الأمثال العربية
“الأمثال” واحدة من أقدم العادات العربية التي ما زالت تُستخدم حتى اليوم، ويرجع تاريخ بعضها إلى الجاهلية والعصور القديمة، وحظيت الأمثال الشعبية بعناية خاصة عند الغرب والعرب على حد سواء، ونظرًا لأهميتها في الثقافة العربية، فقد بلغت عناية الأدباء العرب بها مبلغًا كبيرًا، وكان لها طابع مميز.
وضرب الأمثال، واحد من أكثر الأشكال التعبيرية الشعبية انتشارًا وشيوعًا، ولا تخلو منه أي ثقافة، إذ يُجسد أفكار الشعوب وتصوراتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومعظم مظاهر حياتها، في صورة حية، وفي دلالة إنسانية شاملة، ويمكن اعتباره عصارة حكمة الشعوب وذاكرتها الباقية المتقدة.
الأمثال العربية عند اللغويين والنحاة
عرف النحوي اللغوي أبو إبراهيم الفارابي، المَثل في كتابه الشهير “ديوان الأدب” بقوله:
“المثل ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة“.
أما العالم النحوي أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، فعرف المَثل في كتابه “شرح الفصيح” بأنه:
“جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام“.
وقال الفقيه البصْري إبراهيم بن سيار النظام عن المثل: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة“.
أما الأديب المترجم صاحب كتاب كليلة ودمنة عبد الله ابن المقفع، فقد أسبغ المديح للأمثال قائلاً: “إذا جعل الكلام مثلاً، كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث“.
وقال العالم النحوي أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
“المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه، فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، كقول كعب بن زهير: (كانت مواعيد عرقوب لها مثلا/ وما مواعيدها إلا الأباطيل)، فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد”.
وللأمثال الشعبية قيمة أدبية كبيرة، ولقد أدرك العرب الأوائل قيمة هذا الكنز اللغوي البليغ فتعهدوها بالدراسة والنقل، وجمعوها في كتب للأمثال، كي لا تضيع أو تندثر، منها على سبيل المثال لا الحصر مجمع الأمثال للميداني، المستقصى في أمثال العرب للزمخشري، جمهرة الأمثال للعسكري.
وفي هذا المقال، نستعرض معكم بعض قصص أشهر الأمثال العربية، وكيف صارت أمثالاً.
قصص أشهر الأمثال العربية
وعند جهينة الخبر اليقين
قصة المثل كما ذكرها القاضي والمؤرخ والنسابة الأديب حمد الحقيل في كتابه “كنز الأنساب ومجمع الآداب”، أن رجلًا يدعى الحصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب أحدث في قومه حدثًا فخرج هاربًا، فاجتمع برجل من قبيلة جهينة يُقال له الأخنس بن كعب، فتعاقدا ألاَ يلقيا أحدًا إلا سلباه، وكلاهما فاتك يحذر صاحبه، فعرفا أن رجل من لخم قد قدم من عند بعض الملوك بمغنم، فذهبا في طلبه، فوجداه نازلاً في ظل شجرة، فعرض عليهما الطعام فنزلا وأكلا وشربا.
ثم إن الأخنس الجهني ذهب لبعض شأنه، فلما رجع وجد سيف الحصين مسلولاً، والرجل اللخمي غارق في دمه، فسل سيفه، وقال للحصين: ويحك! قتلتَ رجلا حُرِم علينا دمه بطعامه وشرابه! فقال له الحصين: اقعد يا أخا جهينة، فلهذا ومِثله خرجنا، ثم إن الجهني شغل الحصين بشيء، ثم وثب عليه فقتله، وأخذ متاعه ومتاع اللخمي، ثم انصرف إلى قومه راجعًا بماله، وكانت لحصين أخت تسمى صخرة، فكانت تبكيه في المواسم وتسأل عنه فلا تجد من يخبرها بخبره، فقال الأخنس حين أبصرها: (كَصَخرةٍ إذ تسائِلُ في مراحٍ * وفي جرمٍ وعِلْمُهُما ظنونُ/ تُسائِلُ عن حصينِ كلَ رَكْبٍ * وعند جُهَيْنةَ الخبَرُ اليَقِينُ/ فمَنْ يَكُ سائلا عنه فعـندي * لسائِلِهِ الحديثُ المستَبِينُ). فلما تيقنوا لاحقًا من أن الأخنس الجهني قتل الحصين كما قال منشدًا، صار شطر البيت مثلاً، تضربه العرب في معرفة الأخبار وصحتها.
