لاتشي الإشارات التي تطلقها الجهات الدولية والإقليمية المعنية بالشأن السوري بين الفينة والأخرى حول اللامركزية ودعم البنى المحلية الناشئة ابان الحرب السورية، إلا بتصورات متقاربة لعدد من الفاعلين الدوليين والإقليميين لصيغة الانطلاق صوب الحل في سوريا خارج صندوق المعضلات المزمنة (بقاء الأسد – الدستور – ترتيبات التفاوض –الإرهاب – وقف إطلاق النار ..إلخ).
لم تنتظر التسريبات الصحفية لمقترح روسي للدستور في سوريا وقتاً طويلاً قبل أن تُطرح مسودته على الوفد العسكري للمعارضة الحاضر في الأستانة ، حيث تحدثت هذه المسودة عن تقييد السلطة المركزية في دمشق لصالح صلاحيات واسعة للمناطق وفق إدارات محلية إضافة إلى بند خاص يراعي منح صلاحيات حكم ذاتي للكرد في مناطق نفوذهم، في حين أضافت تسريبات لاحقة من كواليس المطبخ الروسي التركي معطيات جديدة عن رغبة روسية وحماس تركي لإقامة مجالس محلية منتخبة في مناطق المعارضة (يمكن رد فكرة إقامة مجالس محلية منتخبة في مناطق المعارضة رغم وجود تجارب ناشئة إلى ضعف اطلاع الروس على الأقل على تفاصيل هذه التجربة)
ملامح خطة الإدارة الأمريكية الجديدة في سوريا وتركيزها على دعم البنى الإدارية الناشئة إبان الحرب -كخطوة مبكرة ضمن مسار يفضي أخيراً إلى الإطاحة بالأسد
تستطيع تدوير عجلة المصالح البينية للمناطق المحررة وتلك الخاضعة لسلطة النظام في دمشق، أما ماسربته وكالة الأسوشيتد بريس أخيراً حول ملامح خطة الإدارة الأمريكية الجديدة في سوريا وتركيزها على دعم البنى الإدارية الناشئة إبان الحرب -كخطوة مبكرة ضمن مسار يفضي أخيراً إلى الإطاحة بالأسد ضمن مقاربة تستوجب استدامة المنجزات المحققة من كسب المعركة ذات الأولوية على تنظيم داعش – فمن شأنه أن يكمل أجزاءاً كبيرة من الصورة المنقوصة لتصور الحل في سوريا.
أساسه التحرك بجدية أكبر في مسألة وقف إطلاق النار بعد أن يكتمل رسم حدود مناطق نفوذ تديرها إدارات محلية أكثر طواعية للفاعلين الدوليين والإقليميين (حيث يتكفل هؤلاء الفاعلون بمنحها ماتفتقر إليه من موارد وشرعية دولية الأمر الذي يمنحها القدرة الكافية لتدعيم وجودها المحلي والحصول على الحدود الدنيا للمشروعية المحلية ) في الوقت عينه يتم رسم خارطة التوافقات الدولية بعيداً عن سوريا ضمن اتفاق يترجم في دستور جديد يثبت الوقائع اللامركزية الراهنة.
إيران تتجه أكثر صوب خلق واقع ديمغرافي جديد في سوريا ومناطق نفوذ استيطانية إحلالية بعيداً عن التوجه نحو تمكين الواقع المحلي الناشئ ضمن أنماط حكم أو إدارة لامركزية
على الأرض وبصرف النظر عن إيران التي تتجه أكثر صوب خلق واقع ديمغرافي جديد في سوريا ومناطق نفوذ استيطانية إحلالية بعيداً عن التوجه نحو تمكين الواقع المحلي الناشئ ضمن ضمن أنماط حكم أو إدارة لامركزية، تدعم تركيا بحماس البنى المحلية الناشئة في مناطق درع الفرات وتعمل على تمكينها من النجاح في امتحان الخدمة والإدارة والتنمية وصولاً إلى تحقيق قدر أكبر من المشروعية المحلية، في الوقت الذي يزداد فيه رسوخ البنى الإدارية القائمة في مناطق سيطرة الاتحاد الديمقراطي ضمن الفضاءات التي يوفرها تحالفه مع الولايات المتحدة.
