ترجمة وتحرير نون بوست
بعد أن نجح الرئيس السوري بشار الأسد في هزيمة أو تحييد جزء كبير من المتمردين في بلاده، أخذ الاهتمام المحلي والدولي يتحول نحو الاستقرار وإعادة الإعمار. وبالتالي، بات من الممكن تصور سوريا ما بعد الحرب أو على الأقل أجزاء منها. في المقابل، لا تزال مجموعات واسعة من المجتمع الدولي، بما في ذلك، البلدان المانحة الرئيسية، ترفض شرعية الأسد ونظامه. وقد تخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها، عن حربهم بالوكالة في سوريا، التي كانت موجهة لدفع الأسد إلى طاولة الحوار والانسحاب من السلطة.
في الوقت الراهن، تبدو عملية إعادة الإعمار بمثابة ساحة المعركة القادمة لتشكيل النظام السياسي في سوريا. بالنسبة لمؤيدي المعارضة السورية، تعد صناديق إعادة الإعمار إحدى آخر وسائلها المتبقية للضغط على نظام الأسد. من جانبهم، يعمل الخبراء على اقتراح مخططات ملتوية لسبل قيام الغرب بإعادة بناء سوريا على الرغم من الأسد أو تأمين الدعم المادي لإعادة الإعمار شريطة أن يلتزم نظام الأسد بتقديم تنازلات سياسية. خلافا لذلك، يوجد حل أقل تعقيدا يتمثل في عدم تمويل مشاريع إعادة بناء سوريا الأسد.
في خطاب شديد اللهجة في آب / أغسطس، حذّر الأسد خصومه قائلا: “لن ندع الأعداء والخصوم والإرهابيين، بأي وسيلة، ينجحون من خلال السياسة في تحقيق ما فشلوا فيه في ميدان المعركة ومن خلال الإرهاب”. في الواقع، يجب على الدول الغربية أن تأخذ كلمات الأسد بعين الاعتبار، حيث لا يمكن أن يقع تشكيل أو إملاء شروط فيما يتعلق بعملية إعمار سوريا من قبل المانحين الغربيين، لأي غايات سياسية. في الوقت الحالي، هناك حجج إنسانية محدودة من شأنها أن تدفع هذه الدول للاستثمار في عملية إعادة الإعمار. ولكن من الناحية السياسية، ليس للغرب دور يؤديه في هذه العملية.
تحدي إعادة الإعمار
حسب التقديرات، ستكون تكلفة إعادة الإعمار في سوريا هائلة، حيث ننراوح بين 200 بليون دولار و350 بليون دولار. في الواقع، تتجاوز هذه المبالغ إمكانيات سوريا بكثير، أو قدرات حلفائها الإيرانيين والروس، على تأمينها. ومن المتوقع أن يقع عبء عملية إعادة الإعمار على عاتق الولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي واليابان، فضلا عن المؤسسات المتعددة الأطراف، التي من المرجح أنها ستقتدي بمانحيها الغربيين الرئيسيين، مثل البنك الدولي. ولتبرير المبالغ الهائلة، اقترح مؤيدو المعارضة أن أموال إعادة الإعمار من المحتمل أن تنجح في شراء تنازلات سياسية من قبل الأسد.
تشمل هذه المناطق مدنا مدمرة تماما مثل حلب وحمص، التي تحتاج إلى عملية إعادة إعمار واسعة النطاق، وذلك نظرا لاستخدام الأسد لجملة من التكتيكات العشوائية فضلا عن توظيف القوة الوحشية لاستعادة تلك المدن.
خلال 21 من أيلول / سبتمبر، أُعلن في بيان صادر إثر اجتماع للجهات الفاعلة (بما في ذلك المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) أن “دعم إنعاش سوريا وعملية إعادة الإعمار يتوقف على عملية سياسية ذات مصداقية، من شأنها أن تؤدي إلى انتقال سياسي حقيقي يكون بدعم من غالبية الشعب السوري”.
في السياق ذاته، قال المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، ديفيد ساترفيلد، عقب ذلك الاجتماع إن “تمويل مشاريع إعادة إعمار سوريا يعد من “أكبر العقبات” أمام الولايات المتحدة وحلفائها. وفي الأثناء، ينبغي إزاحة هذه الحواجز من أجل إرساء عملية سياسية ذات مصداقية”. وفي الإطار ذاته، أوضح وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، قائلا: “نملك ورقة رابحة نستطيع اللعب بها لإخضاع أياد ممدودة، تتمثل في المال الذي يمكن أن نقدمه لعملية إعادة إعمار سوريا”.
