عن عمر يناهز الـ90 عامًا، رحل المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين مهدي عاكف، داخل محبسه بـ”ليمان طرة”، دون أن يشفع له سنّه لدى النظام المصري، وكان “الإهمال الطبي” وسيلة عمد إليها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي مع “الشيخ المسن”، وكذلك مع غيره لتصفية القيادات المعارضة المحتجزة في السجون، خصوصًا المنتمية لجماعة “الإخوان المسلمين”.
عاكف.. ورحلة الموت البطيء
تبدأ رحلة أربع سنوات من المعاناة باعتقال قوات الأمن المصري لمرشد الإخوان السابق، بعد انقلاب وزير الدفاع آنذاك ورئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي على الرئيس المعزول محمد مرسي، في الثالث من يوليو/تموز 2013، ليتنقل خلالها بين عدد من السجون، كان بدايتها سجن العقرب، وانتهى به الأمر داخل سجن طرة.
وخلال تلك السنوات تدهورت حالته الصحية لعدم تحمله ظروف الاعتقال، لكن النظام أصر على عدم الإفراج عنه، رغم تأكد إصابته بسرطان البنكرياس، وأمراض أخرى ذكرها بيان حقوقي أصدرته منظمة هيومن رايتس مونيتور، منها (قصور في شرايين المخ نتج عنه قلة في الدم، وهو الذي تسبب بدوره في الإغماء المتكرر بجانب كبر سنه، فهو مصاب بأمراض الشيخوخة وضيق التنفس ومصاب في العمود الفقري).
وأثارت الصور التي نُشرت للمرشد العام السابق لجماعة اﻹخوان المسلمين مهدي عاكف، خلال جلسة محاكمته في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”أحداث مكتب الإرشاد” التي كانت بعام 2013، ضجةً واستنفارًا حقوقيًا لظهوره في حالة صحية متدهورة بشكل كبير، وهذا ما أكدته وفاء عزت زوجته.
ووسط تقارير حقوقية وصحفية تتحدث عن إصابته بانسداد في القنوات المرارية والسرطان، تزايدت مطالبات بالإفراج الصحي عن عاكف، حيث قدم أهله وهيئة دفاعه طلبات عديدة للنائب العام وقاضي المحاكمة للإفراج الصحي عنه، لكنها قوبلت جميعها إما بالرفض أو التجاهل.
دفع ذلك منظمة هيومن رايتس مونيتور لإدانة الإهمال الطبي الذي تسبب في تدهور حالة مهدي عاكف صحيًا، وطالبت بضرورة الإفراج عنه، كما طالبت بضرورة وقف الانتهاكات غير القانونية بحق المُعتقلين السياسيين في سجون النظام، مؤكدة أن الحق في الحصول على الرعاية الطبية اللازمة حق أساسي تقره جميع الدساتير والإعلانات العالمية والمواثيق الدولية.
تعنتت سلطات الأمن المصرية مع عاكف في حياته، كذلك فعلت بعد وفاته، حيث ترددت الأخبار عن منع أجهزة الأمن تنظيم صلاة الجنازة، وإجبار أسرته على دفنه ليلاً دون جنازة
لكن تلك المطالبات لم تفلح، فقد ودع عاكف الحياة وهو محبوس على ذمة قضية واحدة، وهي المعروفة باسم “أحداث مكتب الإرشاد”، وحصل على حكم بالمؤبد (25 عامًا)، وألغته محكمة النقض في يناير/كانون الثاني الماضي، وتعاد محاكمته من جديد.
وحملّت الجماعة – في بيان – السلطات المصرية المسؤولية الكاملة عن وفاة مرشدها السابق، لإصرارها على حبسه والتنكيل به رغم مرضه وتقدم عمره فتعمدت قتله، واعتبر المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين طلعت فهمي أن وفاة عاكف قتل ممنهج وجريمة مكتملة الأركان.
وكما تعنتت سلطات الأمن المصرية مع عاكف في حياته، كذلك فعلت بعد وفاته، حيث ترددت الأخبار عن منع أجهزة الأمن من تنظيم صلاة الجنازة، وإجبار أسرته على دفنه ليلاً دون جنازة، وهو ما تعتبره الجماعة “إمعانًا في التنكيل بشخص المتوفى”.
وفاة مهدي عاكف داخل محبسه في سجن طرة، تعيد إلقاء الضوء على الأوضاع الطبية داخل السجون، وبخاصة أنها حالة الكثير من السجناء المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية لم يصدر فيها حكم بعد.
