“وبدأ العدم الأسود الدموي في الدوران، نظام من الخلايا المترابطة داخل خلايا مترابطة، داخل خلايا مترابطة داخل جذع واحد، رهيب تميزها عن الظلام، تلك النافورة البيضاء العالية”.
راجت تجارة اللواحق (sequels) والسوابق (prequels) وجعلت من سينما الميزانيات الضخمة (Blockbusters) أشياء كريهة أقرب لبرامج التسلية التليفزيونية، مشاهدٌ مؤسسة على اللقطة الخاطفة والتركيب الكثيف والخلفية الخضراء الشهيرة التي تنقل العمل من استوديو التصوير إلى شاشة الكمبيوتر. في سياق كهذا، لا يمكن النظر إلى مشروع بلايد رنر 2049 إلا كفرصة تجارية أخرى، لكن المخرج الكندي دنيس فيلنوف Denis Villeneuve أثبت كم هو ممكن ورائع أيضًا، إنجاز التكملات، إذا ما عرف الغرض الأساسي منها، لمن شاهد منكم الفيلمين، وخصوصًا الفيلم الأول، دعوني أحدثكم عن الوصفة السحرية التي أنجز بها فيلنوف، بلايد رنر 2049.
تقع أحداث الجزء الأول سنة 2019، ولئن بدا التاريخ بعيدًا جدًا لريدلي سكوت Ridley Scott حينما أنجزه في بداية الثمانينيات، فإنه اليوم زمن الحاضر، وصار محتمًا على دنيس فلنوف أن يأخذ مسافة زمنية من أحداثه، فقدر أن 2049 يمكن أن يكون ملائمًا، فلا هو بالقريب بحيث يكون ظهور دكرد Deckard (بطل الجزء الأول) بملامحه العجوز (يؤدي الدور هارسون فورد Harrison Ford) معقولاً، ويكون المجال لتصور مستقبلي جديد ممكنًا، ولا هو بالبعيد بحيث يحافظ المشهد الدستوبي المميز لبلايد رنر على خصائصه، وتحافظ رواية فيلنوف على رابط عضوي بقصة سكوت.
أنجز بلايد رنر 2049 وفق حقيقتين: أنه تكملة لفيلم كلاسيكي، وأنه فيلم قائم بذاته، ولقد عمل فيلنوف على الرقص بينهما رقصًا عبقريًا تجلى في كل العناصر، فهو محافظ ومجدد في آن، فأبقى بذلك على روح الفيلم القديم، وعمل على تجاوزه على مختلف المستويات.
1- تصميم الفضاء
لا تزال لوس أنجلوس Los Angeles كما تخيلها سيد ميد Syd Mead في الجزء الأول، مظلمة وساطعة الأضواء في آن، عامرة بالبشر من مختلف الأجناس والثقافات، مكتظة قذرة، ولا يزال التباين واضحًا بين عالمها السفلي والعلوي، وبين طبقة القمة وطبقات القاع.
لكن فيلنوف لم يقف عند تلك الشوارع التي ألفناها، بل وسعت صورة قمْرته (كاميراه) أطراف المدينة وأقصاها، فصرنا نرى حدودها، حيث السور الضخم الذي يقيها مياه أمواج المحيط العاتية، ثم صرنا نرى ما وراء المدينة، حيث حقل إنتاج الطاقة ومصب النفايات، ثم صرنا نرى مدنًا أخرى مثل لاس فيغاس Las Vegas التي أصبحت مدينة مهجورة في هذا الزمان.
لقد أتاح توسع فيلنوف في فضاء السرد، مجالاً مدهشًا للتصور الحر دون أن يهدم شيئًا من بناء بلايد رنر القديم، بل زاد عليها وأثراها، هناك في لوس أنجلوس، ينعكس المعمار والبيئة على نمط حياة السكان ومظهرهم، فهم لا يكتفون باصطحاب مظلات المطر والمعاطف المقاومة للماء بشكل دائم، بل يستعملون مظلات مضيئة بالنيون Neon ومعاطف شفافة تعكس أنوار الإعلانات الضخمة المنتشرة. وقد استمرت هذه العلاقة العضوية خارجها، فهناك عند مصب الفضلات العملاق، حيث يصبح كل شيء قذرًا، يطغى اللون البني على الألبسة، وتتحول الأنشطة الاقتصادية إلى قطع الطرق والاتجار بالأطفال ورسكلة الخردة (recycling)، لا ننسى أن العالم السفلي للمدينة كان قائمًا على المواد المرسكلة ومراكمة التعديلات، فكان توجه فيلنوف نحو المصب ونشاط الرسكلة، إثراءً رائعًا لفكرة الجزء الأول.