تحقيقا لهذه الغاية، دافع عدد من الخبراء عن عملية تمويل مشاريع محلية على نطاق محدود في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، تعمل دون مشاركته أو موافقته. وفي الحقيقة، لا تتمحور هذه المشاريع حول إعادة الإعمار، حيث يقدم المانحون الغربيون بالفعل مساعدة “لتحقيق الاستقرار”، من خلال دعم الحكم المحلي لبعض المناطق التي يسيطر عليها الأكراد أو المعارضة وإعادة تركيز الخدمات الأساسية فيها.
في واقع الأمر، تتسم هذه المساعدات بعدة مزايا، حيث تعمل على إبقاء هذه المناطق صالحة للسكن. ولكن ذلك لا ينفي محدودية الإنجازات التي قد تتحقق، لا سيما في المناطق الريفية التي لا تسيطر عليها الدولة، في حين لم تنته الحرب فيها بعد. من جانب آخر، لن تستهدف مشاريع إعادة الإعمار الإستراتيجية الفعلية ضواحي سوريا، بل ستشمل المناطق الأكثر اكتظاظا بالسكان والقطاعات الاقتصادية الحيوية في البلاد، التي يسيطر عليها الأسد.
في الأثناء، تشمل هذه المناطق مدنا مدمرة تماما مثل حلب وحمص، التي تحتاج إلى عملية إعادة إعمار واسعة النطاق، وذلك نظرا لاستخدام الأسد لجملة من التكتيكات العشوائية فضلا عن توظيف القوة الوحشية لاستعادة تلك المدن. بعبارة أخرى، لا يمكن إعادة توحيد البلد من خلال العمل في ظل وجود النظام الذي ساهم في تمزيقه.
طي الصفحة وتجاوز الأمر؟
تمتلك الدول المانحة، وخاصة تلك التي توجد في أوروبا، حججا مقنعة تدفعها للاستثمار في إعادة إعمار سوريا. أولا، يوجد أساس منطقي إنساني بحت، حيث يمكن أن تحسن مشاريع إعادة الإعمار بشكل طفيف حياة السوريين بعد سنوات من الحرب. وبالنسبة للأوروبيين، هناك احتمال إضافي يحيل إلى أن إعادة الإعمار (بما في ذلك الانتعاش الجزئي للاقتصاد السوري) من شأنه أن يساعد على إبقاء السوريين في منازلهم، ووقف موجات الهجرة التي زعزعت سياسات أوروبا في حد ذاتها.
يمكن أن يتودد لبعض الدول الأخرى غير السخية مثل الصين والهند وإيران، والحفاظ على الاقتصاد الهيكلي الذي اعتاد عليه السوريون وقت الحرب
حتى لو استفادت النخب المقربة من النظام من أموال إعادة الإعمار، سيصل بعضها على الأقل إلى الفئة المتوسطة من السوريين. وفي الوقت ذاته، قد يساعد هذا التمويل في كسب بعض الجهات المانحة لنفوذ في دمشق، إلى جانب حلفاء الأسد الإيرانيين والروس. أما فيما يتعلق بالالتزام بمبدأ التشارك مع الأسد، يزعم بعض الدبلوماسيين والمعلقين أن هذه مغالطة باهظة التكلفة. فضلا عن ذلك، استثمرت الكثير من البلدان المانحة في المعارضة السورية، ولكن حرب المعارضة انتهت في الغالب، وقد حان الوقت للتطلع إلى الأمام ومساعدة الأشخاص المحتاجين.
في حقيقة الأمر، تُعتبر الحجج الإنسانية، بشكل خاص، منطقية وذات قيمة. لكن المعطى الذي يعد غير مقنع البتة يتمثل في الادعاء بأن أموال إعادة الإعمار ستمنح المانحين الغربيين قدرا من السلطة لإجراء تحويرات جوهرية على مستوى السياسة السورية. وفي هذا الصدد، تعتبر فكرة أن المال الغربي قد يحفز، بطريقة ما، الأسد على التنازل عن العرش ضربا من الخيال ومحض أوهام. فبعد أن قاتل لسنوات من أجل البقاء في السلطة، لن يوافق النظام على الخضوع “لتحول سياسي حقيقي”، الذي تطالب به هذه البلدان.
