تعمل كوريا الشمالية منذ انتهاء الحرب الكورية 1950 – 1953 لامتلاك السلاح النووي وصواريخ بالستية قادرة للوصول إلى الولايات المتحدة لحماية نفسها من أي اعتداء أمريكي على أراضيها. في تلك الآونة استصدرت أمريكا من مجلس الأمن باستخدام القوة العسكرية ضد كوريا الشمالية بعد توغل الأخيرة في أراضي كوريا الجنوبية، وهو ما أدى لاشتعال أزمة دولية ودخول الكوريتين في حرب الثلاث سنوات 1950- 1953 والتي هددت فيها أمريكا باستخدام القنبلة الذرية ضد الجيش الشعبي الكوري الشمالي.
ومنذ تلك الحرب وكوريا الشمالية تخشى على وجودها ومستقبلها حيث بدأت التفكير بالتسلح النووي لمواجهة خطر أمريكيا وحلفائها وقد استفادت كثيرًا من الخبرات الروسية والصينية والباكستانية وجهزت طواقم علمية تزيد على 3 آلاف عالم وباحث لإنجاز المشروع النووي الكوري الشمالي.
بعد اتهام أمريكا لكوريا بامتلاك برنامج سري لتخصيب اليورانيوم وتصنيفها ضمن دول محور الشر، دفع كوريا في عام 2002 إلى طرد المفتشين الدوليين وإزالة الأختام عن المعمل وإغلاق كميرات المراقبة في مفاعل “يونجيبيون” النووي وتحدي واشنطن والعالم لإنتاج الأسلحة النووية. وقد نجحت في إجراء تجارب نووية عدة وامتلاك صواريخ بالستية، وهو ما أفقد صواب البيت الأبيض وجعلها تجند العالم لإصدار عقوبات دولية ضدها.
وبين الفينة والأخرى تثير واشنطن زوبعة حول نيتها استخدام القوة العسكرية وتشديد العقوبات الاقتصادية للتضييق عليها، وما يحصل اليوم هو جزء من سلسلة مستمرة منذ ذلك الوقت.
كوريا مصممة على تهديد أمريكا
حتى الآن أقدمت كوريا على 5 تجارب نووية وأطقلت العديد من الصواريخ البالستية، إلا أن فترة الرئيس ترامب تشهد تصاعد كبير في حدة التصريحات والأفعال من كلا البلدين. إذ هددت هيئة الأركان الكورية الشمالية في أبريل/نيسان الماضي بتوجيه ضربة لحاملة الطائرات الأمريكية “كارل فينسون” في حال أي هجوم أمريكي، ووصفت إرسال الولايات المتحدة سفنًا حربية إلى مياه شبه الجزيرة الكورية بالخطوة المتهورة.
كما حذر نائب وزير خارجية كوريا الشمالية مما وصفه باستفزاز واشنطن لكوريا الشمالية عسكريًا، مشددًا على أنه إذا قامت الولايات المتحدة بمناورات عسكرية استفزازية فستواجه ذلك بضربة استباقية. جاء غضب كوريا الشمالية عقب قرار ترامب بتحريك حاملة الطائرات “كارل فينسون” وثلاث سفن قاذفة للصواريخ إلى شبه الجزيرة الكورية، و”أسطول” يضم غواصات، وهو ما أدى بنظام بيونغ يانغ لوصف هذا الانتشار العسكري الأمريكي بأنه “جنوني”.
الولايات المتحدة لديها خيارات غير نووية في المنطقة لاستهداف المواقع النووية لكوريا الشمالية، مثل اعتماد الضربات الجوية وصواريخ كروز
ومنذ أيام جاءت تغريدة الرئيس ترامب لتثير عاصفة كبيرة بين البلدين تهدد باندلاع حرب نووية في العالم، حيث كتب ترامب في تغريدة على حسابه الرسمي في “تويتر” “أول أمر أصدرته منذ توليت الرئاسة كان يتعلق بتحديث وتجديد الترسانة النووية الأمريكية، وهذه الترسانة أصبحت الآن أقوى بكثير من أي وقت مضى”. وأضاف: “آمل أننا لن نضطر إلى استخدام هذه القوة.. غير أنه لن يحين وقت سنخسر فيه الصدارة بين أقوى شعوب العالم”.
