لم يبق أمام مسلحي تنظيم “داعش” سوى المقاومة حتى النهاية بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي على مناطق هامة جنوب المدينة بينها الجسر الجديد، وكسرة شيخ الجمعة، وكسرة فرج، ومعسكر الطلائع بالإضافة إلى منطقة المقص حنوب الرقة، لتطبق بهذا الحصار على مسلحي التنظيم بالكامل، وإغلاق الباب أمام أي انسحاب محتمل لمسلحي التنظيم إلا في حال حدوث صفقة يتيح لهم ذلك.
يوجد احتمال لانسحاب مسلحي “داعش” كما حصل في مدينة الطبقة في الرقة، وهو سيناريو مطروح قد يتيح لهم الانسحاب إلى مناطق البادية السورية عبر اتفاق مع قوات سوريا الديمقرطية، إلا أن مراقبون يقللون من احتمال حدوث هذا بسبب قصف قوات التحالف الدولي لأرتال التنظيم المنسحبة كما حدث في الطبقة بعد انسحابهم منها، وهو ما سيدفع التنظيم لاتباع حرب شوارع قد يطول أمدها ويكون المدنيين هم الضحية الأكبر في هذه المعركة.
التصعيد الأخير بين موسكو وواشنطن هو أمر طبيعي ويعود إلى تسابق البلدين من خلال حلفاءهما على الأرض لتحرير الرقة من داعش
في الأثناء ومع اقتراب حسم المعركة، تصاعدت حدة الخلافات الأمريكية الروسية على الأرض، وتوقعات بحصول حالات صدام بين القوات المدعومة من واشنطن وقوات النظام السوري المدعومة من إيران، وليست الجبهة السياسية بأقل سخونة من الجبهة العسكرية، إذ ارتفعت أصوات حول من سيتولى إدارة المدينة بعد تحريرها في ظل سعي كل طرف للحصول على إدارة المدينة؟.
خلافات أمريكية روسية
روسيا التي كانت موعودة من ترامب بإيكال الملف السوري لها، وجدت نفسها بعد مدة قصيرة أمام تنافس محتدم مع الأمريكيين على الأرض بل وأشد من السابق في أيام إدارة الرئيس أوباما. فقبل أيام صوت مجلس الشيوخ بأغلبية كاسحة لتشديد العقوبات على روسيا وهو ما يصطدم مع رغبة ترامب في التقارب مع الروس، واستمرار هذا الأمر يشير إلى أن الاجتماع الأول بين ترامب وبوتين في قمة هامبورغ مطلع الشهر المقبل على هامش “قمة العشرين” قد لا يكون على قدر كبير من الأهمية، إذ باتت موسكو تعرف أن عليها أن تضمن المؤسسات الأمريكية وليس الرئيس الأمريكي الذي يكاد أن يُطاح به بسبب التحقيقات في تدخل روسيا بالانتخابات الرئاسية.
ترامب لم يكن يرغب بقيادة المعركة في السياسة الخارجية الأمريكية ولا التصدر في الواجهة في ملفات متشابكة كالملف السوري وتعقيداته، وآثر الإنكفاء وتغيير النهج المتبع لدى الإدارات السابقة. لكن هذا النهج لم يتوافق مع المكانة الأمريكية في العالم ولا مع المؤسسات الأمريكية، وأمام المعارضة الشديدة التي وجدها ترامب من الكونغرس ووزارتي الخارجية والدفاع، خضع ترامب لتلك المؤسسات وآثر أن تدير ملف السياسة الخارجية الأمريكية كما هو معتاد، وما يدلل على ذلك أن ترامب لم يعلن حتى الآن أي استراتيجية للقضاء على داعش في المنطقة كما تعهد في وعوده الانتخابية.
ترامب شبه مستقيل من دوره الخارجي عمومًا وأنه وزع الملفات الساخنة على فريقه لشؤون الأمن القومي من دون تنسيق بينهم ولا انخراط من جانبه
ومع احتدام المواجهة في آخر معقل لتنظيم داعش في سوريا، تصاعدت حدة الخلافات الروسية الأمريكية، إذ تمثلت في إسقاط طائرة سوخوي 22 الروسية التابعة لقوات النظام السوري من قبل الطيران الأمريكي، وإعلان روسيا وقف العمل بمذكرة منع الحوادث في الأجواء السورية، ومن ثم فرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة على أشخاص ومصارف وشركات روسية، فردت روسيا بإلغاء المشاورات الثنائية على مستوى نائبي وزيري الخارجية، تيلرسون ولافروف.
