ترجمة وتحرير نون بوست
لا يمكن التقليل من أهمية الولايات المتحدة بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي، إذ لطالما كانت واشنطن الملاذ الأول والوحيد عند الحاجة للمشورة الإستراتيجية، وكانت دائما أول مساند عند التعامل مع التحديات التي تواجهها إسرائيل. وفي الحقيقة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة بقوة في كل النقاشات السياسية المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي، وفي أروقة أخذ القرار. ولكن خلال أربعة عقود من هذه “العلاقة الخاصة” بين البلدين، كان الثمن الذي دفعته إسرائيل لقاء هذه الشراكة المميزة، هو فقدانها بشكل كبير لاستقلاليتها.
في الواقع، باتت تبعية إسرائيل للولايات المتحدة عميقة لدرجة أن السؤال الذي يبقى مطروحا هو “هل يمكن لها أن تحافظ على وجودها اليوم من دون الدعم الأمريكي؟” بالنسبة للأمريكيين والإسرائيليين على حد السواء، فإن هذه المواضيع تعدّ مثيرة للجدل. كما أن العديد من الأمريكيين ينتقدون ما يعتبرونه عدم احترام إسرائيلي لخيارات السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك على الرغم من الفرق الهائل في القوة بين البلدين، والدعم السخي الذي تقدمه واشنطن لحليفتها. ويظهر ذلك بشكل خاص عندما تضمّ إسرائيل حكومة من المتشددين.
أما الإسرائيليون، فلا يتمنون أن يكونوا بهذا القدر من التبعية من قبل طرف أجنبي، حتى لو كان صديقا ومساندا لهم على غرار الولايات المتحدة، حيث أنهم يعتبرون حرية اتخاذ القرار في بلدهم وحرية المناورة والتحرك أمورا ضرورية من أجل ضمان أمنهم القومي.
وتصل قيمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل، منذ قيامها سنة 1949 إلى حدود سنة 2016، إلى حوالي 125 مليار دولار، وهي قيمة “مهولة” تجعل من إسرائيل أكبر مستفيد من المساعدات الأمريكية في كامل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع نهاية حزمة المساعدات الجديدة التي ستستمر لعشر سنوات وتحديدا من سنة 2019 إلى سنة 2028، سيصل هذا الرقم إلى حوالي 170 مليار دولار.
لا تستطيع أي دولة التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، الذي يمثل تهديدا محتملا لإسرائيل، أفضل من الولايات المتحدة
خلال السنوات الأخيرة، مثلت المساعدات الأمريكية حوالي ثلاثة بالمائة من ميزانية إسرائيل، وواحد بالمائة من الناتج المحلي الخام. وفي ظل هذه الأرقام، سيجبر وقف هذا الدعم الإسرائيليين على شد الحزام والقيام بإجراءات مؤلمة تزيد من الضغط على ميزانية الاحتياجات المحلية التي تعاني أصلا من العجز، في مجالات على غرار الصحة والتعليم، وهو ما سيؤجج التوترات الاجتماعية. ولكن رغم كل هذا، لن تشكل هذه الفرضية تحديا مستحيلا بالنسبة للاقتصاد الوطني الإسرائيلي.
في المقابل، سيطال التأثير الحقيقي الميزانية العسكرية الإسرائيلية. ففي السنوات الأخيرة، شكّل الدعم الأمريكي حوالي 20 بالمائة من ميزانية الدفاع في إسرائيل (التي تتضمن الأجور والرعاية الصحية وتعويض الجرحى والأرامل) وشكلت حوالي 40 بالمائة من ميزانية الجيش الإسرائيلي، وغطت تقريبا كامل ميزانية شراء الأسلحة. وبالتالي، سيكون لوقف هذا الدعم له تأثير كارثي على الوضعية العسكرية الإسرائيلية، إلا في حالة إعادة ترتيبات الأولويات الوطنية، وهو ما سيكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة.
على عكس خصوم إسرائيل، الذين بإمكانهم شراء الأسلحة من عدة دول دون وجود عوائق سياسية، يعدّ اعتمادها على واشنطن أمرا مصيريا بالنسبة لها حيث أنه لا يمكن لأحد من كبار مصنعي الأسلحة على غرار بريطانيا، وفرنسا، وروسيا والصين، تعويض الولايات المتحدة. ومن المؤكد أن أيا من هذه الدول مستعدة لتوفير التمويل، كما أنها ليست قادرة من حيث الجودة والتطور على تعويض الأسلحة الأمريكية.
في الواقع، ألزمت واشنطن نفسها قانونيا بضمان التفوق العسكري لإسرائيل، بمعنى تمكينها من القدرة على صد أي تهديد عسكري تقليدي أو تحالف من الدول أو أي مجموعات عسكرية غير نظامية، مع الحفاظ على الخسائر البشرية والمادية في الحد الأدنى. وعموما، يتضمن هذا الدعم توفير الأسلحة التي تفوق تطورا أسلحة أولئك الأفراد أو التحالفات أو المجموعات المعادية لإسرائيل.
تعدّ الولايات البلد الذي لا غنى عنه بالنسبة لإسرائيل، والذي لا يمكن تعويضه في المستقبل المنظور، إذ أن الولايات المتحدة استخدمت نفوذها الدبلوماسي في العديد من المنابر الدولية من أجل حماية إسرائيل
يبدو أن إسرائيل تحظى بضمانات أمنية أمريكية، وهو ما يُعتبر إضافة هامة لقدراتها الكبيرة على الردع، وهي نقطة ستصبح ربما مصيرية في المستقبل، في حال تحقق الكابوس الذي تخشاه إسرائيل، وهو تعدد الأطراف التي تمتلك السلاح النووي في الشرق الأوسط. ولا تستطيع أي دولة التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، الذي يمثل تهديدا محتملا لإسرائيل، أفضل من الولايات المتحدة، حتى في ظل الخلافات بين الجانبين حول الطريقة المثلى للتعامل مع هذا التهديد.
