في زمنٍ يعيش العالم فيه على وقع مبتكرات التكنولوجيا المتطورة، التي قربت البعيد ووضحت المبهم وهونت العسير، لم يعد ممكنًا للرياضة عمومًا وكرة القدم خصوصًا، أن تبقى بمعزلٍ عن استخدام تلك التقنيات، في سبيل الارتقاء بها بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ولا سيما في مجال التحكيم، الذي لطالما أثار الجدل ببعض القرارات المصيرية الخاطئة، التي كان يمكن تفاديها عبر الاستعانة بوسائل التكنولوجيا.
فهل آن أوان اعتماد التكنولوجيا الحديثة في تحكيم كرة القدم؟ وما أبرز الوسائل التقنية المتاحة لذلك؟ وما العوائق التي حالت دون استخدامها حتى الآن؟ وما مدى نجاح الوسائل التي تم اعتمادها فعلًا كتقنية خط المرمى؟ وكيف تمت تجربة تقنية الإعادة بالفيديو مؤخرًا؟ وهل يمكن البناء عليها وتعميمها مستقبلًا؟
جميع تلك التساؤلات وغيرها، ستجدون الإجابة عنها في سياق النقاش التالي، المخصص للحديث عن استخدام التكنولوجيا في تحكيم كرة القدم:
هدف إنجلترا الشهير خلال نهائي كأس العالم عام 1966
بدايةً، دعونا نعود للوراء 51 عامًا، وتحديدًا إلى صيف عام 1966، حيث استضاف ملعب ويمبلي بلندن نهائي بطولة كأس العالم بين منتخبي إنجلترا وألمانيا، الذي كان شاهدًا على الخطأ التحكيمي الشهير الذي يعتبر ضمن الأسوأ والأكثر تأثيرًا في تاريخ الكرة، حين احتسب الحكم هدفًا للمنتخب الإنجليزي من كرةٍ لم تتجاوز خط المرمى، مما ساهم في تتويج الإنجليز بلقبهم العالمي الوحيد وحرمان الألمان منه.
تكررت أخطاء الحكام في احتساب الأهداف مرارًا دون أن يجد القائمون لها حلًا ناجعًا
ذلك الخطأ بالذات تكرر مرارًا على مدى الأحقاب التالية، دون أن يتمكن القائمون على التحكيم الكروي من إيجاد حلٍ ناجعٍ له، رغم اعتماد بعض الحلول البسيطة التي أثبتت ضعف جدواها، كتكليف حكم التماس بمراقبة خط المرمى، أو توظيف حكمٍ مساعدٍ إضافي خلف المرمى.
تقنية عين الصقر المستعملة في لعبة التنس
وفي مطلع الألفية الجديدة، ومع تطور تقنيات الفيديو والتصوير التليفزيوني بالذات، ولجوء بعض الألعاب الرياضية الأخرى كالتنس والكريكيت إليها في فض النزاعات التحكيمية، ظهرت بعض الأصوات المنادية بنقل تلك التقنيات إلى عالم كرة القدم، ولكن تلك الاقتراحات بقيت طي الأدراج، ولم تجر مناقشتها بالشكل المناسب بدعوى كلفتها العالية، التي لا تناسب واقع اللعبة في البلدان الفقيرة.
لجأت بعض الألعاب الرياضية الأخرى كالتنس والكريكيت إلى تقنيات الفيديو لفض النزاعات التحكيمية
ولكن تطور مستوى اللعبة خلال السنوات الماضية، واجتذابها لعددٍ من رؤوس الأموال الضخمة، التي حولت معظم الأندية الكبرى وحتى اللاعبين إلى مشاريع اقتصاديةٍ استثمارية، جعل تقبل وجود مثل تلك الأخطاء المؤثرة في عالمٍ تحكمه سلطة المال أمرًا غير واردٍ على الإطلاق، مما حدا بمسؤولي اللعبة للتحرك بجديةٍ هذه المرة، سعيًا لمواكبة العصر من جهة، ورغبةً في إرضاء أصحاب النفوذ الممتعضين من جهةٍ أخرى.
