كشف التسريب الصوتي لأحد مالكي قناة “نسمة تي في”، الخاصة في تونس وأحد مؤسسي حركة نداء تونس، نبيل القروي، في اجتماع تحرير لقناته الخاصة، طلب فيه من بعض الصحافيين تنظيم حملة ثلب تمسّ أعضاء منظمة “أنا يقظ” (مستقلة)، واتهام المنظمة التي تعمل في مجال مكافحة الفساد، بالتجسس، بعض ما كان –وما زال- يُحاك لمنظمات المجتمع المدني الفاعلة في البلدان العربية من قبل رجال الأنظمة القديمة ومؤسساتها التي تسعى لإعادة التموقع في الساحة السياسية لبلدانها، مهما كلّفها ذلك، وإن كان باستعمال أساليب وصفت بـ “الدنيئة”.
ما جاء في التسريب
المقطع الصوتي المسرّب لاجتماع نبيل القروي مع عدد من الصحفيين لإعداد مخطط لشيطنة منظمة “أنا يقظ”، كان شبيها بغرفة عمليات الأنظمة القديمة في البلدان العربية لتشويه معارضيها، فقد ورد في التسريب، خطة القروي، الذي يعدّ أحد رجال نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ثم أحد مؤسسي حزب نداء تونس، وريث التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي)، وأحد رجال الأعمال الذين يتهمون بالفساد، لضرب منظمة “أنا يقظ” التي رفعت ضدّه قضايا عديدة في المحاكم التونسية وكشفت بعض فساده وفساد مؤسسته الاعلامية.
وجاء في التسريب، قول القروي، “سنستعين بصحافيينا العاملين في التحقيقات، ونقول إنّ هؤلاء (أعضاء منظمة أنا يقظ) “خونه وعملاء يتلقونا الأموال لبيع بلادهم”، لتشويه سمعة العاملين فيها، وسبّهم.” وأضاف، “نعمل إعلانات نضع فيها صور موظفي مؤسسة أنا يقظ بأسمائهم ونكتب إنهم خونة وقابضين ونشتمهم، ونصور أصدقائهم وخطيبة أحدهم ونأخذ الصور إلى أهاليهم، ونقول لهم: هل أنت أبو فلانة، هل تعرف أن ابنتك صديقة وخطيبة فلان؟؟ إنّه عميل وجاسوس ويتلقى الأموال من أمريكا.” وقال أيضا، “نتفق مع أشخاص ونتركهم يقابلون موظفي مؤسسة أنا يقظ، ونصورهم ونقول إن ذلك دليل على أنهم يقابلون عملاء وجواسيس، وإن توجهوا للمحكمة لمقاضاتنا ستكون العقوبة بعد خمس سنوات 700 دينار ندفعها لهم.”
عمل “أنا يقظ”
تمثّل منظمة أنا يقظ التي تأسست إثر الثورة التونسية في 21 مارس 2011، نقطة الاتصال الرسمية لمنظمة الشفافية الدولية بتونس منذ نوفمبر 2013. وتهدف المنظمة إلى مكافحة الفساد المالي والإداري وتدعيم الشفافية، وتضم مجموعة من الشباب والشابات النشيطين في مختلف جهات الجمهورية ويعمل جميعهم على الحفاظ على مكتسبات الثورة، حسب ما جاء في موقعها.
كشفت المنظمة على أدلّة بخصوص شبهة فساد تتعلق “بالتهرب الضريبي للقناة وعدم تسديدها لعديد الخطايا المتخلدة بذمتها لفائدة الدولة
وضمن تحقيقات حول الفساد في قطاعات متعددة مثل قطاع الإعلام والقطاعين العام والخاص وفي المجالات التي تهم السياسيين ورجال الأعمال، نشرت المنظمة، في يوليو الماضي، تحقيق استقصائي حول شركة” نسمة برودكست ش م م” (إحدى الشركات محدودة المسؤوليّة التابعة لمجموعة القروي)، تم الكشف فيه عن حصول “أنا يقظ” على أدلّة بخصوص شبهة فساد تتعلق “بالتهرب الضريبي للقناة وعدم تسديدها لعديد الخطايا المتخلدة بذمتها لفائدة الدولة.
فتح تحقيق واستنكار
تسريب لاقى استنكارا ورفضا كبيرا من قبل العاملين في المجال الاعلامي في تونس، إذ عبّر المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في بيان له عن إدانته الكاملة لمحتوى التسريب، وبدئها العمل على سحب الانخراط بالنقابة لكل من سيثبت تورطهم في التسريب الأخير وأساءوا لأخلاقيات الصحفية، من “خلال تنظيم حملات تشهير وتحريض بما يتنافى وقيم أخلاقيات الصحافة ومبادئ حقوق الانسان”، فيما أذن وزير العدل التونسي للنيابة العمومية بفتح تحقيق في الغرض.
