ليس جديدًا أن نسمع عن التغيرات والإصلاحات التي يقوم بها حزب العدالة والتنمية في تركيا، وذلك بهدف بناء “تركيا حديثة” كما تقول المنشورات الملصقة على جدران المدن وكما ينادي الرئيس أردوغان وقيادات حزبه في خطاباتهم الإعلامية، ولنفهم ما تعنيه هذه الأصوات ببناء تركيا حديثة لا بد من متابعة التجديدات والإضافات التي قام بها الحزب منذ توليه الحكم عام 2002 وحتى يومنا الحاضر.
والمثير للاهتمام في هذا الشأن وصول هذه التحديثات إلى ساحات التعليم، لتكون المدارس التعليمية والمناهج المدرسية ضمن الخطة الإصلاحية التي يروج لها الحزب في أنحاء الجمهورية التركية، فمنذ أسابيع قليلة تناقلت الوكالات الإعلامية أنباء عن تعديلات جديدة أقرتها وزارة التعليم الوطني في تركيا، حيث كانت الوزارة تفي بضرورة افتتاح مصليات أو مساجد للطلاب داخل المدارس، بالإضافة إلى حذف نظرية التطور “داروين” من مناهج علم الأحياء نهائيًا.
هذه الإجراءات المدروسة لها خلفية سياسية تتسابق في ميادين المؤسسات التعليمية لفرض توازن فكري وديني في حياة الأتراك وهويتهم
قد تكون هذه التعديلات اعتيادية للغاية على قطاع التعليم في دول غير تركيا، لكن هذا الأمر ليس من المحتمل في تركيا التي تعاني بشكل معلن أو غير معلن من إرباك في الهوية الثقافية والدينية والاجتماعية بسبب تقلّبات مؤسسات الحكم، التي ساهمت مرة في سلخ الشعب عن ماضيه ومرة في توثيق روابطه مع هذا الماضي، لذلك تعتبر هذه الإجراءات المدروسة لها خلفية سياسية تتسابق في ميادين المؤسسات التعليمية لفرض توازن فكري وديني في حياة الأتراك وهويتهم.
مشروع أتاتورك: جمهورية تركية بلا دين ولا تدين
بعد أن أنهى مصطفى كامل أتاتورك الخلافة العثمانية الإسلامية، وأسس مكانها الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، والتي أصبحت دولة علمانية ديمقراطية تماثل النمط الأوروبي في القوانين والملامح، تحول التعليم إلى ميدان للصراعات السياسية والوسيلة الأمثل لترويض أفكار الأجيال الناشئة على ما يناسب خلفيتهم الثقافية والاجتماعية والدينية، بالإطار الذي تحدده الحكومة بالطبع، كما بات التعليم آنذاك السلاح السلمي الذي استخدمته الحكومات للتخلص من العقول التي لا تلائم الهوية التركية على حد تعريفهم.
أقر أتاتورك بعلمانية البلاد في الدستور التركي وحارب الدين والتدين، وربط بين تطور البلاد والتخلي عن الهوية الإسلامية ظاهريًا وجوهريًا
وعلى الرغم من أن الخلافة العثمانية التي استمرت لأكثر من 600 عام، شكلت الجوهر الديني الاسلامي في نفوس الشعب التركي، فإن أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية بذل كل ما في وسعه للتعتيم على هذا الجوهر ودفنه مع الخلافة العثمانية.
أقر أتاتورك بعلمانية البلاد في الدستور التركي وحارب الدين والتدين، وربط بين تطور البلاد والتخلي عن الهوية الإسلامية ظاهريًا وجوهريًا وكان يمنع مظاهر التدين بإجراءات قانونية تحميها مؤسسات الدولة جميعها ومنها الجيش.
فبدأ أتاتورك بالتخلص من مظاهر الدين الإسلامي، فمنع اعتمار الطربوش والعمامة وروج للباس الغربي، منع المدارس الدينية وألغى المحاكم الشرعية، أزال التكايا والزوايا والأضرحة وألغى الألقاب المذهبية والدينية، وتبنى التقويم الدولي، كما أنه كتب قوانينًا مستوحاة من الدستور السويسري.
