فتحت المعركة الإعلامية التي شنتها وسائل إعلام سعودية وإماراتية على دولة قطر في وقت متأخر من يوم الثلاثاء الماضي ملف الخلافات الخليجية – الخليجية بعيد نسب تصريحات هجومية إلى الأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني وردت على وكالة الأنباء القطرية “قنا”، والتي أكد الجانب القطري اختراقها وتوعد بإجراء تحقيق في ذلك، إلا أن الإعلام السعودي والإماراتي آثر الاستمرار في الحملة على قطر وكأن نفيًا لم يصدر.
تطورت هذه الأحداث إلى حجب السعودية والإمارات عدة وسائل إعلام ومنشورات قطرية على رأسها شبكة قنوات الجزيرة، تلتهما مصر والبحرين في أمر حجب عدة مواقع إلكترونية بدعوى دعمها “الإرهاب”، وهو الأمر الذي يُشير إلى تصاعد وتيرة الأزمة بصورة غير مسبوقة عن ذي قبل.
وبعيدًا عن المشهد الحالي في الخليج المعقد بدوره، والمتأثر بعدة متغيرات إقليمية ودولية، ناهيك عن الترتيبات الداخلية في الأسر الحاكمة، فإن لهذا الخلاف الخليجي الحالي جذورًا تاريخية لا يمكن تجاهلها بأي حال.
إذ يذكر التاريخ أن كلاً من السعودية والإمارات حاولت احتواء إمارة قطر في مهدها قبيل التأسيس على الحدود الحالية، ثم دخلت هذه الدول في صراعات حدودية بعد ذلك مع قطر بعد التأسيس، وسرعان ما تحول الأمر إلى صراع خليجي مكتوم بعد إرساء عدة تحالفات خليجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
صراع منذ الولادة
عندما قرر الاحتلال البريطاني الرحيل عن شبه الجزيرة العربية أو بمعنى جغرافي آخر الخليج العربي في عام 1968 نتيجة ضغوط داخل البرلمان بخصوص الميزانية، بدأت القبائل العربية آنذاك محاولة تشكيل تحالفات لكسب حدود جديدة، والتي ستنتج عن الفراغ البريطاني.
سعى راشد آل مكتوم شيخ إمارة دبي، ومعه زايد آل نهيان شيخ إمارة أبو ظبي إلى إقامة تحالف واسع من القبائل في هذه المنطقة لتوحيدها في دولة واحدة قبيل رحيل بريطانيا، ضمت هذه المحاولات الإمارات السبع التي تشكل دولة الإمارات العربية المتحدة الحالية (دبي – أبو ظبي – عجمان – رأس الخيمة – الفجيرة – الشارقة – أم القيوين) بالإضافة إلى (قطر – البحرين)، ولكن الأخيرتان انفصلتا عن هذا الاتحاد، وأعلنت كل منهما دولة مستقلة.
يذكر التاريخ أن كلاً من السعودية والإمارات حاولت احتواء إمارة قطر في مهدها قبيل التأسيس على الحدود الحالية
قبيل ذلك كانت السعودية تطالب بضم قطر إليها باعتبارها جزء من إقليم الأحساء، واستمرت السعودية في هذه المطالب، حتى تدخلت بريطانيا لكبح جماح السعوديين عن قطر، لتعترف السعودية بحدود قطر، فيما بقي مناطق متنازع عليها بين الطرفين، إلى أن وقعت السعودية وقطر في العام 1965 اتفاقية ترسيم للحدود، لكنها لم تقض على المشكلة بعد، لا سيما بسبب حقوق التنقيب عن النفط.
حاولت السعودية محاصرة قطر بعد ذلك في صفقة قامت بموجبها المملكة بالتنازل عن أجزاء من “واحة البريمي” للإمارات العربية المتحدة، وذلك في مقابل الشريط الساحلي المعروف بـ”خور العديد” والذي أصبح حاجزًا حدوديًا طبيعيًا بين قطر والإمارات، وبذلك أصبح على القطريين أن يمروا بأراض سعودية للوصول إلى الإمارات بدلًا من أن تكون هناك حدود مشتركة ومباشرة بين قطر والإمارات، في تدخل سعودي واضح لتغيير الحدود القطرية.