وقال ترامب في معرض رده على سؤال صحفي وجه إليه، الثلاثاء الماضي “من الأفضل لكوريا الشمالية عدم توجيه المزيد من التهديدات للولايات المتحدة، لأنها ستواجه النار والغضب التي لم يشهدها العالم من قبل”.
يأتي تهديد الرئيس الأمريكي عقب تقارير أمنية تداولتها وسائل إعلام، تحدثت عن قدرة كوريا الشمالية على تثبيت رأس نووي حربي في الصواريخ البالستية. وكانت بيونغ يانغ قد اختبرت صاروخين بالستيين في مناسبتين مختلفتين من الشهر الماضي، تبعهما فرض الولايات المتحدة والأمم المتحدة عقوبات اقتصادية مشددة على كوريا الشمالية، بسبب خرقها قرار مجلس الأمن الدولي لحظر الأسلحة البالستية المفروض عليها.
إلا أن كوريا لم تقف صامتة حيال تلك التصريحات، حيث صرحت بيونغ يانغ نيّتها ضرب جزيرة غوام الأمريكية، الواقعة على بعد 3500 كيلومتر من كوريا الشمالية في المحيط الهادئ،”ردًا” على تغريدة الرئيس ترامب، توعّد فيها الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بـ”النار والغضب”.
كما أعلن الجيش الكوري الشمالي أنه “يضع اللمسات الأخيرة على خطة لإطلاق صواريخ باتجاه جزيرة غوام تطير فوق اليابان”. وأوضح أنه “سيتم إطلاق 4 صواريخ بصورة متزامنة، ستعبر فوق مناطق شيمان وهيروشيما وكويشي اليابانية”، وأضاف أن “الصواريخ ستحلّق 17 دقيقة و45 ثانية على مسافة 3356.7 كيلومترًا وتسقط في البحر على مسافة 30 أو 40 كيلومترًا من غوام خارج المياه الإقليمية الأميركية”. وتأوي الجزيرة منشآت أمريكية استراتيجية من قاذفات ثقيلة بعيدة المدى ومقاتلات وغواصات، تشارك بانتظام في تدريبات ومناورات في شبه الجزيرة الكورية والمناطق المجاورة لها، ما يثير غضب بيونغ يانغ.
سيكون هناك احتمال حقيقي لكسر تحالفات أمريكا مع اليابان وكوريا الجنوبية وضمان العداء الدائم من الصين وروسيا في حال استخدام السيناريو النووي ضد كوريا الشمالية
ونقلت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية عن الجنرال في جيش الشعب، كيم راك غيوم، قوله أمس الخميس حول ترامب وتصريحاته، إن “الحوار الصحيح غير ممكن مع شخص كهذا، لأنه فاقد للإدراك ولا يجدي معه سوى القوة المطلقة فقط”. وكان ترامب أكد أمس، الخميس، إن تهديده لبيونغ يانغ بـ”النار والغضب لم يكن قويا بما فيه الكفاية”. وأضاف أن “على بيونغ يانغ أن تحسن التصرف وإلا فإنها ستدخل في ورطة لا مثيل لها”.
هل تنفذ كوريا تهديدها؟
في حال إطلاق صواريخ على جزيرة غوام، ستجد واشنطن نفسها في موقف مدافع، برأي محللين وإن لم تحاول اعتراض تلك الصواريخ، ستتضرر مصداقية البيت الأبيض وسيدفع ذلك بيونغ يانغ إلى المضي قدمًا واختبار صاروخ بالستي حقيقي عابر للقارات. ومن جهة أخرى، فيما لو حاولت اعتراض صواريخ كوريا الشمالية، ونجح صاروخ واحد في اختراق دفاعاتها، عندها ستكون فاعلية الأنظمة الدفاعية الأمريكية موضع تشكيك.