المحكمة الابتدائية بتونس
من جهتها أدانت منظمة الشفافية الدولية التهديدات الموجهة ضد شركائها في تونس، وطالبت السلطات التونسية بالتحقيق في الحملة التي تستهدف المنظمة، وقالت في بيان لها، إن هذا التهديد يأتي على إثر تسريب “حول خطة محكمة وضعت لترهيب الشريك التونسي والتي تضمنت تهديدات باستخدام العنف ضد أفراد المنظمة وإساءة واضحة لسمعة المنظمة ومنسبيها”. وطالبت “الشفافية الدولية” السلطات التونسية بتحقيق دقيق لحيثيات هذا التسريب وحماية منظمة أنا يقظ وتقديم الدعم للمجتمع المدني بشكل عام.
وكان المنظمة المستهدفة “أنا يقظ”، قد عبّرت عن ”بالغ صدمتها” مما جاء في التسريبات، ودعت عموم الشعب التونسي وكل التشكيلات المدنية المنخرطة في مسار البناء الديمقراطي لترسيخ قيم ثورة العدالة والكرامة إلى مسيرة وطنية شاملة يوم غد الخميس من أمام محكمة باب بنات إلى ساحة القصبة بالعاصمة تحت شعار “القضاء على الفساد”.
النظام القديم في مواجهة ما حملته الثورة
فضيحة التسريب تجاوزت الإساء لقطاع الإعلام والعاملين فيه والمسّ من مصداقيته، وتجاوزت أيضا “قناة نسمة” ومنظمة “أنا يقظ”، إلى محاولة مؤسسات محسوبة على النظام القديم ضرب مؤسسات تأسست بعد الثورة ووضعت أهدافها أهدافا لها.
رضا التمتام، الصحفي في قناة الجزيرة مباشر، اعتبر في تصريح لنون بوست، أن هذا التسريب يتنزّل في إطار ما يقوم به جزء من النظام القديم لمحاولة الحفاظ على نفسه، في ظل المؤسسات الجديدة التي جاءت بعد الثورة وسعت لتغيير المشهد الإعلامي والسياسي في تونس ووضع مؤسسات ديمقراطية مدنية. وقال التمتام، ” هذا التسريب الأخير يكشف سياسة توظيف بعض المؤسسات، منها هذه المؤسسة الإعلامية التي تحصلت على حقوق البث زمن بن علي، لتحقيق مصالح سياسية ولضرب الخصوم السياسيين والهياكل الأخرى خاصة التي تأسست بعد الثورة من ذلك منظمة أنا يقظ المهتمة بمكافحة الفساد، وهو دليل على أن بقايا النظام السابق بمختلف تشكيلاتها في مواجهة كل القيم والمؤسسات التي جاءت بها الثورة.”
رضا التمتام
واعتبر أن هؤلاء، في إشارة للقائمين على القناة، عاشوا في منظومة معينة مع نظام بن علي، “منظومة فساد وهتك أعراض، منظومة سقوط أخلاقي فيما يتعلق بالممارسات السياسية والمدنية، ولا يساعدهم أن تظهر مؤسسات جديدة لها دور في مكافحة الفساد والتصدي لمثل هذه الأنشطة، فتجدهم يتهجّمون على الأشخاص والمؤسسات والأنشطة وكل من له روح ثورية ويسعى لتغيير ممارسات ومؤسسات النظام السابق وتأسيس نظام ديمقراطي تعددي، باستخدام نفس الأساليب والطرق المتبعة قديما”.
منظمة “البوصلة”، اعتبرت أن هذا التسجيل دليلاً صارخاً على حملات ممنهجة تتعرض لها الجمعيات الوطنية طوال الست سنوات الأخيرة
من جهتها، أكّدت هندة الفلاح مديرة مركز أنا يقظ لدعم وإرشاد ضحايا الفساد، في تصريح لنون بوست، أنّ المنظومة القديمة وأساليب الهرسلة المتّبعة من قبل النظام السابق عادت بنفس الممارسات إذ يخون الناشط في مكافحة الفساد وينعت بـ “عميل ” و ” جاسوس “. وكانت منظمة “البوصلة”، قد اعتبرت أن هذا التسجيل دليلاً صارخاً على حملات ممنهجة تتعرض لها الجمعيات الوطنية طوال الست سنوات الأخيرة، من أجل المساس من نزاهة المجتمع المدني، والتشكيك بالجمعيات، خاصة تلك التي تعنى بالشفافية ومكافحة الفساد.