تقنية خط المرمى استخدمت خلال كأس العالم عام 2014 بالبرازيل
أول الغيث كان باعتماد تقنية خط المرمى “Goal-Line Technology”، والتي أقرها مجلس الاتحاد الدولي “IFAB” رسميًا في شهر يوليو من عام 2012، حيث استُخدمت للمرة الأولى خلال بطولة كأس العالم للأندية التي استضافتها اليابان في ديسمبر من عام 2012، قبل أن يتم اعتمادها رسميًا خلال بطولة كأس العالم في البرازيل عام 2014، كما تم اعتماد التقنية من قبل الاتحاد الأوروبي للعبة مطلع عام 2016، حيث استُخدمت خلال نهائي دوري أبطال أوروبا “Champions League” العام الماضي، ثم خلال بطولة أمم أوروبا في فرنسا الصيف الماضي، قبل أن تُعتمد خلال جميع مباريات النسخة الحالية من دوري أبطال أوروبا.
أقر الاتحاد الدولي لكرة القدم اعتماد تقنية خط المرمى رسميًا في يوليو 2012
وعلى صعيد الدوريات الأوروبية الكبرى، كان الدوري الإنجليزي الممتاز “Premier League” سباقًا باستخدام تقنية خط المرمى، حيث اعتمدها رعاته رسميًا منذ مطلع موسم 2013-2014، وحذت حذوهم ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، حيث اعتُمدت تلك التقنية في بطولاتهم الرسمية اعتبارًا من موسم 2015-2016، ليبقى الدوري الإسباني الوحيد بين الدوريات الـ5 الكبرى، الذي لم تطبق فيه تقنية خط المرمى حتى الآن، مع توقعاتٍ بتطبيقها فيه اعتبارًا من الموسم القادم.
رسمٌ توضيحيٌ لتقنية خط المرمى Goal-Line Technology
وتقوم تلك التقنية التي تشبه في عملها تقنية كاميرا عين الصقر “Hawk Eye” المستخدمة في لعبة التنس، على تركيب 7 كاميراتٍ عالية الدقة حول كل مرمى، لترصد عبور الكرة خط المرمى من جميع الزوايا، حتى ولو حدث ذلك في الهواء، وترسل إشارةً لاسلكيةً تلتقطها ساعةٌ يرتديها حكم المباراة الرئيسي، حيث تظهر على شاشة الساعة رسالةٌ تؤكد عبور الكرة خط المرمى أو تنفيه، خلال ثانيةٍ واحدةٍ فقط من وقوع الحدث.
تقوم تقنية خط المرمى على استخدام كاميرات عالية الدقة ترصد عبور الكرة خط المرمى وترسل إشارةً لاسلكيةً تلتقطها ساعة الحكم
ويُعتبر نوع الكاميرات المستخدم في هذه التقنية باهظ الثمن، نظرًا لكونه مزودًا بأحدث تكنولوجيات معالجة الرؤية المتطورة بدقةٍ متناهية، حيث صرح متحدثٌ باسم رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز، أن استعمال تقنية خط المرمى يكلف نحو 150 ألف جنيه إسترليني للملعب الواحد، أي ما مجموعه 3 ملايين جنيه إسترليني لملاعب الأندية الـ20، وهو وإن كان رقمًا مقدورًا عليه في بطولاتٍ تدر مئات الملايين كالدوريات الأوروبية الـ5 الكبرى، إلا أن معظم البطولات الوطنية الأخرى تجده مبلغًا هائلًا لا يتناسب مع مداخيلها المتواضعة نسبيًا، مما يقف حائلًا دون انتشار تلك التقنية في معظم بلدان العالم.
الأرجنتيني ميسي يجادل الحكم في أثناء مباراة منتخبه مع تشيلي
وبعيدًا عن تقنية خط المرمى، يُعد اللجوء لاستخدام الفيديو بعد المباريات لتصحيح بعض قرارات الحكام، أمرًا شائعًا في معظم البطولات بغض النظر عن مستواها الاقتصادي، وذلك بسبب توفره وسهولة استخدامه، ويُستفاد منه على الخصوص في توقيع العقوبات على اللاعبين الذين يثبت تورطهم بأخطاءٍ لم يلحظها الحكام، كما حصل مؤخرًا مع نجم منتخب الأرجنتين ليو ميسي، الذي يواجه عقوبة الإيقاف لـ4 مباريات، بعدما أظهرت إعادات الفيديو تلفظه بعباراتٍ مسيئةٍ للحكم بعيدًا عن مسامعه، خلال مباراة منتخبه أمام تشيلي في شهر مارس الماضي ضمن في تصفيات كأس العالم.
يُعد اللجوء لاستخدام الفيديو بعد المباريات لتصحيح بعض قرارات الحكام أمرًا شائعًا في معظم البطولات
كما يُستخدم الفيديو لتصحيح بعض قرارات الحكام المتعلقة بالإيقاف نتيجة البطاقات الملونة، فتُلغى البطاقات من سجل اللاعب حين تثبت براءته من ارتكاب المخالفة بعد الإعادة بالفيديو، مما يطوي عقوبة الإيقاف في حقه.