كانت هذه إجراءات شكلية، أزالت الملامح الدينية عن شكل الناس والأماكن في المدن، ولم يكتف أتاتورك بهذه التغييرات السطحية وأراد أن ينتزع الدين من جذور هذه الدولة، فأمر عام 1928 بإلغاء الحروف العربية في الكتابة واستخدام الحروف اللاتينية في المقابل، كما أنه منع رفع الآذان باللغة العربية وأقر رفعه باللغة التركية، إضافة إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية ومنع قراءته باللغة العربية، محاولاً أن يقطع أي روابط بين الشرق وتركيا العلمانية ودفع بالطموح التركي نحو التشبه بأوروبا المعاصرة الديمقراطية.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
على الرغم من نجاح أتاتورك في تأسيس دولة سارت على قواعده العلمانية، فإن هذه القواعد ومع رضى الكثيرين بها كانت وما زالت موضعًا للجدل لأنها مست التدين الذي عاشه العثمانيون أجداد الأتراك لعقود طويلة.
مشروع أردوغان: بناء تركيا حديثة
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية الحكم منذ 15 عامًا والجميع يمكن أن يلاحظ وفاء حكام الحزب بوعدهم بشأن التقدم والتطور الذي حل على البلاد، ولكن دومًا ما كانت هذه الإصلاحات والتغييرات مسألة جدلية بين ما يحاول الحزب طمره وإظهاره في ملامح الدولة وشعبها.
لم يكن طريق حزب العدالة والتنمية إلى الرئاسة سهلًا، خاصة أن الشعب والهيئات السلطوية كانت ترفض أي مظهر إسلامي في الجهات الحكومية والسلطات السياسية، وكل من كان يحاول أسلمة الدولة يتلقى عقابه، وذلك وفقًا للقانون 431 الصادر في 3 مارس 1924، الذي ألغى وجود المنظومة الفكرية الإسلامية في المجالات المختلفة في الدولة.
كان أردوغان حريصًا على التصريح دومًا بأن حزب العدالة والتنمية ليس حزبًا دينيًا، بل حزب ديمقراطي محافظ منسوب إلى دولة يحكمها نظام علماني ديمقراطي
وكان رجب طيب أردوغان أبرز من خاض ألم تجربة الانضمام إلى حزب سياسي إسلامي برئاسة نجم الدين أربكان (حزب الرفاه) في دولة علمانية وسُجن عام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية بسبب اقتباسه لأبيات من الشعر التركي تقول “مآذننا رماحنا والمصلون جنودنا”، لكن لا شك أن هذه الصعوبات التي مر بها، أثمرت ذكاءً سياسيًا وفطنة أوصلته لمنصبه الحالي في البلاد.
كان أردوغان مصرًا دومًا أن يقطع صلته مع التيارات الإسلامية ويقول سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا وإنه سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ويتبع الوسطية في الحكم.
القوى الإسلامية ستلجأ إلى الأسلوب الذي انتهجته من قبل، وهو إنشاء أحزاب جديدة تحت مسميات جديدة
وكان حريصًا على التصريح دومًا بأن حزب العدالة والتنمية ليس حزبًا دينيًا ديمقراطيًا، بل حزب ديمقراطي محافظ منسوب إلى دولة يحكمها نظام علماني ديمقراطي وكل أنشطة وأعمال الحزب ستدور على هذا الأساس الذي يقر به الدستور التركي، فهو حزب يحترم الأفكار العلمانية والمبادئ الكمالية.
إلا أن البعض بات يرى أن القوى الإسلامية ستلجأ إلى الأسلوب الذي انتهجته من قبل، وهو إنشاء أحزاب جديدة تحت مسميات جديدة، وسوف تظهر قيادات أخرى تحل محل أربكان في فترة غيابه، وهذا بالفعل ما يحدث.
ماذا بقي من علمانية أتاتورك في المناهج الدراسية؟
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
خلال افتتاح جامعة ابن خلدون، في إسطنبول، قال أردوغان إنه لا يزال يذكر تلك الأيام التي كان يحرم الطلبة فيها من حقوقهم ومظهرهم الخارجي الإسلامي مثل ارتداء الحجاب أو إطلاق اللحية وغيرها، وأنه يقدر دور الجامعات التي تسعى إلى التجديد والمعاصرة انطلاقًا من جذور الحضارة والتاريخ العثماني، مشيرًا إلى أن الأمة التي لا تنتمي إلى ماضيها لا يمكن لها أن يكون لها مستقبل وإن كانت هذه الحضارة مصدر انزعاج لدى البعض ولطالما حاول الكثير طمس أفكارها وتاريخها.