لم يكن الخلاف بين قطر وجيرانها السعوديين والإماراتيين فقط، بل طال أيضًا الجارة البحرين، وتحديدًا النزاع على منطقة الزبارة التي كانت تابعة للبحرين، والواقعة ضمن شبه الجزيرة القطرية في الناحية الشمالية الغربية منها، علمًا بأن الخلاف مع البحرين يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر إثر الحرب القطرية البحرينية.
وفي العام 1939 قررت بريطانيا القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة، منح أرخبيل جزر حوار إلى البحرين، التي حولتها إلى موقع سياحي ولكن قطر لم تعترف بالقرار البريطاني في ذلك الوقت.
ووفقًا للرواية البحرينية، فإن قطر لم تكتف بانتزاع الزبارة المقر الأصلي لآل خليفة الأسرة الحاكمة في البحرين، بل سعت للسيطرة على مجموعة جزر حوار وفشت الديبل وجزر أخرى صغيرة تابعة للبحرين تشكل في مجموعها ثلث مساحة البحرين.
ولكن مرة أخرى تتدخل بريطانيا لتسوية نزاع حدود خليجي آخر كاد أن يشتعل مرة أخرى في العام 1986 إذ كاد أن يتطور إلى نزاع مسلح، لولا تدخل السعودية لرأب الصدع بين البلدين وإحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية.
كانت السعودية تطالب بضم قطر إليها باعتبارها جزء من إقليم الأحساء، واستمرت السعودية في هذه المطالب، حتى تدخلت بريطانيا لكبح جماح السعوديين عن قطر
لتبقى النار تحت الرماد على حدود قطر من جهة السعودية كبرى الممالك الخليجية، والإمارات والبحرين، وكتأريخ لهذه الحقبة يقول سلطان العامر في “دراسته السلام الضائع: الجذور التاريخية للصراعات الإقليمية في الخليج العربي”: “مثل الانسحاب البريطاني لحظة ميلاد بالنسبة لهذه الدول، حيث وجدت نفسها بكثافتها السكانية المتواضعة وثروتها النفطية الهائلة بين ثلاثة دول إقليمية طموحة ومتصارعة، اتحدت سبع إمارات فيما بينها مشكلة الإمارات العربيّة المتحدة التي بدأت حياتها باحتلال شاه إيران للجزر الثلاثة، في حين استقلت كل من قطر والبحرين كدولتين مستقلتين”.
التحول من صراعات الجغرافيا إلى السياسة
حاولت دول الخليج بعد ذلك تجاوز هذه الخلافات الحدودية ظاهريًا بمساعدة دول إقليمية كمصر التي تدخلت في التهدئة من وطأة الخلافات السعودية القطرية الحدودية، وقوى دولية كالولايات المتحدة وبريطانيا عن طريق وجود القواعد العسكرية التي تعمل على مسألة توازن الرعب والقوى.
وفي مجلس التعاون الخليجي 1992 وقعت الدول الأعضاء على بيان أبو ظبي والذي كان في الحقيقة بيان نوايا يؤكد على ضرورة حل النزاعات الحدودية بالطرق السلمية وعدم شرعية السيطرة بالقوة على المناطق.
إلى أن تقرر تحول هذه النزاعات الحدودية الجغرافية إلى نزاعات سياسية، وقبل ذلك وقعت معركة عسكرية قصيرة، بين دولة قطر والمملكة العربية السعودية، في 30 من سبتمبر 1992، انتهت المعركة بمقتل ضابط سعودي وجنديين قطريين، وسيطرة السعودية على منطقة تسمى “الخفوس”.
أرسلت السعودية صبيحة 30 من سبتمبر/أيلول 1992 كتيبة عسكرية للسيطرة على مركز الخفوس الحدودي، على خلفية تجمع قبلي في المناطق المتنازع عليها بين البلدين، حيث يتوزع أفراد قبيلة مُرّة في هذه المناطق.
وبعد إحباط الانقلاب العسكري في قطر عام 1995، كشفت الحكومة القطرية عن تفاصيل تتعلق بتورّط السعودية في الانقلاب بالتعاون مع بعض أفراد القبيلة، وأدى إلى إسقاط جنسية المئات من قبيلة آل مرة وتهجيرهم إلى السعودية.