يونغ يانغ تتوعد بضرب جزيرة غوام الأمريكية، الواقعة على بعد 3500 كيلومتر من كوريا الشمالية في المحيط الهادئ،”ردًا” على تغريدة الرئيس ترامب، توعّد فيها الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بـ”النار والغضب”.
خبراء أشاروا إلى وضوح التهديدات الكورية وجديتها وتنطوي على مخاطر قابلة للتصديق، والتطبيق في أي وقت، لوضع حد لطلعات قاذفة القنابل الأمريكية الاستراتيجية بي 1، بالإضافة إلى وضع حد للاستفزازات الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية، خلافًا لتهديدات ترامب التي تحتمل التأويل، بالإضافة إلى المسارات الأخرى التي تسعى الإدارة الأمريكية القيام بها لحل الأزمة بين البلدين، عبر التفاوض من خلال وزارة الخارجية.
ماذا عن تهديدات أمريكا؟
من جهة الإدارة الأمريكية وإمكانية تنفيذ تهديداتها، يبقى خيار المفاوضات قائمًا على الرغم من الحدة والتصعيد في لهجة ترامب مؤخرًا. مع العلم أن ترامب غير متبني لهذا النهج بشكل كبير. حيث رد على سؤال عن خيار الحل الدبلوماسي، قائلا “بالطبع نحن دائما نأخذ بعين الاعتبار خيار المفاوضات. لقد تفاوضنا معهم طوال 25 عامًا. أنظر إلى كلينتون كيف كان ضعيفًا وغير مؤثر في المفاوضات. أنظر لما حصل مع بوش ومع أوباما. لم يرد أوباما حتى الكلام عن هذه الأزمة، لكن أنا أتكلم الآن. لا بد من شخص يقوم بهذه المهمة”، بحسب قول ترامب.
الحديث عن استهداف كوريا الشمالية بأسلحة نووية من قبل أمريكا هو حديث وهمي لا يمكن الاعتداد به
أما عن تفاصيل الرد فقد رفض ترامب الإدلاء بأي تفاصيل حول رد واشنطن على التهديدات الكورية، مجددا التلويح بـ”ضربة لنظام كيم جونغ أون لم يشهد العالم مثيلا لها”.
فيما يسير وزير الخارجية الأمريكي، تيلرسون بالخط الدبلوماسي ساعيًا لتدارك الأمور وحل الأزمة عبر التفاوض. إلى جانب هذا يرتكز تيلرسون على الصين، وهي أهم حليف وشريك تجاري لكوريا الشمالية، والتي كررت دعواتها للهدوء بين واشنطن وبيونع يانع، وعبّرت عن خيبة أملها لتكرار بيونغ يانغ تجاربها النووية والصاروخية ولسلوك كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، مثل إجراء تدريبات عسكرية، وهو ما تراه تصعيدًا للتوتر.
من جنب آخر، أخذ البنتاغون على عاتقه الاستعداد عسكريًا لأي طارئ في هذه الأزمة حيث قام وزير الدفاع، جيمس ماتيس، بجولة تفقدية لقواعد عسكرية في غرب الولايات المتحدة. وأعلنت وزارة الدفاع أن ماتيس سيزور قاعدة كيتساب البحرية في سياتل بواشنطن، ووحدة الابتكار التجريبي الدفاعي في “وادي السيليكون” بولاية كاليفورنيا. وتهدف جولة ماتيس إلى الاطلاع على الاستعدادات العسكرية الأمريكية وجهوزيتها المتعلقة بقدرات الدفاع الصاروخية وقدرات الردع الصاروخي، استعدادًا لأي هجوم محتمل بالصواريخ البالستية العابرة للقارات القادمة من كوريا الشمالية.