لم تكن هناك أية دولة أخرى كانت مستعدة لمساعدة إسرائيل على بناء درع لا يوجد له مثيل في جميع أنحاء العالم يحميها من الصواريخ والقذائف، أو أن تنخرط مع إسرائيل في شن هجمات رقمية مشتركة. علاوة على ذلك، تربط الولايات المتحدة إسرائيل بنظامها العالمي لمراقبة إطلاق الصواريخ، وهو ما يجعل لديها الوقت الكافي لتحذيرها، بالإضافة إلى أن هذه الخطوة من شأنها أن تحمي المدنيين من الاختباء في الملاجئ، وتمكّن الجيش الإسرائيلي من الاستعداد واتخاذ إجراءات مضادة.
كما تتضمن هذه العلاقة العسكرية إجراء مناورات عسكرية مشتركة، لتمكين الجيش الإسرائيلي من تعلم البعض من أكثر التكتيكات تطورا في العالم. كما أن بعض هذه المناورات جمعت أطرافا متعددة، وهو ما أدى لتقوية العلاقات الخارجية الإسرائيلية، التي اكتست في عدة مناسبات أهمية إستراتيجية.
بذلت الولايات المتحدة جهودا كبيرة لبناء العلاقات الإسرائيلية التركية منذ قيام إسرائيل، وعملت أيضا على إحيائها خلال السنوات الأخيرة
فضلا عن ذلك، أودعت الولايات المتحدة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر في إسرائيل، ووفرت لها إمكانية الولوج إليها. ويشارك كلا البلدين في عدد كبير من عمليات مكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي ومكافحة انتشار الأسلحة. وفي الحقيقة، جعل هذا الدعم اللامحدود الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل خلال حرب سنة 2006 ضد لبنان، منها أول مواجهة عسكرية في التاريخ العربي الإسرائيلي لا تتعرض فيها إسرائيل إلى أية ضغوط دبلوماسية.
من جهتها، تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنسيق كبير وغير تقليدي عند إجراء النقاشات ووضع المخططات الإستراتيجية. وفيما يخص البرنامج النووي الإيراني، فقد انخرط كلا البلدين في حوار عميق، وإستراتيجي وغير مسبوق على مدار حوالي 20 سنة. كما قام البلدان بالتنسيق في عدة مسائل أخرى، من بينها: برامج أسلحة الدمار الشامل التي كانت موجودة في العراق، وسوريا، وليبيا، بالإضافة إلى ملفات تتعلق بالحرب في سوريا، وببعض المنظمات المسلحة على حزب الله وحماس، فضلا عن القضية الفلسطينية. ويضاف إلى ذلك، التعاون الإستخباراتي، وهو مجال تستفيد فيه الولايات المتحدة بدورها من هذه العلاقة الثنائية.
وعلى المستوى الدبلوماسي، تعدّ الولايات البلد الذي لا غنى عنه بالنسبة لإسرائيل، والذي لا يمكن تعويضه في المستقبل المنظور، إذ أن الولايات المتحدة استخدمت نفوذها الدبلوماسي في العديد من المنابر الدولية من أجل حماية إسرائيل من عدد لا نهاية له من القرارات التي صدرت ضدها، فيما يتعلق بمسار السلام، بالإضافة إلى حمايتها فيما يخص قدراتها النووية غير المعلنة.
من جهة أخرى، لم يُبد أي بلد آخر دائم العضوية في مجلس الأمن استعدادا مماثلا لاستخدام حق النقض الفيتو، مثلما فعلت الولايات المتحدة لحماية إسرائيل من القرارات الأممية، والعقوبات المحتملة، حتى لو تعلق الأمر بالسياسات التي تعارضها واشنطن. وخلال الفترة الممتدة بين سنة 1954 وسنة 2011، استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض حوالي 40 مرة ضد قرارات من شأنها أن تضر بإسرائيل.
أما في المحافل الدولية، فلا شيء يظهر تبعية إسرائيل للدعم الأمريكي على غرار القلق والغضب الذي عبّر عنه الإسرائيليون عندما امتنعت واشنطن عن التدخل لأول مرة، ضد قرار لمجلس الأمن الذي يدين إقامة المستوطنات في كانون الأول/ ديسمبر 2016. ومع تزايد العزلة الدولية التي تعاني منها إسرائيل، فإن حاجتها للغطاء الدبلوماسي الأمريكي بلغت أوجها.
أغلب الأوقات، كانت إسرائيل بمثابة لاعب صغير في المنطقة يواجه تهديدات عديدة وخطيرة ولا يملك نفوذا كبيرا، وفي تبعية تامة للولايات المتحدة التي أصبحت الحل الناجع لكل المشاكل الأمنية التي تواجهها إسرائيل
من ناحية أخرى، لم يُبد أي بلد آخر استعداده للعمل مع إسرائيل على عكس الولايات المتحدة التي عملت على مدى عقود، من أجل تحقيق السلام مع جيرانها وفق شروط تخدم أجندتها الخاصة. كما لا يوجد بلد آخر عمل بإصرار وتعاطف كبير على مساندة رغبة إسرائيل في أن يكون الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين؛ ضامنا لأمنها ومعترفا بالطبيعة اليهودية لها، ورافضا لمطلب حق العودة للفلسطينيين المهجّرين.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت دائما ملتزمة بمطالبة إسرائيل بالانسحاب من أغلب الأراضي التي استحوذت عليها خلال سنة 1967، إلا أنها ساندت الادعاء الإسرائيلي الذي أفاد أن قرار مجلس الأمن الدولي 242، الذي يمثل حجر الأساس لمفاوضات السلام العربية الإسرائيلية، يسمح بإدخال بعض التغييرات على مستوى التقسيم الجغرافي، على غرار ضم إسرائيل لبعض البؤر الاستيطانية.
