لم تثنِ مشاهد الغرقى يصارعون من أجل الحياة في مياه البحر الأبيض المتوسط ولا الحملات الأمنية المتتالية ولا رداءة الطقس ولا الصور التي تحكي الحالة المزرية لبعض الذين وصلوا الضفة الشمالية للمتوسط، العديد من التونسيين عن مواصلة ركوب البحر لتحقيق حلم الوصول إلى دول الشمال حيث ينتظرهم رغد العيش حسب تصورهم.
جثث متناثرة
الإثنين الماضي أعلنت وزارة الدفاع التونسية غرق 8 مهاجرين على الأقل (جميعهم من التونسيين) إثر اصطدام القارب الذي كان يقلهم ببارجة تابعة للبحرية التونسية قبالة سواحل أرخبيل قرقنة التابع لمحافظة صفاقس (جنوب)، وأضافت الوزارة أن البحرية تمكنت من نجدة 38 شخصًا، وتواصل عمليات البحث للعثور على مفقودين محتملين، فيما أوردت وسائل إعلام إيطالية أن الزورق المنكوب كان يقل 70 مهاجرًا انطلقوا من صفاقس.
يقود حلم الجنة الموعودة في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط إلى موت الكثيرين في عرض البحر
حدث مأسوي يأتي وسط ارتفاع عدد المهاجرين غير الشرعيين باتجاه جنوب إيطاليا انطلاقًا من سواحل تونس في الأسابيع الأخيرة، بحسب المنظمة الدولية للهجرة فالعديد من الشباب التونسيين اكتشف الهوة الشاسعة التي تفصل بين نمط عيش أوروبي مريح في الغالب، وواقع تونسي صعب للغاية للشباب، وهو ما أدى الى حالة من اليأس والقنوط تجعلهم يتسابقون نحو قوارب الموت التي أضحت رديفًا للخلاص والعيش الرغيد.
ويقود حلم الجنة الموعودة في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط إلى موت الكثيرين في عرض البحر، ورغم الآلام والمخاطر يبقى اعتقاد العديد من التونسيين عميقًا في أن بلدهم لا يستجيب لطموحاتهم على صُعُد شتى ويبغون الرحيل منه علّهم يجدون مبتغاهم في بلاد غيره.
تتبعات أمنية
بعد يوم فقط من انتشال جثث المهاجرين الذين لقوا حتفهم في حادث اصطدام زورقهم بمركب للبحرية التونسية قبالة سواحل قرقنة، تمكنت قوة أمنية تونسية من الإطاحة بشبكة تنشط في مجال الهجرة غير الشرعية بمدينة صفاقس الواقعة بالجنوب الشرقي للبلاد، من بين أفرادها شخص ينتمي لقوات الجيش التونسي متهم باستقطاب الراغبين في الهجرة من محطة سيارات الأجرة ونقلهم إلى المنزل المخصص لجمع المهاجرين قبل انطلاق الرحلة، كما تمكنت عناصر من جيش البحر التونسي مساء يوم السبت من إنقاذ 25 تونسيًا على متن مركبين معطبين 70 كيلومترًا من سواحل مدينة جرجيس.
الأمن التونسي يتعقب المهاجرين السريين
وسبق أن أحبطت قوات الأمن التونسية على اختلاف أنواعها محاولات هجرة غير شرعية عديدة في الفترة الأخيرة في مناطق مختلفة من المدن الساحلية التونسية، في غضون ذلك وصلت الفرقاطة ألبينو التابعة للبحرية الإيطالية إلى ميناء حلق الوادي الإثنين الماضي، للمشاركة في تدريب مشترك مع جيش البحر التونسي انتهت يوم 13 من أكتوبر لضبط المهاجرين وإجراء عمليات البحث والإنقاذ في البحر.
وعلى الرغم من العقوبات الزجرية التي نص عليها القانون التونسي والتي عدلت عقوبة الهجرة السرية من سجن شهر إلى 15 سنة في بعض الحالات كما ورد في قانون الهجرة السرية، وارتفاع التكلفة المادية “للحرقان” والمستقبل المجهول الذي يتنظر المغامر بحياته في الدولة الأوروبية التي اختارها أو حلم بالعيش فيها، فإن وتيرة محاولات الهجرة السرية عبر الشواطئ التونسية ارتفعت بشكل ملحوظ حتى أصبحت المادة الأولى لمختلف وسائل الإعلام التونسي، ويغادر هؤلاء المهاجرين ليلًا عادة حتى لا يُكشف أمرهم وينالون عقوبة السجن في تونس.
مساعٍ حثيثة للحد من الظاهرة
للحد من موجات الهجرة غير القانونية عقد الاتحاد الأوروبي اتفاقيات عديدة مع تونس، ومن أبرز هذه الاتفاقيات اتفاقية الشراكة في مجال التنقل التي وقعت عام 2014، ووفقًا للاتفاق سيوفر الاتحاد الأوروبي فرصًا أكبر للهجرة القانونية لسكان بعض الدول ومنها تونس، وإتاحة الفرصة أمام المواطنين التونسيين للحصول على تأشيرة دخول إلى الاتحاد الأوروبي، في المقابل ستبذل تونس المزيد من الجهود لمكافحة الهجرة غير القانونية.