كما زار ماتيس في هذا الإطار أهم غواصة نووية أمريكية وهي “USS Kentucky”، التي تعد السلاح الأكثر فتكًا في أسطول البحرية الأمريكية، وهي إحدى أضخم الغواصات التي تم تطويرها، وبإمكانها شن هجوم نووي على أي بلد في العالم، وتحمل 24 صاروخًا من طراز ترايدنت تزيد قوة كل واحد منها 80 مرة عن القنبلة التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.
يتفق العديد من الخبراء والمحللين أن أفضل رد أمريكي على كوريا الشمالية هو الاحتواء والردع.
ومع كل تلك التصريحات الحادة والتجهيزات العسكرية، يرى خبراء أن الحديث عن استهداف كوريا الشمالية بأسلحة نووية هو حديث وهمي ولا يمكن الاعتداد به. ولكن في حال توقع سيناريو نووي من قبل أمريكا ضد كوريا الشمالية، فإنّ أسطول القوات الجوية الأميركية، الذي يحوي على 20 قاذفة من نوع “نورثروب بي 2 سبيرت” ستقوم بهذه المهمة. وذلك الأسطول هو عبارة عن طائرات حربية توجد عند سلاح الجو الأميركي فقط، وصممت كقاذفة للصواريخ النووية.
كما عبر خبراء أن “أي ضربة لصاروخ باليستي عابر للقارات أو مطلق من إحدى الغواصات، يمكن أن يفسر من قبل الصين وروسيا على أنّه ضدهم. لذلك هذا الخيار خارج إطار البحث”، ويمكن أن تكون الأضرار الجانبية التي قد تلحق بشبكة حلفاء الولايات المتحدة وبمكانة واشنطن في العالم “كارثية” فيما لو استخدم الخيار النووي. ورجح مراقبون أن تعتمد الضربة الأمريكية على قاذفات “نورثروب بي 2 سبيرت”، التي تستخدمها القوات الجوية الأميركية.
ولدى واشنطن خيارات عسكرية تقليدية، علمًا أنّه لا يوجد ضمان للنجاح في حال اعتمادها. وعلاوة على ذلك، يشير محللون إلى قدرة كوريا الشمالية على الرد بواسطة صواريخها البالستية المتنقلة، التي صُممت لتخريب الضربة الأولى عن طريق تفتيتها.
وفي هذا الإطار، يقول دافنبورت كيلسي دافنبورت، مدير سياسة منع انتشار الأسلحة في جمعية “مراقبة التسلح”، لمجلة “ذا ناشونال إنتريست” إن “الولايات المتحدة لديها خيارات غير نووية في المنطقة لاستهداف المواقع النووية لكوريا الشمالية، مثل اعتماد الضربات الجوية وصواريخ كروز”.
ويحذر هولمز، وهو أستاذ الاستراتيجية في كلية الحرب البحرية الأميركية، متحدثًا لمجلة “ذا ناشونال إنتريست” “سيكون هناك احتمال حقيقي لكسر تحالفاتنا مع اليابان وكوريا الجنوبية وضمان العداء الدائم من الصين وروسيا”، وأضاف قائلا “سنعرّض أيضًا موقفنا كضامن للنظام الدولي إلى الخطر. لذا فإن إجابتي ستكون: الضربة الأولى لن تكون فعالة حتى لو نجحت. النتائج والعوائد لا تبرر التكاليف الهائلة”. ويتفق العديد من الخبراء والمحللين أن أفضل رد أمريكي على كوريا الشمالية هو الاحتواء والردع.
بالرجوع إلى جذر المشكلة وهي امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي التي لم تستطع واشنطن منذ البداية بترها على مدار السنوات الماضية، فإنها غير قادرة اليوم على المغامرة بضربة نووية أو حتى تقليدية ضد كوريا الشمالية بسبب المعلومات التي تمتلكها حول إمكانية إطلاق كوريا الشمالية صواريخ بالستية عابر للقارات ضدها، وإفشال أي ضربة استباقية، وهو ما سيضع أمريكا محليًا وعالميًا في موقف مربك.