على العموم، بذلت الولايات المتحدة جهودا كبيرة لبناء العلاقات الإسرائيلية التركية منذ قيام إسرائيل، وعملت أيضا على إحيائها خلال السنوات الأخيرة. كما ساندت الولايات المتحدة جهود إسرائيل لتطوير علاقاتها مع أذربيجان، بالإضافة إلى مساعدتها على الحصول على الدعم من قبل مؤسسات على غرار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة عمل دول غرب أوروبا في الأمم المتحدة.
وفي إطار سياستها الرامية لإيجاد إطار مناسب لمسار السلام في الشرق الأوسط، ورغبتها في دعم الموقف الإسرائيلي على المستويين الدولي والإقليمي، سعت الولايات المتحدة لمساعدة إسرائيل على تطوير علاقاتها مع كل من الأردن، ومصر، ودول الخليج، وشمال إفريقيا. لكن ما يثير الاهتمام حقا هو إقامة مناطق تأهيل صناعي في الأردن ومصر، حيث كان لها تأثير كبير على المبادلات التجارية الإسرائيلية مع هذه الدول.
والجدير بالذكر أن الحيوية الاقتصادية التي تتمتع بها إسرائيل مرتبطة بشكل كبير بالولايات المتحدة، التي تمثل أكبر شريك تجاري لها، وتربط بينها اتفاقية تبادل تجاري حر، هي الأولى من نوعها التي تمضيها واشنطن مع أي دولة. كما أن قطاع التكنولوجيا الدقيقة الذي تفتخر به إسرائيل كثيرا، نشأ وتطور بهذا الشكل اللافت بفضل العلاقات مع الولايات المتحدة.
هل تتصرف إسرائيل بشكل مستقل؟
بالنسبة للمتابعين المعاصرين، فإنه من المفاجئ معرفة أن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية كانت في الواقع محدودة جدا وتتسم بالجفاء حتى أواخر ستينات القرن الماضي. لكنها تطورت بعد ذلك إلى علاقة مصالح تقليدية خلال السبعينات، ثم بدأت تتحول خلال الثمانينات نحو علاقة إستراتيجية ورسمية.
في أغلب الأوقات، كانت إسرائيل بمثابة لاعب صغير في المنطقة يواجه تهديدات عديدة وخطيرة ولا يملك نفوذا كبيرا، وفي تبعية تامة للولايات المتحدة التي أصبحت الحل الناجع لكل المشاكل الأمنية التي تواجهها إسرائيل. وفي الوقت الراهن، تستطيع تل أبيب إقامة علاقات مع دول أخرى، ولكن تبقى فوائد هذه العلاقات هامشية، إذ أن إسرائيل منوطة بما تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه. ولذلك، تبدو إسرائيل ليست مهتمة كثيرا بإنشاء علاقات مماثلة مع دول أخرى.
لا يزال بإمكان إسرائيل الرد بشكل محدود على بعض الأحداث التي تقع عند حدودها، ولكن فيما يتعلق بالمسائل العسكرية والاستراتيجية الأكثر أهمية، وفيما يتعلق بالقضايا الدبلوماسية الهامة، يتم إجراء مشاورات مسبقة مع الجانب الأمريكي
سواء تعلق الأمر بمسار السلام، الذي كان فيه الإنحياز الأمريكي واضحا ضد العرب، خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، وبعض المشاكل الإقليمية المتعلقة بانتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، ومواجهة الجهود الرامية لإثبات عدم شرعية إسرائيل وفرض عقوبات عليها، فإن واشنطن لطالما كانت الملاذ الأول الذي تهرع إليه إسرائيل.
وعلى ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل توصلتا منذ وقت طويل إلى إتفاق شفهي حيث توفر كلتاهما دعما عسكريا ضخما، وضمانات أمنية على أرض الواقع، بالإضافة إلى دعم دبلوماسي واسع، ومساعدات اقتصادية جمّة. في المقابل، من المتوقع أن تستشير إسرائيل واشنطن في القضايا المهمة قبل إتخاذ أي خطوة، وإظهار أكبر قدر من ضبط النفس على المستوى العسكري، والاعتدال الدبلوماسي، والقيام ببعض التنازلات، ومنح المواقف الأمريكية أولوية مطلقة.
من المؤكد أن إسرائيل تتصرف بشكل مستقل في بعض الأوقات، ربما أكثر مما قد يتوقعه كثيرون، نظرا إلى هذه العلاقة غير المتكافئة بين البلدين. ولكن على الرغم من وجود بعض الاستثناءات، كانت السياسة الأمريكية العامل الأول المحدد للقرارات الإسرائيلية المتعلقة بالأمن القومي منذ تطور هذه العلاقة الخاصة بينهما، في السبعينات والثمانينات.
أما في المسائل المتعلقة بالعمليات العسكرية الكبرى، لطالما تمنح إسرائيل الأولوية للموقف الأمريكي. ففي سنة 1967، في الوقت الذي كانت فيه العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لاتزال فتية، لم يذهب الإسرائيليون للحرب إلا بعد أن أعلمهم الرئيس الأمريكي ليندون جونسون بأنه لن يكون قادرا على الوفاء بالالتزام الأمريكي المتعلق بفتح مضيق تيران، الذي أغلقته مصر في وجه السفن الإسرائيلية، وهو ما كان حينها بمثابة “الضوء الأخضر” للجيش الإسرائيلي. وخلال سنة 1973، كان العامل الأول الذي منع إسرائيل من شن ضربة استباقية رغم يقينها من أن الهجوم المصري والسوري بات وشيكا، هو الخوف من الرد الأمريكي.
