراقبون أن بوتين تجاوب مع هذا الوعد ولم يقم بنفس الخطوة التي أقدم عليها أوباما على وعد بأن الإدارة الجديدة ستتولى شطب تلك العقوبات.
دلالات كثيرة يمكن قراءتها وراء استقالة فلين، لعل أبرزها البداية المتعثرة لإدارة ترامب والتي شهدت في أول أيامها انتكاسة بعد تعليق المحكمة العليا قرارات ترامب بخصوص الهجرة وقيود السفر إلى الولايات المتحدة، وأيدتها محكمة الاستئناف ورفضت طعن ترامب بشأن الهجرة.
ومن ثم فإن المنصب بحد ذاته والذي استقال منه فلين من المفترض أن يكون صاحبه من أحجار الزاوية في الإدارة والذي تشكل إستقالته فقدان توازن بالنسبة للإدارة يتطلب منها إعادة حساباتها واختيار شخصية تتناسب مع الظرف الحالك الذي وقعت فيه والرؤية التي رسمتها.
ففي هذا الوقت تولى المنصب بالنيابة الجنرال كيث كالوغ، بينما يتم تداول أسماء ليكونوا في المنصب الجديد مثل دافيد بترايوس، ومن غيرالمستبعد كما يرى مراقبون أن يحدث هناك تغييرات على مستوى تركيبة البيت الأبيض وإعادة ترتيبه من جديد بعد هذه الاستقالة المفاجئة، ومن جهة أخرى ترى تقارير أجنبية أن الاستخبارات الأمريكية بدأت حربها ضد ترامب بسبب عدم تعاون ترامب معها وعدم إيلائه أهمية بها.
هناك دلالة حساسة وخطرة يمكن قراءتها من وراء الفضيحة وهي أن روسيا تمكنت من اختراق الولايات المتحدة إلكترونيًا، وزرع أشخاص لها في إدارة ترامب، وهذا سيفتح التحقيقات بخصوص العلاقات الروسية مع ترامب ورجالاته من جديد من قبل الكونغرس الأمريكي، وقد ينعكس هذا على العلاقة التي من المفترض أن تكون حميمية بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما قد يؤدي إلى تعثر في تفاهم البلدين في عدة ملفات في الشرق الأوسط وأبرزها الملف السوري.
مايكل فلين.. الرجل المتشدد
كان اختيار ترامب للجنرال المتقاعد مايكل فلين لتولي منصب مستشار الأمن القومي خطوة فهمها الكثير على أنها ترسم ملامح الإدارة الجديدة واستراتيجيتها، فالرجل مقرب من ترامب منذ العام 2015 ويردد كلام ترامب دومًا ويرى أن العالم أساء فهم الرئيس، فترامب من وجهة نظره يريد أن يعيد النظر بالدور المتوقع من الولايات المتحدة كقوة قيادية عالمية والمعاهدات والمواثيق التي تعمل في إطارها للتأكد من أنها لا تزال صالحة في الوقت الذي نعيش فيه.
يعد فلين من بين الأسماء الأكثر عنصرية وصلابة ويمينية، إذ خاض الرجل حروبًا في أفغانستان والعراق ضد التنظيمات الإسلامية وتعهد بالقضاء على داعش في الرقة بسوريا حتى لو كلف ذلك حياة المدنيين.
وينادي بسياسة العداء “للإسلام الراديكالي” حيث تقوم وجهة نظره على أن مشكلة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مع المعتقدات الإسلامية وقد أقنع ترامب في حملته الانتخابية بأن الولايات المتحدة تخوض حربًا عالمية مع التنظيمات الإسلامية ولذلك عليها البحث عن قتالهم مع دول وزعماء أبرزهم الرئيس بوتين، كما أنه يعد أحد المتشددين في قضية الإخوان المسلمين ومسألة وضعهم على لائحة المنظمات الإرهابية.
كما كان ينتقد خطوة الانسحاب من العراق وهاجم الرئيس السابق أوباما على سياساته الخارجية، وهو مؤيد بشكل كبير لإسرائيل، ويعترض على الاتفاق النووي مع إيران، وفيما يخص الأزمة السورية فيطالب بالتعاون مع الروس لإنهاء الأزمة السورية، إذ أبدى إعجابه في أكثر من مناسبة بالرئيس بوتين ووصفه بأنه “الغيور على روسيا”، مؤكدًا أن الرئيس الروسي سيكون “شريكًا موثوقًا للولايات المتحدة في قضايا معينة”، ووقف مع ترامب في إعادة النظر في علاقة الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) من ناحية تمويل نشاطاته وعملياته.
فلين يعد الشخصية المفضلة لدى الرئيس التركي أردوغان والذي كان من الممكن أن يحدث تغييرًا في موقف بلاده من زعيم حركة “خدمة” فتح الله غولن حيث يصف فلين غولن بأنه إرهابي، الذي تتهمه تركيا بالانقلاب الحاصل في منتصف يوليو/ تموز العام الماضي، وقال: “لقد حان الوقت لنيعد النظر في أهمية تركيا وأن نرتب أولوياتنا بالطريقة الصحيحة”، وأضاف “الولايات المتحدة بحاجة إلى ضبط سياستها الخارجية لتعترف بتركيا كأولوية ورؤية العالم من منظور تركيا”، كان من الممكن لفلين أن يقرب المسافة التي بعدت بين واشنطن وأنقرة والتي تزعزعت في أيام أوباما بعد الانقلاب الفاشل.
فلين نصح السفير الروسي بعدم إبداء أي رد فعل على العقوبات المفروضة من إدارة الرئيس السابق، بذريعة أن إدارة ترامب الجديدة ستتمكن من مراجعتها وستعمل على شطبها
يبقى القول بحسب مراقبين إن خروج فلين يعد إزالة عثرة كبيرة بالنسبة لدول العالم التي كانت ترى بالرجل خطرًا يهدد مصالحها وفي نفس الوقت سيؤثر على دول أخرى كانت ترى فيه داعمًا لها في إدارة ترامب، وقد يقود ترامب إلى التخفيف من حدة سياساته التي يتبناها اتجاه دول العالم عمومًا ودول الشرق الأوسط خصوصًا إذ من الممكن أن تعيد هذه الاستقالات خلط الأوراق في البيت الأبيض من جديد بحيث يتم تعيين شخصيات تحظى بقبول واسع من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإبعاد أزمة الثقة التي قد تحدث في إدراة ترامب وترسم سياسات أكثر واقعية مع القضايا العالمية.