عمل فيلنوف أيضًا على الجانب السوسيولوجي، فحاول أن يعيد ترتيب الهرم الاجتماعي للمدينة، مضيفًا بعض الفئات الأخرى
لقد خضع تصميم الفضاء في بلايد رنر للهاجس البيئي، واستمرت العلاقة بينهما في 2049، ولئن كانت الإشارات التحذيرية واضحة في الفيلم الأول بهذا الخصوص (الطقس الممطر باستمرار وغياب الشمس، وانقراض الحيوان)، فإن الجزء الثاني جعلها مفتاح المشهد، لقد نوع فيلنوف من الكوارث البيئية، فعوض الأمطار في أغلب الوقت بالثلوج (وهو أمر غريب عن مدينة ربيعية كلوس أنجلوس)، وأضاف أمواج تسونامي القاتلة والزوابع الرعدية والضباب الكثيف وعواصف الغبار، كما أن غياب الحيوان بات منعكسًا على ألبسة القوم الذين يحاولون التبجح بقطع فراء اصطناعي (معطف كي K‘ وأزياء فتيات الليل، إلخ). لقد كانت كل المشاهد الخارجية محمولة على خلفية الكارثة البيئية المحدقة بإنسان هذا العصر، فأعراض السقام تمارس تأثيرًا جماليًا على الصورة، وتعوض في كثير من الأحيان خصائص فيلم النوار Noir التي تميز الجزء الأول (الكياروسكورو أو ثنائية الضوء والعتمة).
وما كان تلميحًا مع سكوت صار تصريحًا مع فيلنوف، فهذا العالم الديستوبي المريع، الخالي من النبات والحيوان، بات يعيش على تربية الديدان المصنعة في معامل شركة والاس Wallace Corp واستخراج بروتيناتها في مزارع غير ذات نبت، وهذا العالم بات ينظر إلى جذع شجرة ميتة، نظرة الخائف المرتاب. وما كان تحذيرًا في الجزء الأول بات إدانة في هذا الجزء، فإنسان 2049 لا يبدو نادمًا على أخطائه القاتلة، بل مغرق في همجيته وتوحشه، ولو أمكن له أن يعوض الفراء الاصطناعي الذي يزين كل أزيائه، بفرو حقيقي لفعل دون تردد!
2- إعادة التوزيع الديمغرافي
بالتوازي مع التوسع في تصميم الفضاء، عمل فيلنوف أيضًا على الجانب السوسيولوجي، فحاول أن يعيد ترتيب الهرم الاجتماعي للمدينة، مضيفًا بعض الفئات الأخرى، فمنح الأطفال مساحة معتبرة، وهم طبعًا أطفال الهامش، المستغلون بالاتجار والعمل القسري والحرمان، ولا شك أن صورتهم وهم يعملون على رسكلة الخردة، لا تحتاج إلى جهدٍ لنقرأ فيها وضع الأطفال الآسيويين العاملين في مصانع الشركات العملاقة.
أما ذلك الجو البابلي (نسبة إلى قصة برج بابل في الكتاب المقدس) المدهش الذي ملأ مشاهد الجزء الأول، فقد استغنى عنه فيلنوف في حركة أجدها أسوأ خياراته، صارت شوارع لوس أنجلوس خالية ونظيفة وصارت عناصرها أكثر انسجامًا، ولم نر من أهلها إلا القليل، مثل البائع الصومالي وبائعات الهوى، كان تركيز فيلنوف واضحًا على العلاقة بين البشر والمستنسخين، فصمم مجتمعًا قائمًا على صراع طبقي بينهما.
