ترجمة وتحرير: نون بوست
قام بعض ضباط الشرطة، الذين يرتدون زي أشبه “بروبوكوب” أسود وخوذات “دارث فيدر”، بمنع العديد من الأشخاص العاديين من التصويت. وفي الأثناء، لم يتوانوا عن ضرب المواطنين بالهراوات وإطلاق الرصاص المطاطي عليهم، مما أدى إلى إصابة الكثير من كبار السن بجروح. وقد تم تصوير كل تلك الأحداث بالهواتف الذكية وكاميرات الأخبار ونشرها في جميع أنحاء العالم.
من الناحية الأخلاقية، عادة ما كان الاتحاد الأوروبي يدين هذا النوع من أعمال العنف ويطالب بمعاقبة مرتكبيها. ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة هذه المرة، نظرا لأن المسألة تتعلق ببلد ينتمي له: إسبانيا. في واقع الأمر، وضعت القضية بشأن استقلال كتالونيا الاتحاد الأوروبي وأعضاءه في موقف حرج. فلطالما دافع الاتحاد الأوروبي عن الحقوق الديمقراطية الأساسية، على غرار حرية التعبير والتجمع الحر والتصويت.
في حين قد يكون الاتحاد الأوروبي بمثابة اتحاد للدول الديمقراطية، إلا أنه أولا وقبل كل شيء، اتحاد دولٍ ذات سيادةٍ. وبالتالي، حذر الاتحاد من مغبة تشجيع القوى الانفصالية التي تهدد الكثير من البلدان، فضلا عن الاتحاد في حد ذاته. ومما لاشك فيه أن الجميع قد انتبه إلى تناقضات وهدوء بروكسل النسبي تجاه هذه المسألة وخاصة الكتالونيين، الذين يساندون هذا الاتحاد، والذين أعربوا عن رغبتهم في انضمام كتالونيا إلى كتلة الاتحاد الأوروبي على اعتبارها دولة مستقلة.
خلال الشهر الماضي، تم تنظيم مسيرة احتجاجية تدعم الاستفتاء الكردي على الاستقلال في أربيل، العراق. لكن الاتحاد الأوروبي لم يؤيد استقلال الأكراد
في هذا السياق، صرّح الرئيس الحالي لإقليم كتالونيا، كارلس بوتشدمون، في منتصف ليلة الأحد بعد أن أعلن أن 90 بالمائة من الكتالونيين قد صوتوا لصالح الانفصال عن إسبانيا، أنه “لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يواصل النظر إلى هذه المسألة بطريقة سلبية”. يوم الاثنين الفارط، أفاد بوتشدمون أن المفوضية الأوروبية، أي الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي، “يجب أن تشجع على الوساطة الدولية” فيما يخص النزاع الذي يخوضه إقليمه مع إسبانيا. في المقابل، من غير المحتمل أن تتحقق تطلعات رئيس إقليم كتالونيا، نظرا لأنه بالنسبة إلى بروكسل، تعتبر مشكلة كتالونيا حكرا على إسبانيا، وليس للاتحاد الأوروبي أو لأعضائه علاقة بذلك.
من جانبها، وببساطة، أعلنت المحاكم الإسبانية أن التصويت الكاتالوني غير دستوري. وفي وقت تنامت فيه النزعات القومية والشعبوية وزاد انتشارها، آخر ما قد يرغب في فعله الاتحاد الأوروبي، هو تشجيع الحركات الانفصالية الإقليمية.
كما هو الحال في استفتاء اسكتلندا، الذي نظم في سنة 2014، والذي خلافا لتصويت كتالونيا، عُقد بمباركة من الحكومة المركزية، تم رفض استقلال البلاد. في الحقيقة، تخشى الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي تشجيع الحركات الانفصالية التي تنشط داخلها على غرار: الفلاميون في بلجيكا، واللومبارديون في إيطاليا، والكورسيكيون في فرنسا، والترانسيلفانيون في رومانيا. وفي ظل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ترفض دول الاتحاد تبني مواقف من شأنها أن تخلق المزيد من عدم اليقين الاقتصادي، والخلل القانوني والارتباك الأخلاقي في الاتحاد.
نصب تذكاري في بريشتينا، كوسوفو. وحتى اليوم، لا تعترف خمس من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة، بما في ذلك إسبانيا، باستقلال كوسوفو
في الإطار ذاته، دعا رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، يوم الاثنين، رئيس الوزراء الإسباني، ماريانو راخوي، إلى التمسك بموقفه القانوني. وفي الوقت ذاته، حثّه على “تجنب المزيد من التصعيد واستخدام القوة”. علاوة على ذلك، دعم رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، راخوي “والوحدة الدستورية” لإسبانيا، وذلك وفقا لما ورد في بيان أدلى به من قصر الإليزيه.