يبقى الدعم الأمريكي لإسرائيل في أعلى مستوياته، إلا أنه من المرجح أن تكون للتغيرات السياسية والديمغرافية، تأثير مدمر على هذه العلاقة في المستقبل
خلال سنة 1982، لم تعلن إسرائيل الحرب ضد لبنان إلا بعد أن أقنعت الولايات المتحدة بحاجتها لشن عملية عسكرية واسعة النطاق. وخلال سنة 1991، امتنعت إسرائيل عن الرد عن الهجمات الصاروخية العراقية، بسبب الضغوط التي مارستها عليها واشنطن. كما طلب الأمريكيون من الإسرائيليين عدم استهداف البنية التحتية اللبنانية خلال حرب سنة 2006، وهو ما ترك الجيش الإسرائيلي دون استراتيجية عسكرية واقعية، ومثّل أحد أهم الصعوبات التي واجهتها حينها.
في الحقيقة، دفع الخوف من عدم وجود دعم من قبل إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما خلال سنة 2008، بإسرائيل لوضع حد لعدوانها ضد غزة قبل الموعد المحدد. إلى جانب ذلك، يُعتبر قرار إسرائيل المتمثّل في الامتناع عن توجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، رغم أنها تعتبره تهديدا وجوديا، هو أوضح مثال على الأهمية التي توليها إسرائيل للموقف الأمريكي، وخاصة الحاجة للدعم الأمريكي في كل التحركات العسكرية التي تقوم بها.
لم تكن المعارضة الأمريكية العامل الوحيد المؤثر في حسابات إسرائيل، ولكنها بلا شك كانت عاملا حاسما. وعموما، يشكك البعض في وجود أي خيارات عسكرية أخرى مفيدة، وبالتالي كان الاتفاق النووي الذي فاوضت عليه الولايات المتحدة، النتيجة الأقل سوءًا التي خرجت بها إسرائيل، والتي أثبتت مجددا تبعيتها للولايات المتحدة، حتى في مواجهة التهديدات الوجودية. والجدير بالذكر أن الغارة التي شنتها إسرائيل ضد مفاعل نووي سري في سوريا في 2008، لم يتم شنها إلا بعد مشاورات مكثفة مع واشنطن لضمان تأييدها.
في المقابل، اعتبر بعض الناقدين أن الغارة التي شنتها إسرائيل ضد مفاعل تموز العراقي خلال سنة 1981، هي عبار عن مثال غير مسبوق على استقلال القرار العسكري الإسرائيلي. من جهتها، كانت الولايات المتحدة، على الرغم من أنها لم تكن على علم بنية إسرائيل تنفيذ تلك العملية، قد ناقشت معها هذا الموضوع الذي كان موجودا بين طيات الأجندات التي جمعت بين البلدين لفترة طويلة خلال اللقاءات الثانوية.
وفي خضم مسار مفاوضات السلام، كان للموقف الأمريكي أثر كبير على الموقف الإسرائيلي، إن لم نقل أنه كان محددا لقرارات إسرائيل، خاصة من الناحية العسكرية. وباستثناء اتفاقية أوسلو الأولى، فإن إسحاق رابين وشمعون بيريز نسقا بشكل كبير مع الولايات المتحدة لتحديد المواقف الإسرائيلية خلال المفاوضات مع الفلسطينيين والسوريين في بداية التسعينات.
فضلا عن ذلك، التقى إيهود باراك بالرئيس بيل كلينتون بعد أيام قليلة من توليه رئاسة الوزراء، من أجل الحصول على الدعم الأمريكي لمخططه الطموح من أجل تحقيق السلام مع الفلسطينيين والسوريين في غضون عام واحد. بعد ذلك، قضى العام الموالي في إجراء مشاورات معمقة مع كلينتون، والتقى به في عدة مناسبات، وتحدث معه ومع مسؤولين آخرين رفيعي المستوى في واشنطن بشكل يومي. وبالتالي، كانت استراتيجية إيهود باراك برمتها، واستعداده للمساومة والتسوية في قمة كامب ديفد خلال سنة 2000، كانت كلها تتم بانسجام كبير مع خيارات الولايات المتحدة.
خلال سنة 2005، نسق أرييل شارون بشكل دقيق مع الولايات المتحدة لتنفيذ انسحاب إسرائيل أحادي الجانب من غزة. وفي الواقع، دفعت الرغبات الأمريكية بإسرائيل لاتخاذ هذا القرار المتمثّل في الانسحاب الكلي من قطاع غزة وتفكيك كل المستوطنات هناك. وبنفس الطريقة، كان إيهود أولمرت ينسق كل مواقفه مع الولايات المتحدة، سواء في مؤتمر أنابوليس للسلام في الشرق الأوسط، أو فيما يتعلّق بالمقترح الجريء الذي قدّمه للرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال سنة 2008.
من غير المرجح أن تفقد إسرائيل هذا الحليف الأمريكي، إذ أن الدعامات السياسية والثقافية لهذه العلاقة متينة بما يكفي لجعل فكرة تخلي واشنطن عن إسرائيل غير واردة أصلا
ومن المجالات القليلة التي تحركت فيها الحكومات الإسرائيلية بكل حرية خلال العقود الأخيرة، كانت تلك المتعلقة بمستقبل الضفة الغربية وخاصة مسألة القدس والمستوطنات، بالإضافة إلى مسألة مرتفعات الجولان، والملف الإيراني. وتجدر الإشارة إلى أن الأغلبية الساحقة من الناخبين الإسرائيليين متعلقون جدا بالقدس، التي يرونها قلب الديانة اليهودية ورمزا لإعادة إحياء دولة إسرائيل.
