تعتبر جدلية العلاقة بين روسيا والمعارضة السورية من أكثر الجدليات حضورًا في المشهد السوري، ليس فقط بسبب الدور الروسي المركزي في الأزمة السورية، ولا بسبب مجريات جولات المفاوضات الأخيرة بين الجانبين في المجال السياسي أو الميداني العسكري، بل لأن منظومة المعارضة السورية نفسها على امتداد فترة الثورة السورية تفاوتت في فهم وتقييم الدوافع الروسية وإلى أي مدى ممكن أن يصل السقف الروسي في الأزمة السورية، وبالتالي تثار التساؤلات عن أداء المعارضة السورية بمختلف فصائلها فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا سلبًا أو إيجابًا.
المسار التاريخي
في المسار التاريخي بدأ التواصل بين روسيا والمعارضة السورية منذ بدايات الثورة، حيث أسفر مؤتمر أنطاليا الذي عقد في شهر مايو 2011 بعد اندلاع حركة الاحتجاجات في الأراضي السورية بثلاثة شهور – ويعتبر المؤتمر الفعلي الأول للمعارضة السورية – عن تشكيل وفد ذهب لزيارة موسكو وقابل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وتعددت اللقاءات بعد ذلك لكنها كانت مجرد لقاءات علاقات عامة تخلو حتى من أجواء الحوار السياسي الجدي.
وعندما تم تشكيل المجلس الوطني السوري برئاسة الدكتور برهان غليون قام وفد برئاسته بزيارة موسكو، وتلت تلك الزيارة زيارة أخرى برئاسة عبد الباسط سيدا الذي استلم رئاسة المجلس الوطني السوري، وجرت تلك اللقاءات إبان الانتشاء السوري بقرب رحيل نظام بشار الأسد وكان الجانب الروسي يصر على إقناع المعارضة السورية بالجلوس والتفاوض مع النظام، الأمر الذي كانت ترفضه المعارضة تمامًا.
الدوافع الروسية كانت أعمق وأبعد بكثير من إشكالية (النظام/ المعارضة) فروسيا كانت تطمح للعودة كقوة عظمى ولعب دور دولي مهم من خلال بوابة الأزمة السورية، ويبدو أن هذا الأمر لم يكن واضحًا عند المعارضة السورية
وعند تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية توالت الوفود برئاسة أحمد الجربا ثم خالد خوجة، والجدير بالذكر أن الروس دعوا رئيس الائتلاف الشيخ معاذ الخطيب لكنه رفض اللقاء.
كانت هذه اللقاءات تتم بشكل متواصل على امتداد مراحل الثورة السورية، وكان الغالب على جو الحوار أن لغة التفاهم معدومة عند الطرفين، فالطرف الروسي ينظر بعين الريبة للمعارضة السورية ويعتبرها محسوبة على أمريكا والغرب وهي جزء من محاولات أمريكية لفرض الديمقراطية على الطريقة الغربية تمامًا كما حدث في الثورات الملونة التي حدثت في دول المجال الحيوي الروسي، ويضاف إلى ذلك انعكاس التدخل الأمريكي في العراق وليبيا حيث شعرت روسيا بالخديعة من قبل الجانب الأمريكي، وبالتالي فقد كان الموقف الروسي مصرًا على الحفاظ على النظام وعدم إسقاطه.
ومن هنا ظهر التباين جليًا بين الموقفين، فالمعارضة كانت تطالب برحيل الأسد أولاً ثم بدء العملية الانتقالية، فيما كانت روسيا تدعو لبدء العملية الانتقالية بوجود الأسد حتى الوصول إلى انتخابات جديدة.
لكن حقيقة الأمر أن الدوافع الروسية كانت أعمق وأبعد بكثير من إشكالية (النظام/ المعارضة) فروسيا كانت تطمح للعودة كقوة عظمى ولعب دور دولي مهم من خلال بوابة الأزمة السورية، ويبدو أن هذا الأمر لم يكن واضحًا عند المعارضة السورية.
الرؤية الروسية للأزمة السورية
رأت روسيا في حالة الاضطراب والفوضى في سوريا فرصة لاستعادة منطقة حيوية جدًا وتعتبر إحدى مناطق نفوذها التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي تسهم في زيادة قدرتها في العودة للساحة العالمية كشريك أساسي ومؤثر، وفق هذا التصور يصبح الدافع الجيوسياسي هو الدافع الرئيسي للتدخل الروسي عسكريًا وسياسيًا في سورية.
غاية ما تطمح له الدبلوماسية الروسية هو الجلوس من موقع الشريك مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حلّ سلمي، والمقايضة على جميع الملفات الدولية بما في ذلك أوكرانيا والبلطيق
وتتلخص الرؤية الروسية للأزمة السورية في:
ليس من حقّ أي دولة أن تتدخل لقلب النظام الحاكم في أي دولة أخرى، ولا تغيير حدودها الجغرافية، لذلك فروسيا مع وحدة الأراضي السورية، وأن مصير الشعب السوري يحدده الشعب دون إملاءات خارجية، وهي تنظر لفصائل المعارضة باعتبارها تنفذ أجندة غربية.