في سياق متصل، يتجلى خير مثال للمعارضة التي تبديها الكثير من البلدان تجاه النزعة الانفصالية الإقليمية، في عدم اعتراف خمسة دول من أصل 28 دولة في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إسبانيا، باستقلال كوسوفو، على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي نفسه قد حارب الجهود الصربية للاحتفاظ بهذه الأرض. فضلا عن ذلك، لا يدعم الاتحاد الأوروبي استقلال الأكراد أو القرميين.
عموما، كانت المواقف الرسمية للمفوضية الأوروبية وردود فعل القادة السياسيين الأوروبيين تجاه الأحداث في كتالونيا موحدة إلى حدٍّ كبير. وليس من المستغرب أن تعتبر إسبانيا، التي تقر بسيادتها، أن هذا الاستفتاء غير قانوني. ولكن العنف الذي سلطته على الكاتالونيين كان فظيعا، في حين ينبغي لمختلف الأطراف الجلوس لطاولة الحوار.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن الاستهانة وغض الطرف عن العنف الذي مارسته الشرطة فضلا عن استخدامها للرصاص المطاطي ضد المدنيين المسالمين الذين يحاولون ممارسة حقهم في الانتخاب. وعلى الرغم من أن ما حدث في كاتالونيا يوم الأحد بالكاد يُقارن مع إراقة الدماء في البوسنة وكوسوفو أو الربيع العربي، إلا أنه وقع في دولةٍ عضوٍ في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد، صرّح خبير في قانون ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في مركز دراسات السياسة الأوروبية في بروكسل، ستيفن بلوكمانز، أن “ما بدر من قرارات صادرة عن راخوي يعتبر أمرا كارثيا”.
الأعلام الاسكتلندية تحلق على الحدود بين إنجلترا واسكتلندا. خلافا للاستفتاء الكاتالوني، تمت عملية التصويت في اسكتلندا سنة 2014، بمباركة من قبل الحكومة المركزية في لندن
من جهته، صرّح ستيفن بلوكمانز أن ماريانو راخوي غذّى النقاش المتعلق بمسألة الاستقلال من خلال ردود فعله غير المناسبة والعشوائية، التي عمقت مخاوف بقية البلدان الأوروبية. وأضاف بلوكمانز أنه يتعين على إسبانيا أن تتطلع إلى النموذج البلجيكي، حيث عمدت الحكومة إلى نقل السلطة إلى الفلامنديين في كنف الهدوء، تماما كما فعلت مدريد بالفعل مع إقليم الباسك.
في سياق متصل، أشار بلوكمانز إلى أن بلجيكا استجابت لرغبة الفلامنديين في التمتع بقدر أكبر من الحكم الذاتي من خلال عملية الإصلاح الدستوري الحالية التي تجريها، حيث لا يوجد دستور “غير قابل للتغيير والتعديل”. وتجدر الإشارة إلى أن راخوي قلق من أن يؤثر استقلال كتالونيا على أماكن أخرى في إسبانيا. وقد خاضت منطقة الباسك، منذ عقود نزاعا ضد إسبانيا من أجل الحصول على الاستقلال، وذلك من خلال جماعة متمردة مسلحة تدعى إيتا، التي صُنفت منظمة إرهابية، جنبا إلى جنب مع جناحها السياسي، هيري باتاسونا.
على غرار الجيش الجمهوري الإيرلندي، وافقت إيتا أخيرا على إلقاء أسلحتها. وبالفعل، حصلت الباسك على حكمها الذاتي وتمكنت من السيطرة على عائدات الضرائب في منطقتها، مع العلم أن هذا المطلب يُعد من أحد المطالب الرئيسية للقادة الكاتالونيين. وفي شأن ذي صلة، قال بلوكمانز إن “مثال منطقة الباسك يحيل إلى مسارات مختلفة للأزمة الحالية”.
من جانب آخر، لم يعد الكاتالونيين يعتبرون المفوضية الأوروبية وسيطا محايدا. ومن هذا المنطلق، يمكن أن تضطلع لجنة البندقية للمحامين الدوليين، التي تعتبر جزءا من المجلس الأوروبي، في حين أنها هيئة مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، مع العلم أن جميع دول الكتلة أعضاء في صلب هذا الكيان.