فيما يمكن تلمس توجهات غربية متسارعة نحو دعم اتجاه المجالس المحلية في مناطق المعارضة لتحقيق المزيد من الاستقلالية عن الأجسام العسكرية المتغولة في مقابل توفير حدود جيدة من الدعم ، أما روسيا فتحاول الحفاظ على المحتوى المحلي الجديد للمناطق الخارجة من عمليات التقليم الديمغرافي لتثبيت هذا الواقع ضمن الحدود التي يمكن أن يرسمها تواجد شرطة عسكرية روسية في عدد من هذه المناطق بالشكل الذي يسمح بعودة بعض مؤسسات الدولة ويحد من عودة النظام إليها (يشار هنا إلى بعض الضمانات التي قدمت لمن بقي من سكان منطقتي الزبداني وقدسيا بريف دمشق ودور روسي فيما بعد اتفاقي حلب و الوعر ).
في الوقت الذي يمكن فيه دعم البنى المحلية الناشئة في مناطق النظام والتي ضعف تدريجياً ارتباطها بالمركز لصالح قوى عسكرية محلية أو عابرة للنظام ، أما الخطة الأمريكية المشار إليها آنفاً فيمكن أن تترجم إلى مدى القبول بلامركزيات تساهم في الحفر تدريجياً حول سلطة الأسد على نمط استراتيجية اسقاط النظام العراقي السابق التي استُهلت بإدارات محلية أقرب إلى منظومات الحكم في شماله وجنوبه بعد تحرير الكويت وصولاً إلى إسقاط النظام في 2003.
من جهة أخرى يمكن إدراك التوجهات الدولية والإقليمية نحو اللامركزية في سوريا بدوافع تحكمها القناعة بفعالية منح دور أكبر للبنى المحلية في صناعة حل أكثر استدامة أو الرغبة في تصدير تجارب ناجحة في الإدارة اللامركزية ، ويمكن وفق ذلك أن يؤشر التوجه الروسي لدعم اللامركزية في سوريا إلى إدارك منطقي لحقيقة التركيبة السورية وتعقيداتها مشفوعاً بتطلعات الكرد الحالية لنمط معين من اللامركزية واحتمال اتضاح تطلعات مكونات طائفية أخرى (الدروز والعلويون) نحو اللامركزية في حال استمر التداعي المطرد لمركزية دمشق، إذا ماقررت روسيا المضي قدماً في رسم خطوط الحل في سوريا وفق رؤيتها وبما يمنح هذا الحل فرص الديمومة والاستمرار، وهو أيضاً يلامس ميلاً تركياً للدفع بهذه الرؤية كون أن التعاطي العثماني القديم كان مبنياً على مرونة لامركزية على مستوى كل الولايات تجلت أكثر ماتجلت في النطاق الشامي أحد أهم الأمصار العثمانية وأيضاً في رغبة تركيا المستمرة في تصدير نجاحاتها في مجالات اللامركزية والإدارة المحلية.
ربما يدعمها ماذكرناه من فرص حقيقية ناجمة عن الحالة التي أوجدها انحسار تراجع مركزية النظام بصورة عامة ، الأمر الذي ربما أدركه الروس بخطوطه العامة وآثاره الواضحة المتجسدة بالشروخ المجتمعية التي تسببت بها حالة الحرب المستمرة في سوريا والتي ماكانت لتستمر وتتنامى لولا وجود خلل بنيوي أصيل ومزمن في شكل الدولة في سوريا ، في حين تفاوت تجاوب الدساتير السورية الخمسة (1920-1930-1950-1973-2011)مع مسألة شكل الدولة وأيضاً مع الحقائق المجتمعية القائمة على تباينات تحكمها الجغرافيا والثقافة وحتى الاقتصاد.