القتل بالإهمال الطبي.. عقيدة السجن الجديدة
وسط اعتياد المتابعين للمشهد المصري على أخبار وفاة معتقلين داخل أماكن الاحتجاز جراء التعذيب، ظهر ما يسمى وفيات المحبوسين على ذمة قضايا سياسية بسبب تدهور حالتهم الصحية، وبات اعتقال الآلاف تعسفيًا في ظروف غير إنساينة وإهمالهم طبيًا والتعنت في تقديم الرعاية الطبية اللازمة لهم، أحد أساليب النظام في التنكيل بالمعارضين له.
وفي أحدث تقرير لمركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب، قدم فيه رصدًا لأحوال السجون، جاء فيه أنه من بين ٢٧٢ حالة وفاة على يد الشرطة خلال العام الأول لحكم السيسي، فإن هناك ٩٧ حالة إهمال طبي، بين سجناء سياسيين وجنائيين، لم تؤدِ كلها إلى الوفاة.
ووثق المركز خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحاليّ، تنوع حالات الإهمال الطبي التي أدت إلى الإصابة بأمراض الكبد والطحال ونزيف وارتشاح في الرئة وأزمات صدرية وأمراض القلب وضمور الأطراف وأمراض الكبد والكلى وانتشار الجرب والانفصال الشبكي والانهيار العصبي والتسمم من أكل السجن والتهاب الزائدة الدودية والتهاب الغدة النكافية والتهاب حاد بالمعدة والرئة والربو الشعبي والتهاب كبدي وصفراء وتوقف العلاج الطبيعي في حالات الكسور والخلع وغيرها من الأمراض والمضاعفات.
ووفقًا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بالتشارك مع حملة “يا تعالجوهم يا تفرجوا عنهم“، للمطالبة برعاية صحية أفضل للسجناء، وتفعيل الإفراج الصحي، فهناك أكثر من 800 حالة إهمال طبي بالسجون، ويقول عمرو الكيلاني منسق الحملة: “التعنت من قبل إدارات السجون في رفضها لعلاج السجناء تساعد على زيادة العدد، فضلًا عن عدم تطبيق لائحة السجن”.
المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بيان لها مؤخرًا: “أعداد المتوفين والقتلى داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية آخذة في الارتفاع في ظل استمرار السياسات اللاإنسانية”
وتؤكد منظمة حقوق الإنسان أن مصر ملزمة بموجب القانون الدولي بتوفير رعاية صحية للمحتجزين تماثل الرعاية المتاحة للمواطنين الطلقاء، وتضيف أن “سلطات السجون ترفض بصفة روتينية تقديم الرعاية التي قد تنقذ حياة المحتجزين” الذين تقول تقديرات إن عددهم في السجون المصرية يصل إلى نحو أربعين ألف معتقل سياسي.
وفي تقرير لمنظمة هيومان رايتس مونيتور، وثقت فيه بعض حالات الاعتقال التعسفي التي جاءت في ظروف صحية صعبة، مطالبة بفتح تحقيق دولي في انتهاكات السلطات المصرية ضد المرضى في سجونها، مما يؤدي إلى قتلهم بشكل جماعي، مما يؤكد استغلالها للمرض في قتل معارضيها، بل وتعذيبها لهم بشكل ممنهج يفضي إلى الموت.
وفي تقرير آخر للمنظمة ذاتها، رصدت فيه عدد من حالات الإهمال الطبي في الآونة الأخير الذي يتعرض لها المعتقلون في السجون المصرية، حيث تمعن الأجهزة الأمنية في مصر في قتل المعارضين والمعتقلين باحتجازهم في ظروف غير إنسانية ومنع الدواء عن المرضى منهم، رغم أن بعضهم يصاب بالأمراض نتيجة تلوث أماكن الاحتجاز واكتظاظ عدد المعتقلين داخلها مع عدم تلقي المرضى رعاية صحية مناسبة ومنع دخول الأدوية لهم مما ينقل العدوى بسرعة بين المعتقلين.
أما المنظمة العربية لحقوق الإنسان فقالت في بيان لها مؤخرً”: “أعداد المتوفين والقتلى داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية آخذة في الارتفاع في ظل استمرار السياسات اللاإنسانية في التعامل مع المحتجزين من قبل الأجهزة الأمنية”.