وخلال خطابه نادى الجامعات والمؤسسات التعليمية بالاعتماد على ثقافة الحضارة الإسلامية والابتعاد عن الاعتماد على الثقافة الأوروبية واستيراد الأفكار الغربية الغريبة عن تاريخ وتراث البلاد، وأشار إلى اعتزامه إدخال تعديلات على المناهج الدراسية في البلاد لـ”تعزيز الكتب والمناهج بتاريخنا العريق والمشرف” على حد وصفه.
تطبيقًا لهذه الإجراءات ورغبة في إحياء جذور التاريخ العثماني الإسلامي، شهد قطاع التعليم في تركيا كمًا من التغييرات والتعديلات التي بدأت بتقليصسيرة مصطفى كمال أتاتورك وإنجازاته في المناهج الجديدة ونزع ملامح القدسية عن شخصيته ووضعها في إطار للشخصيات العادية.
وبالمقابل اعترضت التيارات التي تقدس أتاتورك كأب للاتراك ومؤسس لجمهورية تركيا هذه التعديلات، واعتبرت أن هذه الحملة معترضة على النظام العلماني في تركيا، كما أن الخطة تشمل إدراج اللغة العربية في المناهج التركية بجانب اللغة الإنجليزية وهذا إشارة إلى التراجع عن الخطط السابقة بالتركيز على اللغة الإنجليزية.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
وأدخلت مادة التربية والدين والأخلاق إلى المواد المدرسية وركزت على مواضيع الشريعة الإسلامية والتي تضمنت دخول مفاهيم الجهاد والاستشهاد في سبيل الله في مناهج الصف السابع، وهذا ضمن البرنامح التعليمي الجديد الذي سيقوم على أساس ديني ووطني، حسب صحيفة جمهورييت التركية.
وقد أعلن وزير التعليم التركي عصمت يلماز، خطط واسعة تشمل تغيير لمناهج التعليم الابتدائي في تركيا، بهدف التحسين من نوعية المواد الدراسية، حيث قال “ستشمل التغييرات حذفًا للكثير من المواضيع غير الضرورية والعملية للطالب”.
كما قال يلماز: “نظرية داروين نتيجتها كانت نشوء نظرية التطور، مثل الفيزياء التي بدورها أنشأت نظرية الانفجار العظيم، لذلك هذه المواضيع لا بد من نقاشها خارج إطار المنهج الدراسي بشكل منفصل ومركز”، وأضاف أن “الوزارة ملزمة بكل ما هو علمي وحقيقي”، في إشارة إلى اعتبار نظرية داروين غير علمية بعد أن أثبت عدم صحتها.
أما مدير مجلس التربية والتعليم ألب أرسلان دورموش، قال: “عملنا من خلال التعديلات الجديدة في المناهج التخلص من المواضيع التي تتحدث عن التاريخ من وجهة النظر الأوروبية، وعملنا على التركيز على مساهمات العلماء المسلمين والأتراك، أمثال ابن سينا وابن خلدون”، بهدف التأكيد على القيم الوطنية وتسليط الضوء على الإنجازات التي قدمتها الحضارة الإسلامية.
المنهج الجديد يتحدى نظام التعليم العلماني كوسيلة للحياة، والممارسة الأخيرة من تبسيط النصوص في الكتب المدرسية هو هجوم منظم على العلوم الطبيعية والتاريخ والفلسفة
وفي الوقت الذي رأت فيه مؤسسات تعليمية أن هذه الإضافات التي قامت بها وزارة التعليم على المناهج خطوة صحيحة، قالت المعارضة اليسارية إن حزب العدالة والتنمية يبني مشروعه الخاص وفق رؤيته دون النظرإلى المشاكل الحقيقة في التعليم مثل الامتحانات الكثيرة وأسلوب التلقين للطلاب وتدني رواتب الموظفين من المعلمات والمعلمين وبُعد مسافات المدارس، بدلاً من الخوض في مسائل سياسية بحتة ستزيد من شحنة الإرباك في الهوية بين الأجيال الناشئة، على حد تعبريه.
