على بعد 516 كلم من العاصمة نواكشوط، في أقصى الشمال الموريتاني، تحتضن سلسلة جبال آدرار الشامخة بين جوانحها وبين كثبانها الرملية الممتدة مدّ البصر، مدينة شنقيط الأثرية، التي منحت اسمها موريتانيا عبر التاريخ.
شنقيط: مدينة المكتبات
لو طلبت من شنقيطي أن يعطيك بيته أو خيمته لأعطاك عن طيب خاطر، ولو طلبت منه أن يبيعك كتابا أو مخطوطة فكأنك أهنته، إنّها “مدينة المكتبات”، حيث تفاخر العائلات بمكتباتها وكتبتها المقدّسة ومخطوطاتها النادرة التي يعود أقدمها إلى أكثر من ألف عام فوق رفوف خشبية عتيقة ظلّت صامدة صمود علم علمائها.
رغم المناخ الصحراوي القاسي، آثر أهل شنقيط، أن يبقوا في مدينتهم لحماية تراثهم وكتبهم التي بدأت صفحاتها تتلاشى وتتحول إلى غبار في ظل غياب تام لأدنى وسائل الحفظ والحماية، على أن يمنحوها للدولة، ومع ذلك لم يتبقى من هذه المكتبات التي كانت تفوق الثلاثين، والمخطوطات القديمة التي تجاوز عددها الآلاف قبل نصف قرن من الزمن، إلا خمس مكتبات تحاول العائلات جهدها لنقل هذا الإرث والكنز الأدبي للأجيال القادمة، بعد أن دمجتها اليونسكو ضمن المدن التاريخية الواجبة الحماية.
تحتوي مكتبات “شنقيط” على أغلب المخطوطات التي أحصاها مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموله البنك الدولي
وتغطي المخطوطات التي كتب قسم كبير منها على جلود الغزلان وأحيطت بغلاف من جلد الماعز، بتلك المكتبات فترة زمنية تمتد من القرنين الثالث إلى القرن الرابع عشر هجريا، وتتناول جميع العلوم والفنون بما في ذلك علوم القرآن والحديث وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والنحو وعلوم اللغة والشعر والتاريخ والطب والجغرافيا وغيرها، ومن بينها أقدم نصوص قرآنية يعود تاريخها إلى القرن التاسع، فقد كانت المدينة في الماضي حلقة للوصل ومعبرًا للتجارة بين مشارق الأرض ومغاربها.
وتحتوي مكتبات “شنقيط” على أغلب المخطوطات التي أحصاها مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموله البنك الدولي، وسبق أن أعلن هذا المشروع عن جرد أكثر من ثلاثين ألف مخطوط موزعة على ست مائة وخمس وسبعين مكتبة منتشرة في 289 موقعا في 91 بلدية موريتانية من ضمن 48 مقاطعة، تواجه أغلبها الكثير من المخاطر، خاصة وأنها موجودة في بيوت من الطين على وشك السقوط والرمال تحاصرها، ومن هذه المكتبات نجد مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبد الحميد، وأهل لداعه، وأهل السبتي، وأهل الخرشي.
مكّة موريتانيا
بعض سيط مدينة شنقيط والصورة الإيجابية لها أخذته من علمائها “الشناقطة” وما تركوا من انطباعات حسنة في المراكز العلمية المشرقية والمغربية التي حلوا فيها، حتى أنها سميت ب “مكة موريتانيا”، فإليها ينسب كبار العلماء الشناقطة الذين ملأ صيتهم العالم باستظهار وحفظ العلوم وأبدعوا في ميادين العقيدة الإسلامية واللغة والفقه والرياضيات والمنطق، فافتتن بهم المشارقة في الأزهر وفي الأردن وفي الحجاز وفي السودان وفي بلاد المغرب.
وتعتبر مدينة شنقيط منارة شامخة ورباطا مقدسا بفضل ما أبدعه علماؤها على مر التاريخ وعباقرتها المؤلفون الذين شرحوا الوحي ونشروه في كل أصقاع العالم، واستنبطوا منه وقاسوا عليه ما أشكل عليهم من الأحكام المتعلقة بالدين والدنيا. مع حفظ نصوص الشريعة صدرا.
كانت مدينة شنقيط مقصد الحجاج الذي يتجمعون فيها ثم ينطلقون في قافلة واحدة نحو مكة المكرمة لأداء فريضة الحج
من هؤلاء العلماء نجد محمد يحي بن سليمه اليونسي الذي تزيد مؤلفاته على 250مؤلفا ما بين شرح ونظم واختصار وتلخيص، والشيخ ماء العينين التى تربو مؤلفاته على 400 كتاب، ومحمد يحي الولاتى الذي يصل تعداد كتبه إلى 110 كتب، ومحمد مولود ولد احمد الذي كتب العشرات من الكتب، ويحيى بن البراء الذي كتب “المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء” التي تقع في 12 مجلدا، وقد ضمت هذه الموسوعة 6620 فتوى.
إلى جانب كونها منبع العلماء، كانت مدينة شنقيط مقصد الحجاج الذي يتجمعون فيها ثم ينطلقون في قافلة واحدة نحو مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ويعمل الحجاج خلال هذه الرحلة التي قد تستغرق أشهر معدودات على نشر العلوم الإسلامية في البلاد التي يمرون بها، كما يتنافسون في جلب نفائس الكتب إلى وطنهم الأصلي.
فنُّ معماري يُقاوم عاديات الزمن والطبيعة
رغم عاديات الزمن والظروف المناخية الصعبة والعزلة القاتلة، ما تزال مدينة شنقيط الحالية، الواقعة على مستوى أعلى من الكثبان الرملية (بنيت سنة 660 هجري)، حية تصارع بعد أن أكلت الرمال المدينة القديمة التي استمرت خمسة قرون من الزمان، حيث بناها شنقيط الأول عام 160ه وكانت تسمى “آبير”.
بناءات تحدّثك عن بماض المدينة السحيق، والفكر الخلاق لدى الرجل الشنقيطي الذي سخّر الحجارة والطين لبناء مدينة متكاملة في تناسق بديع، ليشكل فنا معماريا قلما يُجد مثله في كثير من المدن العالمية، إذ أنه يبرز خصوصية حقيقية لليد التي صنعته، وللعقل الذي صممه. وتمتاز هذه المنازل بعدة خصوصيات، حيث أنها تستطيع تخزين البرودة للاستفادة منها في الصيف، فضلا عن تخزينها للحرارة للاستفادة منها في الشتاء، مما يجعلها مناسبة في كل الأوقات.
مدينة بنيت حَول مسجدها العتيق الذي احتلّ قلب المدينة حتى يؤمه جميع المصلين من جميع أطرافها، مسجد لم يلاحظ عليه أي خلل في جسمه المتماسك… حاز قمة الجمال لما فيه من عناصر تراثية قيمة تتجلى في صومعته الشاهقة ذات العشرة أمتار التي تعتبر رمزاً لدولة موريتانيا وذات البناء المتميز حيث جلبت مواد بنائها من خارج المدينة وقد تفنن مصمموها في تشييدها وزين رأسها بأربع بيضات من بيض النعام تم تثبيتها على أطرافها العلوية الأربعة، حتى أضحت تحفة تراثية خالدة على مر السنين.