يهاجر المهاجرون غير الشرعيين في الغالب على متن مركب كبير قادر على خوض عباب البحر المتوسط
في عام 2016، أطلق الاتحاد الأوروبي برنامجًا بقيمة 11.5 مليون يورو لخلق فرص اقتصادية في تونس ومكافحة الهجرة غير القانونية، وكان الهدف منه أيضًا دعم إدماج المهاجرين في سوق العمل التونسي، وتكلف الهجرة غير الشرعية في هذه الفترة نحو 1100 يورو للشخص الواحد، وقد عرفت أوجها في أيام ثورة يناير 2011 حيث كانت السواحل التونسية خالية من كل رقيب.
ويهاجر المهاجرون غير الشرعيين في الغالب على متن مركب كبير قادر على خوض عباب البحر المتوسط، ويجمع الوسيط الراغبين في الهجرة السرية في الغابة أو أحد المنازل على حافة البحر في انتظار تحسن أحوال الطقس وانتهاز اللحظة المناسبة لغياب رجال الأمن ثم يتسللون ليلًا إلى المراكب التي تبعث لهم إشارات ضوئية ويصعدون على متنها، ولا تستغرق الرحلة بحرًا نحو إيطاليا سوى 5 ساعات على أقصى تقدير.
أرقام مفزعة
في السابق كان يصعب إيجاد بعض “الحراقة” وهي التسمية التي يطلقها التونسيون على المهاجرين غير الشرعيين، إلا أنه الآن ما عليك إلا التوجه نحو جرجيس أو صفاقس أو قليبية أو بنزرت أو سيدي بوسعيد وستجد الكثير منهم يتهيأون لخوض عباب البحر والعبور خلسة إلى إيطاليا دون أن يهابوا سلطة الرقيب أو رجال الأمن، وسجلت أعداد المهاجرين في الفترة الأخيرة ارتفاعًا كبيرًا، حيث تكاد تكون محاولات عبور الحدود خلسة يومية.
وأكد المتحدث باسم المنظمة الدولية للهجرة في إيطاليا فلافيو دي جياكومو وصول 1400 تونسي إلى لامبيدوزا وغرب صقلية خلال شهر سبتمبر/أيلول فقط مقابل 1200 وصلوا إلى إيطاليا خلال كامل عام 2016‘ وقال “من الصعب فهم ما يجري في تونس ولماذا هذه الزيادة في سبتمبر/أيلول”، مضيفًا “البعض في تونس يقولون إن الشبان عملوا طوال الصيف وكسبوا ما يمكنهم من دفع المال للمهربين لكن لماذا هذا العام وليس في سبتمبر/أيلول الماضي؟”، مضيفًا “يبدو أن عمليات السفر أكثر تنظيمًا“ وينص اتفاق ثنائي بين تونس وروما على إعادة التونسيين الذين يصلون إلى إيطاليا لكن بوتيرة بضع عشرات في الأسبوع، ومع عمليات الوصول الحالية يتلقى العديد منهم إنذارًا بمغادرة البلاد ثم يختفون.
قوارب الموت تبحر نحو سواحل إيطاليا
من جهتها أحبطت قوات الأمن التونسية أكثر من 164 عملية إبحار سرية منذ بداية السنة إلى شهر سبتمبر، ووصل عدد الموقوفين فيها إلى 1652 أغلبهم من التونسيين إلى جانب إيقاف 75 منظمًا لهذه العمليات، أما في سنة 2016 فقط أُحبطت 108 عملية وقُبض على 1035 مجتازًا، وتحتل في مختلف هذه العمليات محافظة صفاقس المرتبة الأولى تليها بنزرت.
جدير بالذكر أن هذه الأرقام جاءت قبل يومين من غرق المركب الأخير والذي أدى إلى وفاة 8 أشخاص سُلمت جثامينهم إلى أهاليهم عشية يوم الثلاثاء الماضي، ولم تتعرض الإحصائيات إلى عدد المفقودين أو الذين لقوا حتفهم في عرض البحر، وتحمل قوارب الموت الأطفال والشيوخ والإناث والحوامل، وأشارت دراسة نشرها نهاية 2016 المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية) إلى أن نحو نصف التونسيين الشبان في الأحياء الشعبية يفكرون في مغادرة بلادهم، وثلثهم يؤكد أنه مستعد للهجرة غير الشرعية إذا اقتضى الأمر، وفسرت الدراسة ذلك بارتفاع نسبة البطالة والفقر وسط تزايد النزاعات الاجتماعية.
العامل الاقتصادي
لم تعد قضية الهجرة السرية أو غير القانونية أو “الحرقان” كما اصطلح الشباب على تسميتها، مجرد خرق للقوانين والترتيبات الإدارية المنظمة للهجرة، أو مجرد حالات شاذة تحصل بين الفينة والأخرى، إذ تحولت في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة اجتماعية لها مبرراتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.
ارتفاع نسبة البطالة في تونس
وتعود أسباب هجرة الشباب التونسي غير الشرعية واختيار التونسيين التوجه إلى أوروبا للبحث عن عمل في الغالب، إلى العامل الاقتصادي وانتشار البطالة بينهم، حيث بلغت نسبة البطالة في تونس خلال الثلث الثاني من هذه السنة 15.3%، وبلغ عدد العاطلين عن العمل 625 ألف عاطل مع موفى الثلث الثاني، مقابل 626 ألف عاطل عن العمل في الثلث الأول من 2017، ويسعى العديد من التونسيين إلى ركوب البحر رغم ارتباطه بشبح الموت والسجون، لتحقيق حلمهم بالعيش الكريم بعد أن ارتفعت تكاليف الحياة وانقطعت بهم السبل في بلدهم تونس.