أشأم من البسوس
حرب البسوس بين قبيلتي تغلب وبكر
البسوس هي “البسوس بنت منقذ” من قبيلة بكر، وإليها تُنسب حرب البسوس التي وقعت في تهامة ودامت 40 سنة، وكانت بين قبيلتي تغلب وبكر ابني وائل ومن حالفهما من القبائل العربية، وانتصرت تغلب في أربعة حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة، ودارت رحى كل معاركها في تهامة ونجد، في كل صيف في ذكرى وفاة كليب.
وكانت البسوس قد خرجت بناقتها في زيارة إلى جساس بن مرة ابن أختها، وفي أثناء تلك الزيارة خرجت ناقة البسوس لترعى مع إبل جساس، وحدث أن انطلقت الناقة في أرض كليب بن ربيعة وهو زوج جليلة أخت جساس وكان سيد قبيلة تغلب.
ولما عرف كليب أن هذه الناقة الغريبة التي اقتحمت أرضه هي ناقة خالة جساس الذى لم يكن يحبه لما تدعيه جليلة من أن أخاها يساوي كليب في المنعة والعزة وهو الذي كان يُضرب به المثل في العرب ويقال عنه “أعز من كُليب”، أمر كليب بقتل الناقة، فثارت البسوس وأطلقت صيحتها الشهيرة “واذُلاه”، مستنجدة بجساس كي يثأر لها من كليب.
لكن جساس أخبرها أنه سيأتي لها بـ100 ناقة من نوق تغلب عوضًا عن ناقتها، فما كان من البسوس إلا أن هجت قومها بشعر، وعايرتهم بقلة النخوة والمروءة، فسقط ذلك في نفس جساس وخرج لقتل كليب “زوج أخته جليلة”. ثم ندم جساس وجاء أبيه آسفًا على فعلته فأشار عليه أبوه بالهرب، وإلا فإن بكر ستُسلمه لتغلب.
فجاء المهلهل بن ربيعة المعروف بالزير سالم – أخو كليب – وطالب أن يمنحوه جساس ليقتله بأخيه، فقالوا له إنه هرب، فطلب أن يأخذ همام أخو جساس أو مرة أبوه، عوضًا عنه، لينتقم من أحدهما لمقتل أخيه، فرفض بنو بكر وقالوا لا نُسلم أحدهما دون قتال، فاشتعلت الحرب بين الحيين، ودامت نحو أربعين عامًا.
وضربت العرب المثل بالبسوس في الشؤم وجعلوها نذير الخراب، بسبب ما جرته على العرب آنذاك من ويلات، بعدما أشعلت نيران هذه الحرب بسبب ناقتها، فقيل “أشأم من البسوس”.
بيدي لا بيد عمرو
تمثال أثري للزباء بنت عمرو ملكة تدمر
أجمعت المراجع التاريخية وألسنة العرب أن صاحبة هذه المقولة هي الزباء بنت عمرو بن الأظرب والتي اعتلت عرش تدمر بعد وفاة والدها على يد جذيمة الأبرش ملك الحيرة حينئذ، بسبب التنافس بين المملكتين.