المستنسخون في رؤية فيلنوف جزءٌ من المجتمع، يعيشون فيه ويتفاعلون معه، ويخلقون داخله نوعًا من الاستقرار الاجتماعي
لكن يمكن أن نميز أكثر من طبقتين اجتماعيتين، ففي أعلى الهرم يوجد أرباب المال والأعمال صانعو العالم بشركاتهم العابرة لكل شيء، ويرمز لهؤلاء السيد والاس Wallace الذي ورث كل متعلقات تايرل Tyrell ورمزيته، ثم يأتي كهنة النظام وحفظة الأمن، وتحتهم التقنيون والأطباء، وكل هؤلاء هم المتمعشون من النظام ويمثلون بشكل ما الطبقة الوسطى.
أما القاعدة ففيها باقي البشر وأغلبهم من المهاجرين، ورغم نمط عيشهم الشقي، فهم أعلى مقامًا من المستنسخين، وفي القاع نجد البشر المنفيين خارج المدينة وخارج الحساب، كما نجد الكائنات الرقمية مثل جوي Joi، التي تلعب دور الجارية تقريبًا.
فالمستنسخون في رؤية فيلنوف جزءٌ من المجتمع، يعيشون فيه ويتفاعلون معه، ويخلقون داخله نوعًا من الاستقرار الاجتماعي، إذ إن وجودهم أشبه بالعازل بين بشر القمة وبشر القاع، فالأوائل يستعملون المستنسخين بالصنع وتحقيق الثروة، وبالاستخدام وتحقيق الأمن، والآخرون يستعملونهم كواجهة للنظام، يعلقون عليهم سخطهم عليه، وعلى وضعهم البائس، وكما يحدث في عصرنا الحاضر، فكل طبقة لا تواجه القمع المسلط عليها بالاحتجاج وإنما بقمع الطبقة الأقل منها. لقد خلنا لوهلة أن المستنسخين أراذل القوم، وضحاياه الأشد، حتى رأينا موقف المومس المستنسخة، من جوي Joi الكائن الرقمي، إذ قالت لها في اشمئزاز : “اصمتي، لقد كنت داخلك، ولم يكن هناك شيء تقريبًا”.
تفسر هذه المقاربة، ذلك التشابه الواضح والمقصود بين وضع المستنسخين في لوس أنجلوس فيلنوف، ووضع المهاجرين وأصحاب البشرة الملونة في مجتمعات البيض، فنظرة الذل واحدة والشتائم واحدة والأحكام المسبقة والشيطنة واحدة.
جاء بطل فيلنوف شبيهًا بدكرد، ساخرًا، ذي سحنة عدمية، لا يملك أمام أجهزة النظام إلا التأكيد على فقدانه للخيار
3- تمتين الحبكة الدرامية
تواصلت سياسة فيلنوف المتبنية والمتوسعة في آن مع الجانب الدرامي، فاستعمل ذات البنية القصصية للفيلم الأول: طرف خيطٍ يقود إلى آخر، يصنع رحلة البطل من وضع التابع للنظام، إلى وضع المنشق عنه، لقد برع في هذه اللعبة حتى الإمتاع، فكانت الخيوط مشدودة بعضها إلى بعض بشكل أمتن من الفيلم الأول، وكذلك الأمر بالنسبة إلى “التواءة الأحداث” Plot twist، فقد أضحت جوهر الدراما بعدما كانت إضافة ملحقة في فيلم سكوت. هل كان دكرد بشرًا أم مستنسخًا؟ بقدر ما يبدو السؤال جوهريًا، فإن الإجابة عنه ليست كذلك، ولقد تبنى فيلنوف جوهرية السؤال وغموض الجواب، فلم يضف إلى ما نعرف عن طبيعة دكرد رغم أن أغلب المؤشرات توحي بكونه مستنسخًا، وفي المقابل فقد كان واضحًا تمامًا فيما يخص طبيعة بطله الجديد كي K‘ (ريان غوسلنغ Ryan Gosling) فاحتفاظه بالسؤال (ما معنى أن تكون إنسانًا) لا يقتضي الاحتفاظ بصيغته.