سيرجي لافروف
حل الأزمة السورية هو حل سياسي ولا يمكن حسم المعركة عسكريًا، لذلك كان هدف الحملة العسكرية الروسية هو فرض واقع جديد ثم الدعوة للحوار السياسي، الأولوية لمحاربة التنظيمات الإسلامية المتشددة وفق التصنيف الروسي الذي لا يقصرها في تنظيم الدولة والقاعدة.
وغاية ما تطمح له الدبلوماسية الروسية هو الجلوس من موقع الشريك مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حل سلمي، والمقايضة على جميع الملفات الدولية بما في ذلك أوكرانيا والبلطيق، الأمر الذي تقابله الإدارة الأمريكية بالتجاهل وعدم اعتبار روسيا لاعب دولي.
كيف أضعفت روسيا دور المعارضة السورية؟
- الاعتراف بشرعية الأسد
تعتبر المنظومة الدولية إحدى الأدوات القوية التي تمتلكها روسيا، فالنظام السوري هو النظام المعترف به دوليًا وبالتالي ليس من حق أحد أن يتدخل في شؤون دولة أخرى ويفرض عليها تغيير النظام، وتدخلها إنما يتم عبر البوابة الرسمية للدولة، وبالتالي تستخدم هذه الورقة سواء في المحافل الدولية أو في المفاوضات.
- التدخل العسكري
استطاعت روسيا بتدخلها العسكري أن توقف تدهور قوات النظام السوري وأعادت له زمام المبادرة، واحتفظت بقاعدتها البحرية العريقة في طرطوس، وأنشأت قاعدة جوية في حميميم في اللاذقية، ونشرت منظومة الدفاع الجوي إس 400 المتطورة، وحمت نفسها في الوقت ذاته من تورط قواتها البرية في المستنقع السوري.
- الحرب على الإرهاب
وصمت روسيا معظم الفصائل المقاتلة بتهمة الإرهاب والتشدد وبالتالي تصبح الفصائل المسلحة تنظيمات إرهابية وتصبح المعارضة السياسية أذرع لهذه التنظيمات.
أدى الوضع الداخلي التركي والخذلان الغربي لها لمزيد من التقارب مع الروس، ورغم أن الخلافات لا تزال قائمة إلا أن الروس استطاعوا أن يحجموا من الدور التركي في دعم المعارضة السورية
- العلاقات مع الأكراد
عقدت روسيا والمعارضة الكردية عدة لقاءات وتفاهمات على تنسيق عسكري وسياسي بينهما، حيث يحقق الروس هدفهم بقطع الطريق على الأمريكان ويضغطون على تركيا لإضعاف دورها.
- تحجيم الدور التركي
أدى الوضع الداخلي التركي والخذلان الغربي لها لمزيد من التقارب مع الروس، ورغم أن الخلافات لا تزال قائمة فالروس استطاعوا أن يحجموا من الدور التركي في دعم المعارضة السورية.
- تفتيت أوراق المعارضة وخلط الأوراق
شكلت المعارضة السورية الهيئة العليا للمفاوضات لتكون الممثل لها في المفاوضات الدولية بينما سعت روسيا لخلط الأوراق ودعم إنشاء عدة منصات أخرى مثل منصة موسكو التي يرأسها المعارض السيد قدري جميل وهو مقرب من روسيا ومنصة القاهرة وبالتالي أصبحت تتعامل مع الهيئة العليا للمفاوضات باعتبارها أحد مكونات المعارضة وليست الممثل لها.
- خصم بنكهة وسيط
رغم المحاولات التي تبديها روسيا بإظهار دورها باعتبارها وسيط بين الأطراف، فحقيقة الأمر أنها تفاوض عن النظام السوري، بل إنه حتى في القضايا الميدانية مثل الانسحاب من داريا أو منطقة الوعر فإن الفصائل السورية تفاوض الجانب الروسي مباشرة.
أخطاء المعارضة
لم تفهم المعارضة السورية العقلية الروسية وظنت أن خطابًا من قبيل المطالبة بالديمقراطية والتعددية وتحقيق حقوق الإنسان هو خطاب من الممكن أن يؤدي إلى تعاطف ما مع قضيتهم
لا شك بأنه يهمنا ونحن في العام السادس للثورة السورية أن نقف وقفة تقييم لمراجعة سلوك المعارضة السورية مع روسيا، مع إقرارنا بما ذكر آنفًا عن الدوافع الروسية التي تتجاوز حجم وقدرة المعارضة، وليس بالضرورة عند الحديث عن الأخطاء أن نذكر المبررات فبعض الأخطاء كانت حتمية وهي مفهومة نظرًا لطبيعة الظروف الدولية وبعضها كان من الممكن تلافيه أو تخفيفه، ولكن على كل الأحوال لا بأس من ذكر هذه الأخطاء من وجهة كاتب السطور.