المعطيات التاريخية والحالية تشير إلى أن الاستجابة الواقعية لمطلب اللامركزية كفهم حقيقي لطبيعة العلاقات البينية للمجتمعات السورية لم تأتي غالباً من الحكومات السورية القائمة
إذا نحينا جانباً مايقال كثيراً في هذه المناسبات عن دفع روسي أو أمريكي أو إقليمي باتجاه التقسيم باعتبار أن الحديث الروسي والأمريكي يدور دائماً حول التركيز أكثر على وحدة سوريا ولاعتبارات التخوفات الإقليمية من انتقال عدوى الأحلام الإنفصالية إليها، وإذا نحينا أيضاً الحديث المكرر دوماً عن دور فرنسي في خلق الظروف المواتية قديماً على المستوى المجتمعي من خلال تشجيعها للحياة الطائفية مطلع العشرينيات من القرن الماضي إبان انتدابها على سوريا وصولاً إلى تقسيم المقسم الوليد من عهد سايكسبيكو إلى خمس دويلات مستقلة عام 1920 (دولة حلب – دولة لبنان الكبير – دولة دمشق – دولة جبل العلويين – دولة جبل الدروز).
باعتبار أن سلطة الانتداب عادت وانقلبت على التقسيم لصالح حالة إتحادية لامركزية رسمتها في سوريا الوليدة وسمتها الاتحاد السوري ضمت دولتي دمشق وحلب وجبل العلويين (انفصلت الأخيرة وعادت دولة مستقلة حتى عام 1930 لتنتظم ضمن العقد السوري من جديد ) لتسلم فيما بعد وبصورة تدريجية بدءاً من العام 1924 وحتى توقيع معاهدة الاستقلال عام 1936 ،قياد الدول الخمسة إلى مركزية دمشق (حيث ضاقت ذرعاً بعبء هذه الأقاليم وتفاوتاتها ورغبت بإعادة الحمل إلى المركز)، فإن المعطيات التاريخية والحالية تشير إلى أن الاستجابة الواقعية لمطلب اللامركزية كفهم حقيقي لطبيعة العلاقات البينية للمجتمعات السورية لم تأتي غالباً من الحكومات السورية القائمة.
بل أدركتها الدول التي انتُدبت على سوريا رسمياً أو ضمنياً ليس حرصاً على وحدة سوريا بقدر ماهو تجاوب غير ناجح مع استحقاقات ديمومة مشاريعها أو رغبة منها في تلبية مطالب مجتمعية فئوية في مقابل تثبيت مكتسبات استراتيجية في البلاد وهو في كل حال منبثق من إعادة غير حميدة لهندسة الخارطة السورية بصورة لاتتماشى مع الامتدادات الطبيعية للبيئات السورية وتداخلاتها -والتي نجحت اللامركزية العثمانية إلى حد كبير في التجاوب معها – بقصد تظهير الأقليات وتفتيت الأكثرية ضمن الكيانات الناشئة.
لا تُعنى هذه القوى بحال بضرورة انتظام هذه القطاعات الوليدة ضمن عقد وطني جامع، لكن مايهم لفت النظر إليه هنا هو البناء على هذه التوجهات وتوظيفها في تعزيز البنى المحلية الناشئة على امتداد الساحة السورية
في النهاية يمكن أن ندرك بصورة أو بأخرى أن توجهات القوى الكبرى على نحو الخصوص لتثبيت الخرائط الإدارية الناشئة بفعل حالة الحرب ، وتعزيز مكتسبات كل الأطراف ضمن كل قطاع من هذه القطاعات الوليدة، يأتي في سبيل منح التوجهات التي تدفع بها كل من هذه القوى دفعا مجتمعياً تحتياً (من الأدنى إلى الأعلى ) من قبل كل الأطراف، ولا تُعنى هذه القوى بحال بضرورة انتظام هذه القطاعات الوليدة ضمن عقد وطني جامع، لكن مايهم لفت النظر إليه هنا هو البناء على هذه التوجهات وتوظيفها في تعزيز البنى المحلية الناشئة على امتداد الساحة السورية ، والعمل على جعلها أكثر استقلالاً عن تأثيرات القوى العسكرية والبحث عن مقاربات عابرة للثورة والنظام بينها، بمايسهم بإكمال صورة أكثر اتساقاً عن المشهد الإداري في سوريا القادمة يتميز بالمرونة والواقعية والاستدامة والقبولية.
سنتناول في المقال القادم عرضاً موجزاً عن الأسس الدستورية للامركزية في سوريا من خلال المرور على الدساتير السورية الأساسية التي تم ارساؤها منذ قيام الكيان السوري، باعتبار أن الدستور يمثل بشكل أو بآخر وثيقة العقد الاجتماعي الذي توافقت عليه المجتمعات السورية.