رئيس منظمة الفيفا الحالي جياني إنفانتينو
أثار موضوع استخدام الفيديو خلال المباريات جدلًا واسعًا، بين رافضٍ له بدعوى كلفته العالية فضلًا عن تعطيله المباريات وقتله متعتها، ومؤيدٍ له يرى فيه حلًا لمعضلة قرارات الحكام الخاطئة.
وقد بقيت وجهة النظر الرافضة التي تبناها رئيسا منظمتي الفيفا واليويفا السابقين جوزيف بلاتر وميشال بلاتيني، هي السائدة والمتحكمة باتخاذ القرار حتى العام الماضي، الذي شهد إبعادهما عن سدة السلطة الرياضية بعد ثبوت تورطهما في قضايا رشوةٍ وفساد، لتطفو على السطح مجددًا وجهة النظر الأخرى، والتي تبناها بوضوحٍ رئيس منظمة الفيفا الحالي جياني إنفانتينو، الذي أعلن في الـ26 من أبريل الماضي تأييده الكامل لها، وتأكيده على اعتمادها خلال بطولة كأس العالم القادمة في روسيا عام 2018، موضحًا بأنه من غير المقبول بأن يعلم الجميع في منازلهم القرار الصحيح فيما يجهله حكم المباراة!
حكم الفيديو المساعد
وتقضي تقنية استخدام الفيديو ضمن المباريات، بتزويد حكم المباراة بسماعاتٍ لاسلكية، تمكنه من التواصل مع حكم الفيديو المساعد، الذي يجلس أمام شاشاتٍ مزودةٍ بتقنيات تصويرٍ وتقريبٍ وإعادةٍ عالية الدقة، تخوله معرفة القرار التحكيمي الصحيح، وإعلام حكم الملعب خلال ثوانٍ معدودة.
ويتم اللجوء إلى تلك التقنية في 4 حالاتٍ نبينها فيما يلي:
- عند تسجيل الأهداف
- عند إعلان ركلات الجزاء
- عند ظهور البطاقات الحمراء
- عند وقوع الحكم في خطأ يتعلق بهوية اللاعب الذي تم إنذاره.
مباراة فرنسا وإسبانيا الودية التي شهدت استخدام تقنية الفيديو
وقد تمت تجربة تقنية الإعادة بالفيديو مؤخرًا خلال مباراة منتخبي فرنسا وإسبانيا الودية، التي استضافها ملعب فرنسا الوطني بباريس في 28 من مارس الماضي، حيث أثبتت التجربة نجاحًا منقطع النظير، إذ ساهمت في تحديد نتيجة المباراة بشكلٍ واضح، بعدما تم إلغاء هدف لفرنسا إثر ثبوت وجود اللاعب في موقف تسللٍ بعد اللجوء للتقنية، ومن ثم احتُسب هدفٌ لمنتخب إسبانيا رغم رفع الحكم لراية التسلل، بعد أن أظهرت التقنية صحة موقف اللاعب، علمًا بأن اتخاذ القرارين الحاسمين لم يستغرق أكثر من 25 ثانيةٍ لكلٍ منهما، مما ينفي تهمة تعطيل اللعب عن تلك التقنية، والتي التصقت بها نتيجة تجربةٍ سابقةٍ جرت خلال كأس العالم للأندية في ديسمبر 2016، حيث استغرق الحكام وقتًا أطول من اللازم لاتخاذ القرارات.
الحكم الإيطالي السابق بيير لويجي كولينا
وإثر نجاح تلك التجربة، واعتماد مجلس الاتحاد الدولي للعبة تقنية الفيديو في جميع بطولاته المقبلة، أصبح التساؤل يدور عن دور حكام الكرة في ظل الاعتماد على وسائل التكنولوجيا المتطورة، وعن ذلك يتحدث رئيس لجنة حكام اليويفا، الحكم الإيطالي السابق بيير لويجي كولينا، قائلًا:
“لو أنني أمارس مهنة التحكيم حاليًا لكنت شعرت ببعض الإحباط نتيجة استخدام التكنولوجيا، لكونها ستحد من مهاراتي وتميزي كحكمٍ بعد أن أصبح الاعتماد على الكاميرات الدقيقة، على كل حالٍ إنها خطوة للأمام، فحكام الكرة كانوا كالأطباء عام 1800، لا تنقصهم الكفاءات بقدر ما كانت تنقصهم التكنولوجيا المناسبة”.