توجّه لضرب منظمات المجتمع المدني بأساليب نظام “بن علي”
ولئن تحدّثت هذه التسريبات عن خطة لضرب منظمة واحدة، فقد كشفت عن السيناريو المتبع لتشويه منظمات المجتمع المدني في تونس، في هذا الشأن قال رفيق الحلواني هو المنسق العام لشبكة مراقبون (إحدى المنظمات الغير حكومية المتخصصة في رصد ومراقبة الانتخابات) في تصريح لنون بوست، إنّ “هناك توجه كبير من عدّة أطراف فاعلة اليوم في تونس لضرب منظمات المجتمع المدني التي يقلقها عملها ونشاطها”. وأكّد الحلواني أن ما حصل ليس جديد، فقد “أصبح واقعا من عهد نظام بن علي”، وتابع، “هناك شيطنة لعمل هذه المنظمات وتشهير بالعاملين فيها، يعكس حالة الرداءة التي نعيشها في تونس”.
هناك أطراف تابعة المنظومة القديمة وتحاول إعادة ارسائها، تستهدف منظمات المجتمع المدني التي تسعى لكشف ملفات الفساد
وعن الأساليب التي تحدّث عنها نبيل القروي في خطته لتشويه أعضاء “أنا يقظ”، قالت الصحفية بقناة “الزيتونة” شيماء الوسلاتي، إنها ” شبيهة بأساليب نظام بن علي، يستعملها أتباعه وبقاياه لاستهداف كل طرف يحاول عرقلة نشاطهم”. وقالت شيماء، إن هناك أطراف (لم تذكرها) تابعة المنظومة القديمة وتحاول إعادة ارسائها، تستهدف منظمات المجتمع المدني التي تسعى لكشف ملفات الفساد والأشخاص المتعلق بهم قضايا فساد، فـ ” عمل هذه المنظمات لا يساعد هذه الأطراف التابعة للمنظومة السابقة وبالتالي فهي تسعى للتشكيك فيها وتشويهها بغية الحط من عملها بأساليب حقيرة”.
لمصلحة من؟
هذه التسريبات الأخيرة، وإن استهدفت منظمة أنا يقظ ومنظمات المجتمع المدني في تونس، من قبل أحد رجال الثورة المضادة، فإنّها أيضا جاءت لاستهداف القروي من قبل رفاق الأمس، فهذه التسريبات لم يكن الغرض منها، تنبيه العاملين في المنظمة بقدر ما هي “قرصة أذن” لنبيل القروي الذي اصطف إلى جانب شق حافظ قائد السبسي في مواجهة باقي شقوق النداء وإن استقال رسميا من الحزب.
محسن مرزوق وحافظ قائد السبسي
فهذا التسريب لم يكن منعزلا عن باقي التسريبات الأخرى التي كُشف عنها، مؤخرا، في تونس والتي استهدفت الرئيس الباجي قائد السبسي ونجله حافظ الذي تحالف مع حركة النهضة، وتتّهم أطراف مقربة من شق حافظ، جماعة محسن مرزوق بالوقوف وراء هذه التسريبات التي تأتي هذه التسريبات في وقت تستعدّ فيها الأحزاب التونسية لموعد الانتخابات المحلية المزمع اجراؤها في الـ 17 من ديسمبر المقبل.
ائتلاف مدني لمكافحة الفساد
وشهدت تونس، اليوم، التوقيع على ميثاق تأسيسي لائتلاف مدني لمكافحة الفساد (مستقل) يجمع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (حكومية) ب 28 جمعية ناشطة في هذا المجال ” لتفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الممضاة من طرف الحكومة التونسية في 6 ديسمبر 2016 ومحاربة هذه الظاهرة“.
وقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد
وينص الميثاق التأسيسي للائتلاف على ست بنود أساسية من بينها ” العمل وفق أهداف الثورة التونسية في القطع النهائي مع الظلم والحيف والفساد كما نص عليها دستور تونس الجديد الصادر في جانفي/كانون الثاني 2014 ” و” الانخراط في الإستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وخطة عملها“. وأكّد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تصريح للإعلاميين، أنّ “بارونات الفساد يريدون أن يسود نوع من الاعتقاد العام مفاده أن معركة الفساد لن ننتصر فيها وأننا لا نقدّم شيء لأن احباط العزائم يدخل في استراتيجيتهم”، حسب قوله، مشدّدا على أهمية دور المجتمع المدني في هذا الشأن.
وتخسر تونس، التي احتلت المرتبة 75 عالمياً من بين 176 دولة، وفق تقرير نشرته منظمة الشفافية الدولية حول مؤشر مدركات الفساد، لعام 2016، في يناير الماضي، سنوياً ملياري دينار (نحو 800 مليون دولار)، بسبب تفشي مظاهر الفساد وغياب آليات الحوكمة في الصفقات العمومية، حسب تقرير 2016 للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (دستورية مستقلة).