جاء بطل فيلنوف شبيهًا بدكرد، ساخرًا، ذي سحنة عدمية، لا يملك أمام أجهزة النظام إلا التأكيد على فقدانه للخيار، لا يملك كي اسما، وإنما تختصر رئيسته في العمل رقمه المتسلسل حين مناداته، لكنه اختصار ذو دلالة، فاسم كي يذكرنا ببطل فرانتس كافكا: يوسف كي Joseph K‘ الذي كان أيضًا عاجزًا أمام بيروقراطية النظام، وقد أكد فيلنوف على هذه المقاربة حين أطلقت عليه جوي Joi رفيقته الرقمية اسم دجو Joe.
ولعل جوي هذا الكائن الرقمي اللامتجسد هو ما يميز كي فيلنوف عن كي كافكا وأيضًا دكرد سكوت. فهي تعكس قدرته على الحلم، ورغبته الدفينة في أن يكون إنسانا، “يملك الخيار”، ويقدر لا على الحب فحسب، بل على تأسيس عائلة، كانت إرادة التغيير كامنة منذ البداية تحت ركام الأوامر والشتائم، وكانت بانتظار محرك التاريخ لتبدأ به الرحلة نحو الخلاص، وهي رحلة معاكسة لرحلة دكرد، فقد بدأها مستنسخًا واعيًا بزيف ذاكرته، فإذا بها تصبح حقيقية، وإذا به يصبح مشروع معجزة استثنائية.
جوي شيءٌ معقد ومحيرٌ، صنيعة رقميةٌ وكيانٌ ذكي، نسخة من بين آلاف النسخ، وذاتٌ مدركةٌ حققت تجربتها الوجودية المستقلة
لقصته مع جويْ مقومات فيلم مستقل بذاته، بل لعله يتفوق على فيلم “هي” Her لسبايك جونز Spike Jones الذي يقترح حالة مشابهة، وهي ليست بمعزل عن سياق البطل الاجتماعي: فهو يرفض إقامة علاقة مع امرأة طبيعية (رئيسته في العمل)، لأنه قد لا يمثل عندها سوى لعبة جنسية، هي التي ترى أن العالم لا يستقيم إلا بوجود حدود صارمة بين الأنواع. وكذلك الأمر مع المستنسخات (بائعات الهوى) فقد اعتدن اعتبار أنفسهن كذلك، أما جوي، فهي مبرمجة مسبقًا لتكون ما يريد، وما يريده كي، هو تجاوز الحدود بين الأنواع، فلئن كان عاجزًا عن الشعور بالمساواة مع البشر لافتقاده للروح، فهو قادر على معاملة جوي بندية رغم افتقادها للجسد.
أما جوي، فهي خلاصة كل الأسئلة الأنطولوجي، إنها امتداد لفكرة المستنسخين، أولئك المبرمجين الذين يملكون حضورًا ماديًا ولا يملكون امتيازًا روحيًا، فهي لا تملك أيًا من هذين، وحسبها وجودها الرقمي، كفكرة في فضاء سايبيري لا أكثر، وهي مع ذلك لا تفتأ تثبت وجودها بقرارات جريئة (طلبها الانتقال النهائي إلى المنبع الجوال emanator بتعلة أن المنبع إن تحطم فستموت كما يموت البشر أيضًا) وردود فعل مربكة (محاولاتها إيقاظ كي من إغماءته رغم العطب الذي أصاب منبعها في أثناء سقوط السيارة). هل تملك جوي إرادتها؟ أم أنها تسير وفق ما برمجت عليه؟ حين نشهد قراراتها المناوئة لصانعيها وتضامنها الكامل مع مالكها/حبيبها قد نذهب إلى الاحتمال الأول، لكننا فيما بعد، نرى ذلك الإعلان الذكي العملاق الذي خاطب كي باسم “جو” Joe كما كانت تفعل حبيبته الراحلة، فنعيد التفكير.