القتل المتعمد دون أن تُسال الدماء
مع تزايد العنف الشرطي لقوات الأمن المستخدم بشكل ممنهج بحق المعارضين للنظام ومعتقلي الرأي، أصبح سماع قصة تعذيب أحد المعتقلين ووفاته جراء التعذيب البدني أو النفسي أو وفاة آخر نتيجة لمنع العلاج عنه كل يوم أمرًا اعتاد المصريون على سماعه، في ظل الحكم الحالي في مصر.
وكانت وفاة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية عصام دربالة، ولأسباب صحية تباينت تقديراتها بين زعم وزارة الداخلية أن سبب الوفاة هو حالته الصحية السيئة قبل دخوله السجن، واتهامات ذوي المُتَوفى بأن ذلك حدث بسبب الإهمال الطبي المتعمد، لكنها فتحت النار مجددًا على الملف الأسود للانتهاكات التي تُزهق فيها الأرواح دون قطرة دماء.
ونشرت صفحة حزب “البناء والتنمية” على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بيانًا يندد فيه الحزب بما وصفه بـ”اغتيال الدكتور عصام دربالة” عن طريق الإهمال الطبي، بينما نشرت صفحة الحزب تغريدات لعدد من الشخصيات المحسوبة على “تحالف دعم الشرعية” تُرجع الوفاة إلى منع دخول أدوية مرض السكر إلى دربالة منذ أشهر، ورفض السجن محاولات نقله للمستشفى.
وفاة دربالة، الذي كان محبوسًا احتياطيًا في سجن طرة، سبقها وفاة مرجان سالم، وهو أيضًا أحد القياديين بالجماعة الإسلامية، والذي كان مسجونًا في سجن العقرب شديد الحراسة بمجمع طرة، وهو السجن نفسه الذي توفي فيه أيضًا نبيل المغربي القيادي بالجماعة والمتهم في القضية نفسها مع سالم، وإن كان قد توفي قبل سالم بشهرين.
كما توفي القيادي بالجماعة الإسلامية عزت السلاموني داخل سجن ليمان طرة، بعد أن بدأ العد التنازلي لحياته في 27 من يوليو، ليقضى في داخل إحدى الزنازين في أول أغسطس 2015، وفي اليوم نفسه توفي أحمد غزلان المتهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، بسجن الأبعادية بدمنهور، وقبلهم توفي طارق الغندور القيادي في حزب “الحرية والعدالة” وأستاذ الطب بجامعة عين شمس. وقد توفي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، بعدما تعرض في سجنه لنزيف حاد استمر 8 ساعات بلا مغيث، حسب ما أكد شقيقه أسعد الغندور في أحد اللقاءات الإعلامية.
هناك المئات الذين ما زالوا يعانون الإهمال الطبي، وتتوقع المنظمات الحقوقية أن يلقوا حتفهم في سجون النظام إذا استمر الوضع كما عليه الآن
غير هؤلاء، توفي عضو مكتب الارشاد في جماعة الإخوان في مصر المهندس عبد العظيم الشرقاوي، داخل المستشفى العام في بني سويف، بعد احتجازه 6 أيام داخل قسم العناية المركزة في المستشفى إثر تدهور حالته الصحية داخل سجن بني سويف. وفي 25 من مايو 2015، توفي النائب الإخواني السابق محمد الفلاحجي في سجن جمصة العمومي، نتيجة ما وصفته الأوساط الإخوانية بـ”الإهمال الطبي في السجن”.
الاتهامات نفسها تكررت مع السجناء جميعهم، ففي كل المرات تم اتهام وزارة الداخلية بالتعنت في السماح بإدخال الأدوية للسجناء ورفض تحويلهم للمستشفى أو بقائهم بها رغم حالتهم الصحية التي تستدعي ذلك، بحسب ذويهم، مما أدى إلى تدهور حالتهم الصحية ووفاتهم، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع إسماعيل فريد البرلماني السابق وعضو حزب “الحرية والعدالة”، وثاني أشهر قيادات الإخوان الذين توفوا داخل السجون بسبب أزمة قلبية.
وهناك المئات الذين ما زالوا يعانون الإهمال الطبي، وتتوقع المنظمات الحقوقية أن يلقوا حتفهم في سجون النظام إذا استمر الوضع كما عليه الآن، ووثق مركز الشهاب الحقوقي أبرز الحالات التي توصل خلال الفترة الماضية، والتي لم تقم السلطات بالتعامل معها حتى الآن.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك بعض الشخصيات التي سلط الإعلام الضوء عليها، ومنها:
– هشام جعفر، باحث وصحفي معتقل منذ أكتوبر عام 2015، وحبس احتياطيًا في سجن العقرب من حينها حتى الآن، بظروف صحية حرجة.