من جانب آخر، يعتقد بعض المحللين أن الغرب يمكن أن يستخدم التمويل لكسب جملة من التنازلات بغية تغيير النظام، تتعلق باللامركزية الإدارية، والإفراج عن المحتجزين، فضلا عن فسح المجال للمجتمع المدني للنشاط في سوريا. في المقابل، يبدو أن الدبلوماسيين وغيرهم ممن تعاملوا مع دمشق لا يؤمنون أن الأسد مستعد للتخلي عن الكثير من صلاحياته. وفي سياق متصل، أورد دبلوماسي أوروبي أن “النظام سيحاول التنازل عن أشياء تفتقر لأي أهمية. وفي الأثناء، سيتمسك بهذه الأشياء لفترة طويلة لدرجة أنك ستعتقد أنها تنازلات فعلية. إذا كان النظام يملك شيئا لا يملكه الآخرون، فهو الوقت”.
من جهة أخرى، لن يُسمح للجهات المانحة بأن تضع نهاية لحكم الأسد. وقد قام النظام بالفعل بتهيئة البيئة الاقتصادية والتنظيمية لسوريا من أجل استيعاب وتوزيع أموال الإعمار الضخمة بشروطه الخاصة. ففي الحقيقة، تتكفل دمشق بإدارة المساعدات الإنسانية لمختلف الشركاء والموردين والجهات المانحة. ومن هذا المنطلق،هناك احتمال كبير أن السيناريو ذاته سيتكرر فيما يتعلق بأموال إعادة الإعمار.
أثنى الأسد على جملة من البلدان “الشرقية” التي لم يذكر اسمها، ولكن من المفترض أن تشمل الصين وإيران، التي تعاملت مع سوريا على اعتبارها نظيرا لها، في حين سخر من شعور الغرب المتضخم بنفوذه
والجدير بالذكر أن الأسد قد بادر بتفكيك أي جهاز قادر على أن يكون بديلا وشريكا محليا مستقلا له. فعلى سبيل المثال، وفي المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة وتمكن الأسد من استرجاعها، أقدم النظام على حل المجالس الإدارية المحلية التي كانت ترعاها جهات مانحة غربية. في المقابل، سمح النظام لبعض منظمات المجتمع المدني بالنشاط في المناطق الخاضعة لسيطرته، بما في ذلك المنظمات التي تقوم بمشاريع إنسانية أو إنمائية بدعم من المانحين الغربيين.
في شأن ذي صلة، أوضح دبلوماسي أوروبي أن نشاط هذه المنظمات يقتصر في الغالب على “المشاركة الاجتماعية، وليس السياسية. وبمجرد أن تتبنى توجهات سياسية، تواجه هذه المنظمات العديد من المشاكل”. من جانبهم، سيكتشف الغربيون، الذين يريدون المساومة في إطار هذه الصفقة المعقدة، أنهم يملكون نفوذا أقل مما كانوا يعتقدون.
على العموم، لا تقتصر المساعدات التي تحظى بها سوريا على المجتمع الدولي والجهات المانحة الغربية، حيث يعمل المسؤولون السوريون على تأكيد وإبراز الانتعاش الاقتصادي الوليد في البلاد وجذب الاستثمارات. كما أكدوا أنهم سيمنحون الأولوية للمستثمرين القادمين من الدول التي تقف إلى جانب دمشق. وفي هذا السياق، قال الأسد في خطاب أدلى به خلال شهر آب / أغسطس، إنه “سياسيا واقتصاديا وثقافيا، علينا أن ننظر إلى الشرق”.
فضلا عن ذلك، أثنى الأسد على جملة من البلدان “الشرقية” التي لم يذكر اسمها، ولكن من المفترض أن تشمل الصين وإيران، التي تعاملت مع سوريا على اعتبارها نظيرا لها، في حين سخر من شعور الغرب المتضخم بنفوذه. وفي هذا الإطار، أفاد الأسد أن “الغرب يعاني من جنون العظمة. “فكلما تحدث عن المجتمع الدولي فغالبا ما يعني بلدانه. وبالنسبة له، يعتبر بقية العالم مجرد قطعان من الماشية. كما يظن أنه إذا قام بقطع العلاقات مع بعض البلدان أنه قد قطع بذلك عنها الأوكسجين”.