- الانتشاء في البدايات
كان شعور النشوة بالتقدم الذي حصل في بدايات الثورة وتحديدًا بين منتصف عام 2011 إلى نهاية 2012 عارمًا وتغيب عنه حسابات موازين القوى عند اللاعبين الإقليميين والدوليين، كما يغيب عنه إدراك شبكة تحالفات النظام الإقليمية والدولية وقوتها، وأدى هذا إلى رفع السقف عاليًا في خطاب المعارضة مع الروس الذين كان يهمهم في بداية الثورة الاستماع لخطاب مرن يحفظ لهم مصالحهم ويحقق آمالهم ونتج عن ذلك فقدان فرص مبكرة للتعاون بشكل إيجابي مع الروس.
- عدم فهم العقلية الروسية
لم تفهم المعارضة السورية العقلية الروسية وظنت أن خطابًا من قبيل المطالبة بالديمقراطية والتعددية وتحقيق حقوق الإنسان هو خطاب من الممكن أن يؤدي إلى تعاطف ما مع قضيتهم، فالعقلية الروسية محافظة ومتحدية تميل للغة المصالح وتحدي الغرب، وإن كان وفد المعارضة السورية يخاطب الروس بقولهم إن الأسد قتل مائة ألف (في ذلك الوقت) للحفاظ على الحكم فإن الروس قتلوا 300 ألف شيشاني (ثلث الشعب) من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي الروسية.
- عدم فهم الدوافع الروسية
وفي سياق مشابه أيضًا تأخرت فصائل المعارضة في فهم الدوافع الروسية من تدخلهم في سوريا، وهو أمر يتجاوز بكثير قضية شعب يثور للمطالبة بحريته ضد نظام ديكتاتوري، فالأمر متعلق بأهداف جيوسياسية كبرى للروس وأيضًا مرتبطة بالأمن القومي الروسي الذي ينظر بالريبة للثورات الشعبية.
- منظومة إقليمية ودولية معقدة ومتشابكة
ليس من خطأ المعارضة السورية أن موقع بلادهم يجعلها ساحة للأطماع الإقليمية والدولية، ولكن خطأهم بأنهم أتاحوا للطامعين وأصحاب المصالح المختلفة أن يعبثوا عبر أجهزتهم الاستخباراتية واستخدام التمويل والتسليح كأداة للعبث بمجريات الثورة وبالتالي أصبح القرار رهينًا للدول أصحاب المصالح في المقام الأول وليس للمعارضة.
- منظومة المعارضة بأكملها
وهذه الأخيرة هي أكبر الأخطاء على الإطلاق، فإن كانت الظروف الدولية والإقليمية والدوافع الروسية من التدخل هي أمر لا شأن للمعارضة به إلا أن منظومة المعارضة المفككة وتصارعها وعدم اتفاقها في السياسات والاستراتيجيات وغياب جناح سياسي قوي يملك القرار على الفصائل المسلحة، أفقد المعارضة رصيدًا مهمًا وجعل وزنها النسبي في التفاوض ضعيفًا.
ماذا بعد؟
في ظل تفكك المعارضة وضعفها وفي ظل حالة السيولة الإقليمية والإحجام التركي عن الدعم المباشر للمعارضة وفي ظل غموض رؤية الرئيس الأمريكي الجديد ترامب للأزمة السورية يبقى من غير الحكمة المزيد من استعداء الدب الروسي
رغم كل ما ذكر عن التفاوت في الرؤية والدوافع وموازين القوى بين روسيا والمعارضة السورية إلا أنه لا يزال يوجد هامش للمناورة وإن كان محدودًا، فروسيا بعد أن حققت هدفها الجيوسياسي بالوجود في سوريا وفرضت نفسها لاعبًا في الساحة الدولية، وبعد أن حققت انتصارًا ميدانيًا في معركة حلب أصبحت تركز كثيرًا على تسريع المسار السياسي للعملية الانتقالية رغم أنها لا تتفق مع المعارضة، لكن من الممكن الوصول لأرضيات مشتركة سيما أن هناك شكوك عن رغبة روسيا في نجاح الأسد في الانتخابات الرئاسية بعد انتهاء مدته.
ويحسب للروس أنهم قاموا بمفاوضات مباشرة مع الفصائل المقاتلة التي يعتبرونها إرهابية وسهلت لهم وللمدنيين خروجًا من حلب، وتفاهمت مع تركيا، ويحسب للفصائل المقاتلة أنها قبلت الجلوس مع الروس تحت الرعاية التركية، وكل هذه مؤشرات على إمكانية تحريك الملف، رغم المنغصات التي حدثت في أستانة 3.
وفي ظل تفكك المعارضة وضعفها وفي ظل حالة السيولة الإقليمية والإحجام التركي عن الدعم المباشر للمعارضة وفي ظل غموض رؤية الرئيس الأمريكي الجديد ترامب للأزمة السورية يبقى من غير الحكمة المزيد من استعداء الدب الروسي، وتبقى محاولة تدوير الزوايا واللعب في الهوامش والعمل على إعادة بناء منظومة المعارضة السورية هي ما يجب العمل عليه.