أما المستوطنات، فهي تحظى بأهمية إيديولوجية كبيرة لدى حوالي ثلث الناخبين، وهي شريحة تمتاز بالتنظيم والحماس رغم أنها لا تمثّل الأغلبية، كما أن كل الإسرائيليين يتشاطرون تقريبا شعورا بالقلق العميق من أن أي انسحاب من الضفة الغربية ستكون له عواقب وخيمة على المستوى الأمني.
أما فيما يخص مرتفعات الجولان، فهناك توافق كبير داخل أوساط الرأي العام الإسرائيلي يشير إلى أن هذه الأراضي تعدّ مهمة لضمان الأمن. من جهتها، ينظر لإيران من قبل الطيف السياسي بأكمله على أنها بمثابة تهديد وجودي، أو على الأقل تهديد محتمل. وعلى العموم، هناك رابط مشترك بين كل هذه المسائل المرتبطة بالاستقلالية الإسرائيلية، حيث أنها جلّها مرتبط بوجود إسرائيل.
في حال فرضنا عدم وجود تبعية إسرائيلية تامة، فإنها تمتلك بذلك الحق في تحديد سياساتها بنفسها فيما يخص النقاط الآنف ذكرها. وحتى من وجهة نظر سياسية وواقعية، لا يوجد أي زعيم سياسي في دولة ديمقراطية يمكنه الاستخفاف بالمشاعر الشعبية فيما يتعلّق بقضايا من هذا النوع. في المقابل، امتنع حتى أكثر رؤساء الوزراء تطرفا في إسرائيل عن ضم الضفة الغربية، وذلك من أجل تجنب الخلافات مع الإدارة الأمريكية، وفرضوا ضوابط فيما يخص الاستيطان.
حتى نتنياهو، الذي خاض صراعا غير مسبوق مع الولايات المتحدة، وافق على تجميد الأنشطة الاستيطانية لمدة عشرة أشهر في بداية ولايته، ليعود ويستأنف بناء المستوطنات لاحقا. إلى جانب ذلك، اتبع أغلب رؤساء الوزراء الآخرين سياسات تتماشى مع ما تريده الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، أظهر كل من إسحاق رابين، وإيهود باراك، وأرييل شارون، التزاما يفوق أحيانا انتظارات الإدارة الأمريكية.
على الرغم من ذلك، لا يزال بإمكان إسرائيل الرد بشكل محدود على بعض الأحداث التي تقع عند حدودها، ولكن فيما يتعلق بالمسائل العسكرية والاستراتيجية الأكثر أهمية، وفيما يتعلق بالقضايا الدبلوماسية الهامة، يتم إجراء مشاورات مسبقة مع الجانب الأمريكي، مع الالتزام بمواقفه. فقد تسببت الخلافات التي جدت فيما يخص المستوطنات ووضعية القدس، في إخفاء الحقيقة المتمثلة في أن إسرائيل تمنح في أغلب القضايا أهمية قصوى للموقف الأمريكي على الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تمثل “استثناء شذ عن هذه القاعدة”.
هل يمكن لإسرائيل الحفاظ على وجودها من دون الولايات المتحدة؟
خلال أوقات اليأس، يتم اللجوء لخطوات يائسة. وفي الحالات القصوى، يمكن أن تظهر إسرائيل صلابتها، وتتحرك بمفردها في هذا العالم المعقد. وقد نجحت إسرائيل في المحافظة على وجودها، واستطاعت حتى تحقيق الازدهار، دون دعم أمريكي يذكر خلال عقودها الأولى. فعلى الرغم من أن التحديات الإستراتيجية التي تواجهها اليوم تبدو خطيرة وصعبة، إلا أنها أقل صعوبة من تلك التي واجهتها في السابق، كما أنها تتمتع الآن بقوة عسكرية واقتصادية غير مسبوقة.
ربما تنجح إسرائيل في المحافظة على وجودها، ولكن لا شك في أن ذلك سيتطلب منها البقاء ضمن بيئة عدائية، أقل أمنا بكثير وأكثر فقرا من السابق، وهو وجود غير مريح لا يريد أي شخص في إسرائيل، حتى من أقصى اليمين، العودة إليه. وبعبارات سياسية واقعية، سيكون هذا الأمر مستحيلا. وإجمالا، يبقى الدعم الأمريكي لإسرائيل في أعلى مستوياته، إلا أنه من المرجح أن تكون للتغيرات السياسية والديمغرافية، تأثير مدمر على هذه العلاقة في المستقبل.
تعد الولايات المتحدة شريكا موثوقا، يسعى دائما للوفاء بالتزاماته، على الرغم من أنه تخلت في العديد من المناسبات الهامة عن إسرائيل. ومن بينها على سبيل الذكر لا الحصر، فشل الرئيس جونسون في فتح مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية خلال سنة 1967
من أبرز مصادر هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل، كان النظام السياسي ثنائي الأحزاب الذي تمتاز به الولايات المتحدة. ولكن خلال السنوات الأخيرة، وحتى قبل الخلاف الكبير الذي جد خلال سنة 2015 حول الاتفاق النووي الإيراني، تفاقم هذا المشكل، وبات كل من الجمهوريين والمحافظين أكثر دعما لإسرائيل من الديمقراطيين والليبيراليين. وعلى الرغم من عدم وجود أي مشاكل في ارتفاع دعم إسرائيل في أوساط اليمين، إلا أن فقدانها للدعم في أوساط اليسار، ووقوع المسألة الإسرائيلية في فخ الانقسام الحزبي، بات يثير قلقا كبيرا.