جوي شيءٌ معقد ومحيرٌ، صنيعة رقميةٌ وكيانٌ ذكي، نسخة من بين آلاف النسخ، وذاتٌ مدركةٌ حققت تجربتها الوجودية المستقلة، ما الذي يميز جوي التي يملكها كي، عن بقية النسخ المبيعة؟ هل هي الذاكرة؟ ولكن الذاكرة عند كي مختلقة ومزروعة، فكيف له أن يؤمن بذاته؟
لم يكتف المخرج الكندي بحضور مزيف باهت كذلك الذي رأيناه في نسخ دزني الجديدة لحرب النجوم، بل أدمج الجضور الشرفي للجيل القديم بشكل رائع داخل السرد وداخل المشهد
حديث الذاكرة مجال آخر للتوسع ـ والتفلسف ـ عند فيلنوف، فقد ذهب بنا إلى مصدرها، وأرانا كيف يتم تصنيعها، فكانت آنا Anna بديل سيباستيان Sebastian في الفيلم الأول، تشترك معه في عجزها عن السفر إلى العالم الخارجي بسبب المرض، وتشترك معه في القرب من النظام والعمل على المستنسخين وفي روح الفنان الكامنة فيهما، لكن آنا تملك بعدًا دراميًا أهم.
أما شخصية لوف Luv فلا أظنها تملك مقابلاً في نسخة سكوت، فتايرل Tyrell لم يكن يملك “ذراعًا يمنى”، ولا يمكن أيضًا مقابلة العلاقة بين دكرد وباتي Batty بالعلاقة بين كي ولوف، فباتي كان متمردًا على النظام وكفاحه وجودي بحت، أما لوف، فهي كاهن نظامٍ يستعبدها، لا تكتفي بإضفاء شرعية لوجوده أو خدمته، بل تقمع كل محاولة لمقاومته أو الاحتجاج عليه، لقد تغذت بالخوف إلى حد لم يعد معه وقوعها في حب كي، كافيًا لانتشالها من تبعيتها، فاكتفت بتركه حيًا حينما كان متاحًا قتله، وهي بذلك نقيض جوي.
4 – أكثر من ضيوف شرف
لأن الفيلم تكملةٌ لأيقونة لها مريدوها، فقد كان واجبًا على فيلنوف أن يستحضر بعض شخصيات الجزء الأول، ونعني أساسًا دكرد بطل الفيلم، وفي هذا المستوى، لم يكتف المخرج الكندي بحضور مزيف باهت كذلك الذي رأيناه في نسخ دزني الجديدة لحرب النجوم، بل أدمج الجضور الشرفي للجيل القديم بشكل رائع داخل السرد وداخل المشهد، والمؤكد أن هارسون فورد (مؤدي دور دكرد) لم يؤد دورًا بهذه القيمة منذ زمن لابأس به، كما كان حضور ريتشل مذهلاً دون أن أبوح بتفاصيله، دعك من أن شخصيتها تمثل لب الفكرة الرئيسية للقصة.
5 – العمل على الرموز البصرية والدرامية
في مستوى أخير من سياسة التبني والتوسع، لا ينبغي أن نغفل انتباه فيلنوف لأهم الرموز البصرية للفيلم الأول، فقد تبنى فكرة مشكلات الأوريغامي Origami من خلال إطلالة صانعها غاف Gaff القصيرة، التاركة لمشكل خروف (تلميحًا للرواية الأصلية “هل تحلم الأندرويدات بخرفان كهربائية؟”) ثم طورها إلى منحوتات خشبية تحيل إلى حصان دكرد الذي حلم به في الجزء الأول.
وحافظ على مدلولية العين، كواسطة للرؤية، والمعرفة والتجربة الحسية، وكنافذة على الروح، فكانت عين كي، أول شيء طالعنا، وكانت العين وسيلة أساسية للتحقق من الهوية، سواء بالنسبة للمستنسخين (بواسطة الرقم المتسلسل المكتوب عليها)، أو بالنسبة للنفاذ إلى المواقع المحظورة والمقيدة، وكما جرت المفارقة، فالمستنسخون يملكون قدرات بصرية متميزة على عكس البشر الذين يعانون من مشاكل في البصر، وإذا كان تايرل يحتاج إلى نظارات شديدة السمك، فإن والاس أعمى تمامًا، مما يدل على ذهاب روحه بلا رجعة.