– محمود شوكان، مصور صحفي معتقل احتياطيًا منذ حوالي 1500 يوم، يعاني من التهاب الكبد الفيروسي والأنيميا الحادة، ولا يزال العلاج مطلبًا بعيدًا صعب الحصول عليه.
– يوسف شعبان، صحفي معتقل منذ 11 من مايو 2015 على ذمة قضية قسم الرمل، مصاب بالتهاب الكبد الفيروسي من الدرجة الأولى، ولا يُعرف اليوم مدى تراجع حالته الصحية.
القتل الممنهج.. “هؤلاء الذين داسوا على القانون”
في الوقت الذي تفرض فيه وزارة الداخلية السرية التامة على السجون، وتمنع المنظمات الحقوقية من التفتيش، فإن الحكومة تخرج لتهاجم التقارير الدولية التي ترصد التعذيب والإهمال الطبي داخلها، لكن السجون المصرية نالت سمعة سيئة بسبب التقارير الدولية، وهذا ما تعتمد عليه الدول الكبرى مثل أمريكا في قراراتها مع دول مثل مصر.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها إن السلطات المصرية احتجزت ما لا يقل عن 41 ألف شخص بين يوليو/تموز 2013 ومايو/أيار 2014 فقط، مما تسبب في الضغط على السجون المصرية ومفاقمة ظروف الاكتظاظ القائمة في أقسام الشرطة ومديريات الأمن.
في هذا الشأن أيضًا، رصد المجلس القومي لحقوق الإنسان في تقريره السنوي نسبة التكدس داخل أقسام الشرطة، وذكر أنها بلغت ٤٠٠%، وفي السجون وصلت إلى ١٦٠%، مما دفع السلطات الرسمية إلى بناء سجون جديدة، وصل عددها إلى 5 سجون تم افتتاحها بعد 3 من يوليو/تموز 2013، وبدأت بسحن ليمان جمصة شديد الحراسة بمحافظة الدقهلية، وكان آخرها افتتاح سجن “15 مايو” جنوب القاهرة ويتسع لأربعة آلاف سجين، بالإضافة إلى سجنين تحت الإنشاء من المقرر الانتهاء منهما خلال أشهر، ليصل عدد السجون المصرية إلى 42 سجنًا في أنحاء البلاد كافة، بحسب تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
لا يزال المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر يعزف منفردًا بنفيه المتكرر وقوع تلك الانتهاكات
ووفقًا للائحة السجون من المسموح للسجناء تلقي العلاج داخل السجن، ويُفترض أن توفر لهم وزارة الداخلية جميع الأدوية المطلوبة، غير أن إدارة السجن في كثير من الأحوال تتعلل بعدم وجود الأدوية المطلوبة لديها، وفي هذه الحالة من البديهي أن تسمح بدخولها من الخارج خلال زيارات الأهالي، إلا أن ما يحدث أن الإدارة ترفض بدعوى “أنها لا تعرف طبيعة هذه الأدوية، أو أن طبيب السجن غير موجود للكشف عليها وتحديد إمكانية السماح بدخولها”.
وبحسب شهادات أسر السجناء، فإن سلطات السجون ترفض في العادة نقل المرضى منهم للمستشفيات أو إرسال أطباء للكشف على الحالات الحرجة، وتضغط على الأطباء لكتابة تقارير طبية توحي بأن السجناء في حالة صحية أفضل من حالتهم الحقيقية، بما يخالف اللوائح القانونية للسجون.
وفيما ينص الدستور المصري على أن “معاملة السجين يحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان أو يعرض صحته للخطر”، تُحصي جماعات حقوقية مصرية ودولية مئات حالات الوفاة جراء الإهمال في السجون المصرية خلال العامين الماضيين.
وعلى الرغم من تواتر شهادات المعتقلين وأهاليهم، وكذلك توثيق وإدانة المنظمات الحقوقية الدولية لما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات صارخة، لا يزال المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر يعزف منفردًا بنفيه المتكرر وقوع تلك الانتهاكات، فقد خلص تقرير أصدره مؤخرًا بعد زيارة لسجن العقرب – السيئ السمعة حسب منظمات حقوقية دولية – إلى “عدم وجود أي شبهة لتعذيب ممنهج في السجون المصري”.
بعد كل هذا تقول الحكومة المصرية: “قطاع السجون بوزارة الداخلية يتعامل مع جميع المحبوسين، وفقًا لما تنص عليه قوانين حقوق الإنسان”، لكن عن أي قوانين تتحدث؟