وبعد أن تسلمت الزباء زمام الأمر واستقرت عندها السلطة، أرسلت إلى جذيمة تطلب مجيئه إلى تدمر للزواج منها، كي تتوحد المملكتان، ويساعدها في حكم مملكتها، فجمع جذيمة مستشاريه وأطلعهم على الأمر، فأشاروا عليه بالموافقة، عدا مستشار واحد هو قصير بن سعد الذي شك في وجود مؤامرة، وأشار على الملك أن يطلب من الزباء الحضور لإتمام الزواج في الحيرة، لكن جذيمة لم يسمع له، وأرسل إلى ابن أخته عمرو بن عدي ليتولى مهام الحكم في أثناء غيابه، وانطلق إلى تدمر.
وعندما وصل ودخل على الزباء وجدها بكامل ملابسها الحربية – وكانت فارسة تعرف فنون القتال – فعرف بالمكيدة التي وقع فيها، ولقى حتفه.
ولما بلغ نبأ الغدر به إلى الحيرة، حث قصير بن سعد، عمرو بن عدي على الثأر لخاله، وحضر حيلة لذلك، تقتضي أن يقطعوا أنفه ويجلدوه حتى تتمزق ملابسه، ليذهب بعدها إلى الزباء، مدعيا الهرب من بطش عمرو بن عدي، الذي يظن أن قصير هو من أشار بزواجها من الملك جذيمة، وانطلت الحيلة على الزباء، فأكرمت قصيرًا وأسكنته في قصرها، فاستغل قصير الفرصة وفحص جوانب القصر وعرف المخرج السري الخاص الذي تستخدمه الزباء للهرب حال الهجوم.
رسم متخيل للزباء ملكة تدمر وعمرو بن عدي
ثم ادعى أن له في الحيرة تجارة كبيرة من الحرير، وعليه الذهاب ليأتي بها إلى تدمر، ليعود ومعه جِمال محملة بأثقال كبيرة، ولما وصلت القافلة ساحة قصر الزباء فتح قصير الأجولة، فكان في كل جوال رجل من جيش عمرو، فلما علمت الزباء ذلك، أسرعت إلى الهرب من المخرج السري، لكن عمرو كان ينتظرها هناك، وعندما أيقنت هلاكها قالت قولتها الشهيرة “بيدي لا بيد عمرو” ثم تجرعت السم الذي كان في خاتمها.
فاتخذ العرب مقولتها مثلاً يُقال عندما يختار الشخص إفساد ما يملكه بدلاً من أن يحدث ذلك بيد عدوه.
جزاؤه جزاء سنمار
سنمار مهندس من بلاد الروم، استدعاه النعمان الأول بن امرئ القيس ملك الحيرة كي يبني له قصر “الخورنق” بظهر الكوفة، فحضر سنمار مع بنائيه، وبعد تفكير طويل، وجد رسمًا جميلاً للبناء، فبنى القصر على مرتفع قريب من الحيرة حيث تحيط به البساتين والرياض الخضراء، وكانت المياه تجري من الناحية العليا من النهر على شكل دائرة حول أرض القصر وتعود إلى النهر من الناحية المنخفضة.
وبعد أن تم البناء على أجمل ما يكون، صعد النعمان وحاشيته ومعهم سنمار إلى سطح القصر، فشاهد الملك المناظر الخلابة وأعجبه البناء فقال: “ما رأيت مثل هذا البناء قط”، فأجاب سنمار: “لكنني أعلم موضع أجرة لو زالت لسقط القصر كله”، فسأله الملك: “أيعرفها أحد غيرك؟”، فقال سنمار: “لا، لو عرفت أنكم توفونني وتصنعون بي ما أنا أهله، لبنيت بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت”، فاستقر في نفس الملك أنه لا يجوز أن يظل حيًا من يعرف موضع هذه الأجرة ومن يستطيع أن يبني أفضل من هذا القصر.
ثم أمر بقذف سنمار من أعلى “الخورنق” فانكسرت عنقه ومات، فاتخذت العرب مما صنعه النعمان بسنمار مثلاً بين الناس، يقال “جزاؤه جزاء سنمار”، لمن يُجزى بالإحسان الإساءة.