حاولت قطر التحرر من القيود الخليجية المفروضة عليها والتي نشأت على خلفية الاتفاقية الأمنية الخليجية، والتي يراد منها بوضوح الاتفاق على مسار يكفل السير ضمن إطار سياسة موحدة للجميع، أي بمعنى آخر، إعادة إنتاج الوصاية السعودية داخل إطار مجلس التعاون الخليجي
وبحسب الرواية القطرية، فإن السعودية عمدت إلى استغلال بعض أفراد القبيلة في عملية الانقلاب عام 1995 ضد الحكومة القطرية الحالية بالتعاون مع الأمير السابق خليفة آل ثاني، وكانت الإمارات قد منحت اللجوء للأمير خليفة بن حمد آل ثاني في أحد الأحياء في إمارة أبوظبي.
وعلى إثر ذلك اتهمت قطر الإمارات، إلى جانب السعودية والبحرين بالتآمر ضد الأمير الجديد حمد بن خليفة آل ثاني، في حين نفت هذه الدول جميع التهم، وأجريت على إثر ذلك عدة مئات من الاعتقالات، وفي فبراير 1996، تمت تعبئة الحرس الأميري القطري.
كذلك في ديسمبر من العام 1996 اختارت القمة الخليجية التي عقدت في مسقط الشيخ جميل الحجيلان أمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي مقابل مرشح قطر في ذلك الحين عبد الرحمن العطية – الأمين العام السابق – فاحتج أمير قطر حمد بن خليفة على ذلك وقاطع الجلسة الختامية لقمة مسقط الخليجية في ذلك الوقت.
مثل الانسحاب البريطاني لحظة ميلاد بالنسبة لهذه الدول، حيث وجدت نفسها بكثافتها السكانية المتواضعة وثروتها النفطية الهائلة بين ثلاثة دول إقليمية طموحة ومتصارعة
ومما زاد في الأزمة المحاولة الانقلابية الفاشلة على الأمير حمد بن خليفة التي رتبها والده الأمير السابق الشيخ خليفة سعيًا للعودة للحكم بعد انقلاب ابنه عليه، فرغم أن الأمير الوالد – الحاكم الأسبق – رتب المحاولة وهو موجود في أبوظبي واستعان بقطريين من أتباعه كانوا موجودين في أبوظبي وآخرين داخل قطر، إلا أن الدوحة اعتبرت أن لبعض الأطراف السعودية يدًا في هذه المحاولة، ومن هنا بدأت الأزمة الحقيقية التي شهدت الكثير من الإشكاليات التي كانت الحرب الإعلامية أبرز إرهاصاتها.
ففي العام 2002 تطرق برنامج تلفزيوني بثته قناة الجزيرة العام واستضافت فيه القناة أشخاصًا تعرضوا لمؤسس المملكة الراحل الملك عبد العزيز، وأدىّ هذا البرنامج لسحب السعودية سفيرها صالح الطعيمي من الدوحة دون إعلان.
كذلك في مارس 2014 قررت السعودية والإمارات والبحرين سحب سفرائهم من قطر، على خلفية اختلاف في وجهات النظر إبان أحداث إقليمية أبرزها الانقلاب العسكري في مصر.
وفي هذه الأحداث وجهت اتهامات مباشرة لقطر نقلاً عن مصادر خليجية نقلت عنها جريدة الأخبار اللبنانية قولها إن الاتهامات كانت تهديد أمن السعودية ومصر بدعم “الإخوان”، وأن قطر تحوّلت إلى مأوى لكل من يريد القيام بأعمال تضر بالاستقرار في مصر ودول الخليج، إضافة إلى اتهام وزير الخارجية السعودي لقطر بدعم الحوثيين في اليمن.
وكانت السعودية على وشك إعلان قائمة تدابير عقابية ضد قطر في حال عدم التزامها بالمطالب السعودية، ومن بينها: سحب السفراء، إغلاق الحدود البرية، منع الطائرات القطرية من استخدام المجال الجوي السعودي، إلغاء عضوية قطر من مجلس التعاون الخليجي ومن الجامعة العربية بالاتفاق مع مصر.
على خلفية هذه التكتلات التي تزعمتها السعودية حاولت قطر تاريخيًا زرع مخالب لها في وسط الإقليم الخليجي الذي تشعر بالتآمر من جهته
مصادر سياسية مقرّبة من السعودية حمّلت أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مسؤولية ما جرى، بسبب وقوفه إلى جانب الإخوان، حتى بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، فيما التزمت الدوحة الصمت حيال التصعيد الإعلامي السعودي الذي سبق قرار سحب السفراء.