والجدير بالذكر أن تراجع الدعم لإسرائيل طال أيضا صفوف الشباب الأمريكي، الذين باتوا أقل تعاطفا مع إسرائيل من باقي فئات الشعب الأمريكي، وذلك بسبب القضية الفلسطينية. وقد تكون تبعات هذه التغيرات كبيرة على المدى المتوسط والطويل، نظرا لأن هؤلاء الشباب سيشغلون في المستقبل مناصب هامة ومؤثرة في البلاد.
إلى جانب ذلك، هناك تغيرات أخرى بصدد الحدوث في صفوف الشباب اليهودي الأمريكي، الذي بات تعلقه بالهوية اليهودية عامة، وارتباطه بإسرائيل بشكل خاص، أقل بكثير مما هو عليه لدى كبار السن. وتؤدي العديد من العوامل، على غرار انخفاض نسب الولادات، والزيجات المختلطة، والاندماج في المجتمع الأمريكي، إلى تقويض الدعم الذي تلقاه إسرائيل من الجالية اليهودية، على الرغم من أنها تمثل الضامن الأساسي للدعم الأمريكي لإسرائيل. علاوة على ذلك، بلغت نسب دعم الجالية اللاتينية، التي تمثل أكبر الأقليات في الولايات المتحدة اليوم، فضلا عن فئة غير المتدينين، لإسرائيل أدنى مستوياتها، مقارنة بتنامي تعداد هاتين الفئتين.
ويعتقد بعض الملاحظين الإسرائيليين واليهود الأمريكيين أن الرئيس أوباما كان أكثر مودة تجاه إسرائيل من سابقيه. لكن يبقى السؤال المطروح في الوقت هو ما إذا كان أوباما يمثل فعلا استثناء، أم أنه أرسى توجها جديدا طويل المدى، ربما سيشوش عليه بشكل مؤقت وصول ترامب للرئاسة.
ففي الحقيقة، يُعتبر أوباما نتاجا لجيل الأمريكيين الذين يحملون نظرة حول إسرائيل مختلفة عن الجيل السابق، ويظهرون تعاطفا أكبر مع القضية الفلسطينية. وبالتالي، لسائل أن يسأل كيف ستتصرف إسرائيل خلال فترة يتواجد فيها في البيت الأبيض رؤساء لا يظهرون عداءً معلنا لإسرائيل، ولكنهم يفتقدون إلى الحماس و الاهتمام اللذان لطالما حظيت بهما في البيت الأبيض؟
من المهم الإشارة إلى أنه من غير المرجح أن تفقد إسرائيل هذا الحليف الأمريكي، إذ أن الدعامات السياسية والثقافية لهذه العلاقة متينة بما يكفي لجعل فكرة تخلي واشنطن عن إسرائيل غير واردة أصلا. علاوة على ذلك، استثمرت الولايات المتحدة بشكل كبير في وجود إسرائيل وأمنها، حيث أن هذه العلاقة الاستراتيجية باتت مقننة داخل المؤسسات، لذلك سيكون من الصعب على الإدارة الأمريكية التخلي عن هذا الحليف. وبالتالي، يمكن لإسرائيل التعويل على الدعم الأمريكي على المدى الطويل لضمان أمنها، إلا أن درجة هذا الدعم يمكن أن تتغير،. وحتى في حال حدوث تغيير طفيف، فإن ذلك سيكون له تبعات وخيمة على الأمن القومي الإسرائيلي.
ماذا يجب على إسرائيل أن تفعل؟
في ظل هذه الظروف، ستعدّ الإستراتيجية الإسرائيلية للأمن القومي، التي تركز على المستقبل، إحدى الدعامات الأساسية لضمان الأمن. وبالتالي ستقوم إسرائيل بكل ما في وسعها بغية أن يتواصل الحوار الإستراتيجي والصريح مع الولايات المتحدة. كما يجب أن يتم مراعاة الجانب الأمريكي في كل القرارات التي تتخذها إسرائيل، بالإضافة إلى الحدّ من النقاط الخلافية التي من شأنها أن تشوش على هذه العلاقة. وفيما يتعلق بالخلافات الجوهرية الموجودة، يجب على إسرائيل أن تحاول التخفيف من حدة الاختلاف.
من أجل بلوغ هذه الغايات، يجب على إسرائيل أن تعمل جنبا إلى جنب مع إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب من أجل التوصل إلى توافقات مشتركة وتنسيق المواقف فيما يتعلّق بالعديد من القضايا. وفي الحقيقة، لا يعدّ القيام بذلك مرتبطا بشكل كامل بسلوك إسرائيل، حيث أنه سيكون معقدا بسبب ضبابية المشهد والارتباك الحاصل في إدارة ترامب.
أولا وقبل كل شيء، يعد التفاهم ضروريا حول كيفية المضي قدما في مسار السلام مع الفلسطينيين. وفي ظل غياب أي فرص واقعية لتحقيق تقدم في الوقت الحالي، يجب التركيز على سبل حل هذا الخلاف واحتوائه. وفي الحد الأدنى، يجب أن تسعى إسرائيل لإيجاد تفاهم يتضمن اعتراف الإدارة الأمريكية بحقها في إقامة المستوطنات والأحياء اليهودية في القدس الشرقية، مقابل إيقاف كل الأنشطة الاستيطانية الأخرى. وفي الواقع، هذا ما كانت عليه السياسة الأمريكية منذ إدارة بيل كلينتون، وستتم إعادة إحياء هذا التمشي في الوقت الحالي.