فقد قال رئيس الاتحاد التركي لنقابة العاملين قاسم بركات إن “المنهج الجديد يتحدى نظام التعليم العلماني كوسيلة للحياة، والممارسة الأخيرة من تبسيط النصوص في الكتب المدرسية هو هجوم منظم على العلوم الطبيعية والتاريخ والفلسفة”، وأضاف “ذلك المنهج يعتبر مبادرة خطيرة من وزارة التربية والتعليم، والذي يفصل البرنامج التعليمي عن المعرفة العلمية والواقع، ويجعلها مماثلة إلى المناهج الموجودة في المدارس الدينية”.
وأضاف بركات: “أحزاب المعارضة وكذلك أيضًا الكليّات التربوية باتوا مستائين بسبب هذه التعديلات التي لم يسبقها أي نقاش عمومي أو برلماني، بل تم تخطيطه وإقراره بانفراد من قبل حزب العدالة والتنمية، ويقول النقابي قاسم بركات من نقابة المعلمين إجيتيم سين: “لم تتم استشارة خبراء التعليم ومنظَّمات المجتمع المدني، وهذا عمل غير ديمقراطي يثير قلقنا كثيرًا”. ويرى نقاد أن التغييرات في نظام التعليم تلبية لطموحات حزب العدالة والتنمية الحاكم لجعل تركيا أكثر تحفظًا وتدينًا.
السياسة والتعليم
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
يذكر أن أتاتورك درس في مدرسة “شمس الدين” الابتدائية التي كان لها تأثير واضح على أفكاره وكان نظامها التعليمي يُسمى بـ”الأصول الجديدة” والتي تنادي بالتشبه بأوروبا والتمسك بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، وكان مدحت باشا الملهم الأساسي لهذه التوجهات والأفكار، فقد كان معروفًا بمطالبته بإصلاحات على النمط الأوروبي وكان أول من أدخل الأدب الأوروبي إلى تركيا.
ويمكن الاستنتاج، أن مشروع أتاتورك في جعل تركيا علمانية الفكر والهوية لم يكن ليتحقق لو أنه تعلم في مدرسة “حافظ محمد أفندي”، المدرسة الدينية التي أرادت والدته أن يدرس فيها، لكن طاعة لوالده درس في هذه المدرسة التي تحمل أفكارًا أقرب للثقافة الأوروبية.
كلا الطرفين فهما أهمية هذه المدارس ودورها في صياغة أفكار الأجيال وتعويدهم على أساس فكري معين من خلال المناهج والمواد الدراسية، لذلك كان قطاع التعليم ملجأ لنشر الأفكار التي تقر بها الحكومات السياسية
على العكس تمامًا من المدرسة التي تعلم فيها أردوغان وهي المدرسة الدينية “الإمام الخطيب” والتي ساهمت في توجيه ميوله نحو الأفكار الدينية والإسلامية، وأنشأ أردوغان ما يقارب 73 فرعًا من مدرسة إمام خطيب الإسلامية عام 2014، الأمر الذي أثار مخاوف الكثيرين وجاوب الكثيرون بأن أردوغان ينشر الفكر الإسلامي في أنحاء البلاد من خلال هذه المدارس.
ويتفق الكثير أن كلا الطرفين فهما أهمية هذه المدارس ودورها في صياغة أفكار الأجيال وتعويدهم على أساس فكري معين من خلال المناهج والمواد الدراسية، لذلك كان قطاع التعليم ملجأ لنشر الأفكار التي تقر بها الحكومات السياسية.
وبهذا يمكن فهم لم قلص أتاتورك من مساحة المواد الدينية وما يمت لها بصلة في المدارس ولم قام أردوغان بزيادتها وبتقليص وجود الأفكار الأجنبية في المدارس وتطبيعها بالملامح الإسلامية بحيث ينتشر الحجاب والمصليات والمواد الدينية فيها.
وامتعاضًا من هذه الزيادة في مساحة المواد الدينية يقول النقابي بركات: “يجب على الدولة أن تتعامل بموضوعية في المسائل الدينية وأن تدع الناس يختارون بأنفسهم كيف يثقِّفون أنفسهم في الأمور الدينية”، ويضيف أن إشراف الدولة على البرنامج التعليمي يزيد الحساسية والشك في استخدام الدولة لدين كأداة خاصة، على حد تعبيره.