وكان أمير الكويت قد طلب من الرياض تأجيل قرار تنفيذ التدابير العقابية إلى ما بعد قيامه بوساطة لتسوية الخلاف، ولم يشأ القطريون الوصول بالخلاف إلى نقطة الانفجار، وفي الوقت نفسه عدم قبول منطق الإملاءات، وإلزام الدوحة بما ينبغي أن تكون عليه سياستها الخارجية وعلاقاتها مع الدول الأخرى ومواقفها من القضايا السياسية الإقليمية والعربية والدولية.
وهذا ما حاول البيان الناعم الصادر عن مجلس الوزراء القطري القيام به عبر وضع الخلاف في إطاره المحدد، قال: “لا علاقة للخطوة التي أقدم عليها الأشقاء في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف في المواقف بشأن قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون”.
قطر تحاول أن تزرع المخالب في مواجهة هذه التكتلات
على خلفية هذه التكتلات التي تزعمتها السعودية حاولت قطر تاريخيًا زرع مخالب لها في وسط الإقليم الخليجي الذي تشعر بالتآمر من جهته، فأنشأت جهازًا إعلاميًا قويًا، ووطدت علاقاتها الدولية بالقوى الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
كما بدأ القطريون في صناعة صورة جديدة للإمارة في الغرب وفي الإقليم عن طريق حملات العلاقات العامة، والبدء في تشكيل سياسة قطرية إقليمية مستقلة إلى حد كبير عن المحور السعودي، ومن هنا بدأت حدة الخلافات التاريخية وفي مقدمتها الحدودية الجغرافية تختفي رويدًا رويدًا، وباتت قطر تشكل قلقًا في مجلس التعاون الخليجي بسياساتها الجديدة، التي اعتمدت فيها على التواصل مع منظمات وتجمعات عابرة للحدود لا سيما من الجماعات الإسلامية ذات الثقل النسبي، وكذلك عن طريق لعب أدور محورية في وساطات إقليمية كقضايا دارفور والصومال وغيرها.
وبذلك حاولت قطر التحرر من القيود الخليجية المفروضة عليها والتي نشأت على خلفية الاتفاقية الأمنية الخليجية، والتي يراد منها بوضوح الاتفاق على مسار يكفل السير ضمن إطار سياسة موحدة للجميع، أي بمعنى آخر، إعادة إنتاج الوصاية السعودية داخل إطار مجلس التعاون الخليجي، وهو بالدقة المحور الذي يدور حوله الخلاف بين قطر والسعودية على وجه الخصوص.
في حين يفسر البعض الهجمة الحالية الشرسة على الجانب القطري، بأنها محاولة لتقليم الأظافر القطرية التي نمت خلال السنوات الماضية، إذ يتملك السعوديون والإماراتيون شعورًا بأن قطر تجاوزت في تأثيرها حجمها الطبيعي والجغرافي، وهو المنطق الاستعلائي المسيطر الآن فيما يبدو، والذي يرى محللون أنه سيكون له ما بعده ولن يقتصر على الجانب الإعلامي فقط، في استدعاء لجذوة الخلافات التاريخية لتنفيذ أجندة الحاضر.
بدأ القطريون في صناعة صورة جديدة للإمارة في الغرب وفي الإقليم عن طريق حملات العلاقات العامة، والبدء في تشكيل سياسة قطرية إقليمية مستقلة إلى حد كبير عن المحور السعودي
وفيما يبدو أن ثمة اتفاق إقليمي برعاية جهة دولية تم لتحجيم قطر وتقليص نفوذها الإقليمي إلى أقل درجة ممكنة، وفي ذلك تمكين للرؤية التاريخية لقطر التي تراها مصدر قلق على الإجماع الخليجي الذي تقوده السعودية، ويرون في سياساتها الداعمة للثورات العربية ولحركات المقاومة خروجًا عن التقاليد المعروفة لدى أنظمة الحكم في دول الخليج.
وبات هذا الأمر مصدر أزمات خليجية متتالية بسبب ممارسات لدولة جاوزت في وجهة نظرهم ثقلها وحجمها الطبيعي، فضلًا عن السياسة الإعلامية المتحررة لقناة الجزيرة، واستضافة الدوحة لعدد من الشخصيات المعروفة بانتماءتها لحركات إسلامية قرر الخليجيون ذبحها.