ثانيا، من الضروري العودة لتبني موقف مشترك تجاه إيران، خاصة فيما يتعلق بطموحاتها النووية. وسيتضمن هذا الموقف الاتفاق على إجراءات لتقييم مدى التزام إيران ببنود الاتفاق النووي، وتوحيد المفاهيم فيما يخص ما يمكن اعتباره انتهاكات جسيمة، والإجراءات التي يجب اتخاذها حينها لإجبار إيران على الالتزام بتعهداتها، فضلا عن الردود الممكنة في حال فشل هذه الخيارات، من بينها الخيار العسكري.
قبل كل شيء، من الضروري أن يتم التوصل إلى اتفاق حول سبل ضمان عدم اكتساب إيران للسلاح النووي، حتى بعد نفاذ فترة سريان هذا الاتفاق، وذلك من خلال إلحاق “إجراءات متابعة” تُضاف إلى هذا الاتفاق الدولي. بالإضافة إلى ذلك، ستتطلب سبل التصدي للدور الإيراني في المنطقة، سواء من خلال اتخاذ إجراءات ثنائية أو أحادية، اهتماما كبيرا.
ثالثا، يجب على إسرائيل أن تسعى لإيجاد أرضية مشتركة مع إدارة ترامب حول تبعات الأزمة السورية، وشروط حل هذه المشكلة في المستقبل إذ تركز الولايات المتحدة اليوم على تنظيم الدولة، وهي نفس المسألة التي تعتبرها إسرائيل أكثر أولوية وخطورة. ولكن سيتوجب على إسرائيل إقناع إدارة ترامب بأن السيطرة الإيرانية على سوريا والعراق تشكل بدورها تهديدا أكبر على المدى الطويل على المصالح الإسرائيلية والأمريكية، وهذا ما يجب أن يكون محور الاهتمام الأول في العلاقات الثنائية مباشرة إثر القضاء على تهديد تنظيم الدولة.
لهذا الغرض، يجب على إسرائيل تشجيع الإدارة الأمريكية على قبول دور روسي طويل المدى في سوريا، وربما تقديم المزيد من الإغراءات لموسكو في مقابل استعدادها لمحاصرة حضور إيران وحزب الله في الأراضي السورية، وإظهار بعض التعاون فيما يخص الاتفاق النووي. بمعنى آخر، باتت روسيا تمثل عامل استقرار لا غنى عنه في سوريا التي مزقتها الحرب.
رابعا، يجب على الجانبين الإسرائيلي والأمريكي التوصل إلى اتفاق حول طبيعة الردود العسكرية الإسرائيلية تجاههما خاصة وأن تجدد التوترات مع حزب الله وحماس ربما يكون مجرد مسألة وقت. وعلى ضوء ما ذكر آنفا، توجد العديد من المجالات الأخرى التي تتطلب تشاورا بين البلدين، من بينها الحفاظ على وجود الحكم الملكي الهاشمي في الأردن، وحكم السيسي في مصر، اللذان يمثلان دعامتين أساسيتين للاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى كيفية التعامل مع بعض المتغيرات الأخرى في الشرق الأوسط، على غرار المخاطر التي تهدد استقرار بعض الأنظمة الأخرى المهمة.
وعلى المدى الطويل، يجب على إسرائيل، السعي لتحقيق أقصى درجات الاستقلال، ولكنها في نفس الوقت مطالبة بالتعايش مع حقيقة تبعيتها للجانب الأمريكي. وبعبارة أكثر واقعية، هذا يعني تنسيق السياسات الإسرائيلية مع نظيرتها الأمريكية إلى أقصى الحدود، والحفاظ على أقوى علاقة استراتيجية ممكنة، مع الحفاظ في نفس الوقت على عناصر الاكتفاء الذاتي والاستقلالية التي تمثل مقومات أساسية في العقيدة الإسرائيلية، على غرار تحقيق التفوق الإستراتيجي والعسكري.
وهو ما يعني أيضا مواصلة بناء علاقات مع دول أخرى وقوى عالمية، كهدف منشود في حد ذاته، تحسبا للحالات التي تختلف فيها المصالح الإسرائيلية مع المصالح الأمريكية.
فعلى سبيل المثال، لم تتبنّ إسرائيل بشكل تام الموقف الأمريكي فيما يخص الغزو الروسي لأوكرانيا سنة 2014، وهو ما عزز علاقة تل أبيب بموسكو، دون الإضرار بعلاقتها بواشنطن. ومن أجل إعادة صياغة طبيعة هذه العلاقة، هنالك مسار آخر ثنائي أكثر طموحا يمكن لإسرائيل التوجه فيه حيث يجب عليها التفكير في خطة تمتد لسنوات بهدف التخلي عن الدعم العسكري الأمريكي بداية من سنة 2029، أي بالتزامن مع نهاية حزمة المساعدات المقبلة التي ستمتد لعشر سنوات.
بحلول ذلك الموعد، ستكون قد مرت حوالي 50 سنة على بداية برنامج المساعدات الأمريكية الضخمة، وهو تاريخ رمزي ربما يصبح نقطة تحول فارقة. وسيكون الزمن وحده كفيلا بكشف نتائج مثل هذه الخطوة، التي ستكون خاضعة للظروف الإستراتيجية والاقتصادية التي تمر بها إسرائيل.
لكن قبل ذلك الموعد، ينبغي على إسرائيل أن تسعى لتوقيع اتفاقية رسمية للدفاع المشترك مع الولايات المتحدة. في الحقيقة، لا تحتاج إسرائيل في الوقت الحالي لمثل هذه الاتفاقية لأجل أغراض عسكرية، كما لن تحتاجها أيضا في المستقبل، إلا في حال امتلكت إيران السلاح النووي، أو ظهرت قوة أخرى نووية في الشرق الأوسط.