لم يصدر أي تعليق من قبل ترامب ولم يغرّد كعادته على الأحداث في حسابه الرسمي بتويتر، وبالإضافة إلى التصرفات الأمريكية الأخيرة على الأرض فإن هذا يؤكد أن ترامب فوّض البنتاغون بالتصرف حسب ما تقتضيه الظروف على الأرض لا سيما في ما يتعلق بمعركة الرقة، حيث أكدت صحيفة “واشنطن بوست” أن البنتاغون وليس البيت الأبيض من اتخذ القرار بضرب الطائرات بدون طيار الإيرانية وطائرة السوخوي السورية ردًا على اقترابها من القوات الأمريكية.
ويرى المعاون الأول السابق لمدير السي آي إيه “وكالة الاستخبارات الأمريكية” أن ترامب شبه مستقيل من دوره الخارجي عمومًا وأنه وزع الملفات الساخنة على فريقه لشؤون الأمن القومي من دون تنسيق بينهم ولا انخراط من جانبه.
من المتوقع أن يستمر الحال هكذا حتى يتم التفاهم على تقاسم الأراضي والنفوذ في سوريا وحتى يتم هذا التفاهم من المتوقع أن تبقى المناوشات الروسية الأمريكية مستمرة، دون حصول صدام بين القوتين
فيما تشير تحليلات أن التصعيد الأخير بين موسكو وواشنطن هو أمر طبيعي ويعود إلى تسابق البلدين من خلال حلفاءهما على الأرض على تحرير الرقة من “داعش”. ورأت موسكو في إسقاط القوات الأمريكية لطائرة السوخوي التابعة للنظام السوري إسقاطًا لهيبة القوات الجوية الروسية، وذكرت في بيان لها أن إسقاط الطائرة يمثل “عدوان عسكري” وطالبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية واشنطن بإجراء تحقيق في الحادثة.
وكرد على إسقاط الطائرة ردت روسيا عبر وقف العمل مع واشنطن في مذكرة منع الحوادث الجوية وهي خطوة شبهها البعض بـ”الحركة الاستعراضية”، إذ سبق لروسيا إيقاف العمل بها بعد الضربة العسكرية على مطار الشعيرات العسكري ولكن سرعان ما عاودت العمل بها مجددًا، لذا من المتوقع أن يستمر الحال هكذا حتى يتم التفاهم على تقاسم الأراضي والنفوذ في سوريا وحتى يتم هذا التفاهم من المتوقع أن تبقى المناوشات الروسية الأمريكية مستمرة، دون حصول صدام بين القوتين.
الرقة ما بعد داعش
بدأ الحديث حول من سيخلف داعش في مدينة الرقة يظهر بقوة في الآونة الأخيرة مع اقتراب القوات المدعومة من واشنطن من حسم المعركة ضد “داعش”، حيث بينت وزارة الدفاع الأمريكية في بيان لها لتركيا أن العرب سيشكلون 80% من القوة التي ستستعيد الرقة، وهي بهذا تهدأ مخاوف الأتراك من أي عمليات تهجير قد تصيب العرب في المدينة أو تحكُم محتمل للأكراد على المدينة ومنافذها كما حصل سابقًا بعد تحرير عفرين ومدن أخرى يسكنها عرب وأكراد إذ شهدت ترحيل سكان المنطقة العرب من منازلهم ومنع عودتهم إليها إلا بكفالات وإجراءات تعجيزية.
تلقي رئيس مجلس الرقة المحلي التابع للائتلاف السوري المعارض “سعد شويش”، دعوة من وزارة الخارجية الأمريكية لزيارة واشنطن في إشارة إلى نية أمريكية نحو دمج المجلس لتولي إدارة الرقة بعد انتزاع السيطرة عليها.