تجربة الإنسان الوجودية، لا تكتمل إلا بالآخر، أو هكذا أرادها فيلنوف أن تكون
وتبقى حالة فريزا Freysa الأكثر جدلاً في هذا المستوى، ففقدانها لأحد عينيها لا يمكن أن يؤول في ضوء هذا المدلول، سوى على أن روحها معطوبة وخياراتها سيئة رغم أهدافها النبيلة، فهي كزعيمة حركة مقاومة المستنسخين ضد النظام، لا تجد حرجًا في قتل شخص بريء مثل دكرد من أجل أن تظل المقاومة مستمرة، وهو أمر رفضه كي في النهاية، فهل هي شبه إدانة من فيلنوف لحركات المقاومة المسلحة في العالم؟ وهل هي دعوة لانتهاج المقاومة السلمية؟ لا شك عندي أن اختيار النجمة الفلسطينية هيام عباس لدور فريزا لم يكن عشوائيًا.
أما اختبار فويت ـ كامبف Voight-Kampff، فقد ارتأى فيلنوف تغييره، وهو أمر منطقي لانقراض أجيال المستنسخين القديمة، وانتفاء الحاجة للكشف عنهم، فحل محله الاختبار الأساسي Baseline test، ومهمته الكشف عن المستنسخين الذين نمت فيهم الانفعالات البشرية، مما يجعلهم خطرًا يجب إزاحته، يقوم هذا الاختبار على ترديد كلمات بعينها من خطاب يلقيه صوتٌ صارمٌ جاف، ويتم تحليل صوت المختبر للكشف عن أي انفعالات يحاول إخفاءها.
استوحى فيلنوف نص الاختبار من رواية لنابوكوف Nabokov بعنوان نار شاحبة، وهي ذات الرواية التي نراها في منزل كي، وتتحدث الرواية عن شخص قرأ عن امرأة رأت نافورة بيضاء خلال تجربة الدنو من الموت، فحاول مقابلتها لأنه عاش التجربة ذاتها، لكنه اكتشف أن هناك خطأ مطبعيًا وأنها رأت جبلاً (mountain) لا نافورة (fountain)، لم يغير الخطأ من طبيعة الشعور، مثلما لم تغير حقيقة كي المحبطة، من تعاظم إدراكه لذاته، ككيان “مترابط” (Interlinked) بكيانات أخرى تمثل جذعًا كاملاً، لذلك لم ينجح كي في الاختبار الأساسي، ونجح في الوعي بذاته كفرد داخل المجموعة.
لقد نجحت سياسة فيلنوف في مختلف مستويات الفيلم، ربما ما عدا الموسيقى التي فشل هانس تسمر Hans Zimmer في الخروج بها من بوتقة أعماله السابقة ـ خصوصا دنكرك ـ وجَعْلِها امتداد مقبول لموسيقى فانجلس Vangelis العبقرية التي رافقت الجزء الأول. ولقد أحسن فيلنوف إذ أعاد استغلال بعض هذه المقاطع، خصوصًا مقطع مشهد “كدمع في المطر” الشهير، فقد ساهمت الموسيقى في إحداث مقاربة بين المشهد الشهير، ومشهد سقوط كي إذ أتم مهمته، فالمشهدان يتفقان على طابع النهاية الملحمي، ويشتركان في تتويج البطلين بتحقيق وجوديهما، فكلاهما يعاني من إشكال في علاقته بالذاكرة، الأول موقن بضياعها، والثاني موقن بزيفها، لذلك يلجآن إلى الآخر، ليحتضن عنهما هويتهما وتجربتهما. لقد أدرك كي أن ذكرى الحصان ليست له، ولكن إحساسه بالثلوج حقيقي، تجربته التي قادته إلى التضحية بنفسه من أجل أبٍ وابنته، حقيقية لا مراء فيها، وكما شاركته آنا Anna ذكراها مع الحصان، شاركها تجربته مع الثلوج، فتجربة الإنسان الوجودية، لا تكتمل إلا بالآخر، أو هكذا أرادها فيلنوف أن تكون.