عوضا عن ذلك، يتمثّل السبب الرئيسي للسعي وراء هذه الاتفاقية في تمتين أواصر هذه العلاقة الخاصة بين البلدين على المدى الطويل، في وقت بات فيه دعم إسرائيل في الولايات المتحدة يشهد تراجعا ملحوظا. وقد كانت الإدارات الأمريكية السابقة مترددة في تقديم ضمانات من هذا النوع، كما أن الإدارات المستقبلية أيضا ستكون أكثر ترددا في الإقدام على هذا الأمر مما قد يجعل عهدة ترامب بمثابة آخر فرصة.
حل القضية الفلسطينية، أو على الأقل تحقيق تقدم ملموس نحو ذلك، سيكون أحد أكثر الوسائل فاعلية لتقليص التبعية الإسرائيلية نحو الولايات المتحدة. فسيحدّ ذلك بشكل كبير من عزلة إسرائيل على الساحة الدولية
علاوة على ذلك، قد يشكل توقيع اتفاقية دفاع مشترك، نوعا من الضمان أو التشجيع الذي سيزيد من استعداد الناخبين الإسرائيليين المترددين، لقبول المخاطرات والتنازلات اللازمة لتحقيق السلام مع الفلسطينيين. وقد يتزامن الوقت المثالي لإتمام هذه الاتفاقية مع حدوث تطورات خطيرة أو تحقيق تقدم إيجابي، على غرار تحقيق تقدم في مسار السلام أو ظهور تهديد نووي وشيك، أو مقابل فكرة إيقاف المساعدات العسكرية الأمريكية التي تمت الإشارة إليها. في المقابل، ينبغي على إسرائيل السعي وراء هذه الفكرة، بغض النظر عن الأحداث أخرى التي سيشهدها العالم خلال السنوات المقبلة.
وفي حال تبين أن إبرام اتفاق بشكل رسمي هو أمر غير ممكن، يجب على إسرائيل السعي لإضفاء معنى ملموس على علاقتها الإستراتيجية الحالية مع الولايات المتحدة، تحت “قانون الشراكة الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية”، الصادر في 2014، والذي ينتظر إلى حد الآن ترجمته إلى سياسات عملية. وبالنسبة للإسرائيليين، الذين نشؤوا على مبادئ الاستقلالية والاعتماد على الذات، فسيكون من الصعب تقبّل حقيقة تبعية بلادهم إلى الولايات المتحدة، خاصة وأنها تتعارض مع كل رغباتهم، بالإضافة إلى كونها تناقض مصالحهم الإستراتيجية المتنوعة.
عموما، تعد الولايات المتحدة شريكا موثوقا، يسعى دائما للوفاء بالتزاماته، على الرغم من أنه تخلت في العديد من المناسبات الهامة عن إسرائيل. ومن بينها على سبيل الذكر لا الحصر، فشل الرئيس جونسون في فتح مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية خلال سنة 1967، وتعمد ريتشارد نيكسون تأخير الجسر الجوي الذي نقل الأسلحة لإسرائيل في حرب 1973، وعدم قدرة جورج بوش الابن على التعامل مع المفاعل النووي السوري بنفسه في 2007، إلى جانب تنصل أوباما من رسالة بوش في 2004 لشارون، وربما أيضا من الاتفاق النووي مع إيران.
وفي البعض من هذه الحالات، كانت إسرائيل مجبرة على التصرف بشكل أحادي، وذلك بهدف إظهار مدى إصرارها على الحفاظ على قدراتها المستقلة، وعدم تحملها لفكرة التبعية نحو بلد آخر. وإلى حد معين، يجب النظر إلى الميولات الاستقلالية الإسرائيلية اليوم، على أنها علامة تشير إلى مدى نضج العلاقة بين الجانبيْن الأمريكي والإسرائيلي وإلى نجاح السياسة الأمريكية في هذا الصدد.
في الأثناء، أدى الدعم الأمريكي إلى إنشاء كيان إسرائيلي قوي ومزدهر، وبالتالي هي قادرة على اتخاذ مواقف مستقلة عندما يتعلق الأمر بالمسائل المصيرية بالنسبة لها. وقد لا تحظى الاستقلالية الإسرائيلية دائما بالقبول لدى الجانب الأمريكي، إلا أنها علامة صحية على مزيد تطبيع العلاقة بينها. وفي النهاية، من الواضح أن للولايات المتحدة خلافات مع حلفاء آخرين مقربين منها.
على المدى الطويل، فإن حل القضية الفلسطينية، أو على الأقل تحقيق تقدم ملموس نحو ذلك، سيكون أحد أكثر الوسائل فاعلية لتقليص التبعية الإسرائيلية نحو الولايات المتحدة. فسيحدّ ذلك بشكل كبير من عزلة إسرائيل على الساحة الدولية، وسيمهّد الطريق لعلاقات أكثر إيجابية مع بعض الدول العربية، رغم توتر علاقتها مع إيران، وحزب الله، وحماس، وبعض القوى الأخرى الرافضة للتطبيع.
في المقابل، لن تؤدّي السياسات الاستفزازية الإسرائيلية، على غرار الإعلان عن بناء مستوطنات جديدة مباشرة بعد زيارة مسؤولين أمريكيين كبار، إلا لتأجيج النيران في المنطقة، إذ أن مثل هذه السلوكات الإسرائيلية هي في الواقع نتاج للأوضاع السياسية الداخلية الإسرائيلية المتقلبة، وليست نتاجا لتوجهات إستراتيجية مدروسة.
بالتالي، يجب أن يكون مجرد تطرق هذا المقال لهذه المسألة، كافيا لدفع المسؤولين الإسرائيليين للتفكير مليا ولتحذير أولئك الذين يسارعون للدفاع عن فكرة تحقيق الاستقلالية لإسرائيل، كما فعل البعض سابقا بشكل غير مسؤول أثناء الخلاف الذي نشب حول الاتفاق النووي الإيراني.
المصدر: نيوزويك