عاد بخفي حُنَيْن
حُنَيْن إسكافيًا من أهل الحيرة، ساومه أحد الأعراب على شراء خفين، وبعد أن أتعبه بالجدال وأغلظ له في الكلام انصرف دون أن يشتري الخفين، فغضب حُنين، وقرر أن يكيد للأعرابي، فلما ارتحل الأعرابي أسرع حُنين فسبقه في الطريق، وعلق أحد الخفين على شجرة، ثم سار عدة أمتار أخرى وطرح الخف الثاني على طريق الأعرابي، ثم قعد ينتظر متخفيًا.
وأتى الأعرابي فرأى الخف المعلق في الشجرة فقال: ما أشبه هذا بخف حُنين، لو كان معه الخف الآخر لأخذته.
ثم سار فرأى الخف الآخر مطروحًا على الأرض، فنزل عن ناقته والتقطه، ثم عاد ليأخذ الخف الأول، فخرج حُنين من مخبأه وأخذ الناقة بما عليها وهرب.
وأقبل الأعرابي على قومه وليس معه إلا الخُفان، فسألوه: “ما الذي جئت به من سفرك؟” فقال: “جئتكم بخُفَي حُنَيْن!”.
فاتخذها العرب مثلا يُضرب عند اليأس من المسعى والرجوع بالخيبة.
على نفسها جنت براقش
ويقال أيضًا “جنت على أهلها براقش”، وبراقش – أعزكم الله – كانت كلبة كثيرة النباح لبيت من بيوت العرب، تركوا منازلهم وخرجوا يقصدون أحد المخابئ خوفًا من بطش بعض الأعداء الذين هاجمهوا مدينتهم، لكن براقش التي خرجت مع قومها، لم تتوقف عن النباح حتى استدل الأعداء على مخبأهم فلحقوا بهم وقتلوهم جميعًا شر قتلة ومعهم براقش.
فاتخذ العرب من فعلتها مثلاً يُقال عمن يتسبب في إيذاء نفسه أو أهله.
عادت حليمة إلى عادتها القديمة
وحليمة هي زوج حاتم الطائي الذي ضربت به العرب المثل في الكرم والسخاء، لكنها كانت على النقيض منه، وتشتهر بالإمساك والبخل، ويُقال إنها كانت إذا أرادت أن تضع إدامًا/ سمنًا في الطعام، ارتجفت الملعقة ولم تطاوعها يدها، فأراد حاتم أن يعلمها الكرم فزعم لها أن الأقدمين كانوا يقولون إن المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يومًا، فأخذت حليمة تزيد ملاعق السمن في الطبخ، حتى صار طعامها طيبًا وتعودت يدها على السخاء!
ثم مات ابنها الوحيد الذي كانت تحبه أكثر من نفسها، فجزعت حتى تمنت الموت، وأخذت لذلك تقلل من وضع السمن في الطبخ حتى ينقص عمرها وتموت فقال ضيوف حاتم: “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”، وصار مثلاً يُضرب للشخص الذي يعود إلى عمل قديم، كان قد توقف عنه.
رب رمية من غير رامِ
وصاحب هذه المقولة هو حكيم بن عبد يغوث المنقري، الذي كان من أرمى الناس، وسببها أنه حلف يومًا ليعقرن الصيد، فخرج بقوسه فرمى فلم يعقر شيئًا، فبات ليلة بأسوأ حال، وخرج في اليوم التالي فلم يعقر شيئًا أيضًا، فلما أصبح قال لقومه: ما أنتم صانعون؟ فإني قاتل اليوم نفسي إن لم أعقر مهاة/ البقر البري.
فقال له ابنه: يا أبت احملني معك، فانطلقا، فإذا هما بمهاة، فرماها حكيم فأخطأها، ثم تعرضت له أخرى فقال له ابنه: يا أبت ناولني القوس، فغضب حكيم وهم أن يضربه، فقال له ابنه: أحمد بحمدك، فإن سهمي سهمك، فناوله حكيم القوس فرماها الابن فلم يخطئ، فقال له حكيم: رب رمية من غير رام.
وصارت مثلاً يُضرب عندما يتفق الشيء لمن ليس من شأنه أن يصدر منه.