تجمع مؤيد لروسيا في إيفباتوريا، التي توجد في شبه جزيرة القرم، سنة 2014. والجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي لا يؤيد استقلال القرميين
على العموم، يحتاج ماريانو راخوي وإسبانيا والكتالونيون على حد السواء، إلى المساعدة للخروج من الهوة التي وقعوا فيها. وفي السياق نفسه، أوضح ستيفن بلوكمانز أن “كلا الطرفين متشبثين بأفكارهما. ومثلما يحتاج راخوي إلى استئناف الحوار بشأن الإصلاح الدستوري، ينبغي على الكتالونيين ألا يتجاوزوا الحدود، حتى لا يخاطروا بعرقلة أي مفاوضات أخرى”.
عادة، تتبع المفوضية الأوروبية ما يعرف بعقيدة برودي، التي سميت تيمنا برئيس اللجنة السابقة، الإيطالي، رومانو برودي، والتي تفيد أنه يمكن للدولة الانفصالية أن تغادر الكتلة ولا يمكن أن تعود إلا إذا حصلت على الاستقلال، وذلك وفقا للقانون الدستوري الذي تضعه الدولة العضو التي تركتها. فضلا عن ذلك، لا يمكن أن تنضم أي دولة عضو جديدة للكتلة دون إجماع بالموافقة من جميع الأطراف الأخرى. وبالتالي، سيكون لإسبانيا حق النقض، ولكنها لن تكون وحدها.
من ناحية أخرى، أعرب رئيس المفوضية الأوروبية الحالي جان كلود يونكر عن تأييده “لسيادة القانون”. وفي الإطار ذاته، أورد يونكر أن بروكسل يجب أن تحترم قرارات الحكومة الإسبانية ومحكمتها الدستورية. بالإضافة إلى ذلك، صرحت اللجنة خلال العديد من المناسبات أن التصويت لصالح استقلال كتالونيا لن يتم الاعتراف به إلا إذا امتثل الاستفتاء للدستور الإسباني، وأقرت قانونيته. فضلا عن ذلك، أشاد يونكر بالتنوع الإقليمي، ولكنه شدد على أن “التقاليد الإقليمية” الثرية، ينبغي ألا تصبح “وسيلة في يد الحركات الانفصالية التي ترغب في تقسيم أوروبا”.
مسيرة تدعم استفتاء استقلال كتالونيا في مدينة بلباو، التي تقع في منطقة الباسك شمال إسبانيا. وبعد القتال على مدى عقود، فازت الباسك بحكمها الذاتي على الحكومة المركزية
في حين ظلت بروكسل والعديد من العواصم الأوروبية صامتة، أدان رئيس الوزراء البلجيكي، شارل ميشال، الذي يحكم التحالف مع الانفصاليين الفلاميين ويشغل منصب رئيس الأحزاب الاشتراكية في البرلمان الأوروبي، إجراءات الشرطة ودعا مدريد إلى استئناف الحوار مع الانفصاليين.
في تغريدة كتبها ميشال على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، أورد أن “العنف لا يمكن أن يكون الجواب المناسب!”. كما أعرب نظيره السلوفيني، ميرو سيرار عن “قلقه” ودعا إلى “الحوار السياسي وسيادة القانون، فضلا عن اتباع الحلول السلمية”. وتجدر الإشارة إلى أن البرلمان الأوروبي يقف بقوة إلى جانب إسبانيا، علما وأن البرلمان يرأسه حزب الشعب الأوروبي، وهو كتلة يمين الوسط التي ينتمي إليها كل من راخوي ويونكر، فضلا عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
في شأن ذي صلة، صرّح رئيس البرلمان الأوروبي، المحافظ أنطونيو تاجاني لصالح صحيفة كاتالان، الأسبوع الماضي، أن “تجاهل الدستور الإسباني يعتبر تقويضا للأسس القانونية للاتحاد الأوروبي بأسره”. وأضاف تاجاني أن “هذه هي القواعد”. ومن المثير للاهتمام أن يسار الوسط في البرلمان الأوروبي يؤيد احترام الدستور الإسباني.
على العموم، ستكون لطريقة تعاطي ماريانو راخوي الخاطئة مع الاستفتاء تأثير دائم. وفي حين قد يركن الطرفان إلى الهدوء في نهاية المطاف، إلا أن كتالونيا ستحاول إجراء المزيد من المحادثات التي تتمحور حول تعزيز الحكم الذاتي الكتالوني. من جانبه، كتب مدير مركز الإصلاح الأوروبي، تشارلز غرانت، على موقع التواصل الاجتماعي تويتر أنه “مهما كانت طبيعة الحقوق والأخطاء، فقد خسرت الحكومة الإسبانية المعركة الدولية، نتيجة الممارسات العنيفة التي سلطتها على الكاتالونيين”.
المصدر: نيويورك تايمز