وأمام سعي جهات عدة للسيطرة على الرقة كالنظام السوري وميليشيات إيران المدعومة من روسيا وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، بالإضافة إلى قوات النخبة التابعة لرئيس الائتلاف السابق أحمد جرابا، سارعت القوت الكردية لتشكيل مجلس محلي شمال الرقة في منطقة عين عيسى، بإدارة مشتركة عربية وكردية، وأشارت تلك القوات أن إدارة المدينة لن تكون تكون ضمن ما يسمى بالإدارة الذاتية التي أعلنتها أحزاب كردية في مناطق سيطرة الوحدات الكردية في شمال وشرق سوريا.
لكن فيما يبدو أن هذا التصريح لم يأتي من فراع بل يعبر عن الرغبة الأمريكية والضغط الممارس على الأكراد إزاء عملية إدارة الرقة، حيث تلقى رئيس مجلس الرقة المحلي التابع للائتلاف السوري المعارض “سعد شويش”، دعوة من وزارة الخارجية الأمريكية لزيارة واشنطن في إشارة إلى نية أمريكية نحو دمج المجلس لتولي إدارة الرقة بعد انتزاع السيطرة عليها. ومن ثم جاء تصريح جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي لتركيا بتطمينات حول مشاركة العرب في المعركة.
وبدأ الائتلاف السوري بالتحرك عبر عقد ورشات عمل حول إدارة مدينة الرقة بعد تحريرها من تنظيم “داعش”، وقال “رياض سيف” رئيس الائتلاف السوري المعارض أن “الائتلاف هو الجهة الوحيدة المخولة بإدارة الرقة من الناحية الشرعية بناء على تكليف عربي ودولي، وأن تمكين أهل الرقة على إدارة مدينتهم تحت إشراف الحكومة المؤقتة هو الحل الأمثل”، وذكر أن “أي حل آخر يفرض بالإكراه سيكون قنبلة موقوتة وبداية تمهد لقيام حرب أهلية”.
النظام السوري يصارع لإدارة الرقة، إذ يسعى إلى فرض نفسه من خلال توغله في ريفها الجنوبي الغربي، ومن المرجح أن يطالب بإدارتها أو على الأقل المشاركة في ذلك عبر أعضاء موالين له، في مجلس سوريا الديمقراطية المشكل حديثًا.
وهناك قوات النخبة التي تشترك عبر قواتها في المعركة وترابط من الجهة الشرقية لمدينة الرقة، حيث يسعى زعيمها أحمد الجربا لتولي إدارة الرقة ودير الزور. ويُذكر أن قوات النخبة تم تشكيلها من أبناء القبائل العربية في إطار عملية “غضب الفرات” التي بدأت أواخر العام الماضي ضد داعش في الرقة.
وزارة الدفاع الأمريكية في بيان لها لتركيا تبين أن العرب سيشكلون 80% من القوة التي ستستعيد الرقة
كل هذا يأتي ضمن الصراع على المدينة وهي إرهاصات ما قبل السيطرة عليها كل طرف يحاول فرض أجندته للحؤول دون سيطرة الطرف الآخر عليها، فيما المؤكد حتى الآن أن واشنطن في المرحلة التي تلي دحر “داعش” من الرقة ستكون في مواجهة مع قوات النظام السوري والقوات المتحالفة معها في إطار السيطرة على الجزء الشرقي من سوريا.
ملامح هذا الصراع ظهرت جلية عبر الضربات الأمريكية الأخيرة على قوات النظام وإيران التي تحاول التقدم من الناحية الشرقية للرقة، وقد جاءت تلك الضربات بمثابة تحذير للنظام السوري وطهران، بأن واشنطن لن تسمح بمواجهة القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها أو إعاقة تحركاتهم في البادية من قبل قوات النظام السوري وحلفاءه، وقد بدأت وزارة الدفاع الأمريكية مدفوعة من مسؤولين في البيت الأبيض بإقامة مواقع لها في البادية بهدف عدم السماح لقوات النظام وإيران من التقليل من قدرة الجيش الأمريكي ومن يواليه على كسر دفاعات داعش على نهر الفرات جنوب الرقة.
أمام جميع تلك الأطراف والجهات المتناقضة في الأجندة والجهات الداعمة سيكون مصير الرقة بعد التحرير ليس بأسوأ مما قبله، وستضطر جهات عدة للتنازل أمام واشنطن للظفر بإدارة المدينة أو المشاركة فيها، وهو ما قد يعقد المشهد في المستقبل ويؤثر على مرحلة إعادة الإعمار وإعادة السكان إلى مدينتهم.