من جهة أخرى، يتمتع الأسد بدوره بنوع من الغرور. ففي الواقع، يعتقد نظامه أن الدول الغربية التي تروم التطبيع الدبلوماسي أو تريد تمويل مشاريع إعادة الإعمار تعد في موقف ضعف. في الوقت ذاته، تدرك دمشق أن الغرب فشل في مشروعه لتغيير النظام في سوريا، وأن الدول الأوروبية على وجه الخصوص تعاني بشدة جراء أزمة الهجرة. وفي الأثناء، نجح النظام في مقاومة العديد من التحديات والمصاعب التي واجهته، ويستطيع أن يتحمل مشقة الانتظار حتى بعد أن تراجعت المفوضية الأوروبية عن موقفها.
حتى ذلك الحين، يمكن أن يتودد لبعض الدول الأخرى غير السخية مثل الصين والهند وإيران، والحفاظ على الاقتصاد الهيكلي الذي اعتاد عليه السوريون وقت الحرب. عموما، بمجرد أن يبدأ المانحون الغربيون بالمفاوضات مع الأسد بشأن مشاريع إعادة الإعمار، سيدخلون تبعا في متاهة كبيرة.
ينبغي أن تستثمر هذه الدول في دعم واستيعاب اللاجئين السوريين الذين يوجدون في أوروبا أو في البلدان المجاورة لسوريا.
في الحقيقة، لن يستطيع الغربيون السيطرة على نظام، لم يتمكنوا بعد من فهم طبيعة أعماله الغامضة. وفور انخراطهم في عملية إعادة الإعمار، سيتعرضون للضغط من أجل مواصلة تلك المشاريع، حتى في حال قام الأسد بإعادة صياغة شروط تلك الصفقات.وبعبارة أخرى، وبالنسبة للمانحين الغربيين، يعد الانخراط في إعادة إعمار سوريا صفقة خاسرة. وبالتالي، من الأفضل عدم الخوض فيها منذ البداية.
ثمن النصر
على ضوء هذه المعطيات، ينبغي على المانحين الغربيين ألا يُموّلوا جهود إعادة الإعمار التي يقودها النظام. علاوة على ذلك، يجب ألا يسمحوا للميولات السياسية، بشكل خاص، أن تدفعهم إلى الاستثمار بشكل جوهري في النظام السياسي في سوريا، نظرا لأنه غير مرغوب به وغير مستقر. من جانب آخر، يجب على الجهات المانحة أن تنظر في إمكانية رفع العقوبات على قطاعات محددة ضمن الاقتصاد السوري إذا كانت مربحة، في حين ينبغي أن تستمر في الإنفاق على مشاريع الاستقرار والمصالحة المحلية، التي لها آثار محدودة ولكنها إيجابية، في جميع أنحاء البلاد.
في البداية، وأولا وقبل كل شيء، ينبغي أن تستثمر هذه الدول في دعم واستيعاب اللاجئين السوريين الذين يوجدون في أوروبا أو في البلدان المجاورة لسوريا. وربما، في وقت لاحق، وفي حال طرأ أي تحول في موقف النظام أو السياق السياسي، سيكون من المنطقي إعادة النظر في مشاريع إعادة الإعمار والإنفاق على البنية التحتية. ولكن من المؤكد أن ذلك لن يقع الآن أو في أي وقت قريب.
في نهاية المطاف، استطاع نظام الأسد المقاومة والانتصار، ولكن سيكون ثمن الفوز حرمانه من الحصول على أموال إعادة الإعمار السخية. من جانب آخر، خسرت المعارضة والبلدان الغربية التي دعمتها هذه الحرب. وفي الأثناء، يجب على هذه الجهات أن تعترف بأن التنمية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب لن يكون بمثابة مباراة العودة، أو جولة مقبلة ضمن معركة إعادة تشكيل سوريا. من جهته، لن يحظ الغرب بأي فرصة لإزالة الأسد أو تكريس إملاءات تطال السياسة السورية، لأن التفكير في ذلك سيكون بمثابة وهم باهظ الثمن.
المصدر: فورين أفيرز