قبل أن نتحدث عن التطورات الأخيرة التي شهدتها العاصمة الإريترية أسمرة، والتي أدت لأول مرة إلى خروج مظاهرات حاشدة قابلتها السلطات الأمنية بالرصاص الحي، يجدر بنا أن نقدم لمحاتٍ عن هذا البلد الإفريقي الذي يُعد ضمن أكثر بلدان العالم قمعًا وانتهاكًا لحقوق الإنسان.
أكثر بلدان العالم عُزلة وفقرًا
إريتريا واحدة من أكثر بلدان العالم عزلة وانغلاقًا، إذ لا يقصد مطارها الوحيد إلا 4 من شركات الطيران، هي الخطوط التركية وفلاي دبي الإماراتية والخطوط السودانية (سودانير)، إلى جانب شركة مصر للطيران مع العلم بأن الأخيرة تُسيّر رحلاتها لأسباب سياسية فهي عديمة الجدوى اقتصاديًا، وكثيرًا ما تقلع الطائرة وليس بها سوى 10 أو 15 راكبًا.
تصنف إريتريا بأنها من أسوأ الدول في سجل حقوق الإنسان، ويطلق عليها أحيانًا “كوريا الشمالية إفريقيا”، تشير بعض التقارير إلى أن آلاف المواطنين الإريتريين يهجرون بلدهم كل شهر، أغلبهم يهرب من الخدمة العامة في الجيش، وللحكومة هناك نظام تجنيد فريد من نوعه إذ يمكن للشاب أو الشابة أن يمضي في الخدمة العسكرية 10 سنوات أو يزيد، قسرًا وبلا مقابل، حتى إن السلطات قد تُجند أفرادًا تجاوز عمرهم الـ50 بل والـ70 أيضًا، لذلك يضطر الإريتريون إلى الهجرة من جحيم النظام الحاكم والأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى دول الجوار حيث يشكل السودان وإثيوبيا الحاضن الرئيس لهم.
لا توجد جامعة ولا وسائل إعلام!
كانت في إريتريا سابقًا جامعة واحدة تقبل المتفوقين من الطلاب، وبعد ذلك تأسست جامعة أسمرة عام 1972، وكانت الجامعة الوحيدة في البلاد، تحمل اسم “جامعة الأسرة المقدسة”، قبل أن تُغيّر اسمها إلى جامعة أسمرة.
الحصول على أي معلومة من إريتريا أمر في غاية الصعوبة، حيث لا يوجد أي وسيلة إعلام مستقلة هناك، كما أن البلاد ليس بها سوى تليفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة، وجميعها حكومية مملوكة لحزب الجبهة الشعبية
ولكن استمرارية جامعة أسمرة بالشكل الذي كانت عليه أصبح خطرًا على توجهات نظام الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة الذي يحكم البلد بالحديد والنار منذ استقلالها عام 1993، وهو لا يرغب بالطبع في انتشار التعليم وتصاعد النشاط السياسي المعارض، لهذا قرر إيقاف نشاط الجامعة تدريجيًا، قبل أن يتم إيقاف قبول الطلاب في الجامعة نهائيًّا عام 2003 – 2004، كانت نتيجة تلك القرارات إنهاء العمل بالجامعة، وهروب المئات من طلابها وأساتذتها بمن فيهم مدير الجامعة، لتتوقف الجامعة نهائيًا عام 2005.
ولجأت الحكومة الإرترية إلى إنشاء ثمان كليات جديدة وزعتها على أربعة أقاليم، حيث توجد ثلاث كليات أساسية في الإقليم الأوسط، وثلاث أخريات في إقليم شمال البحر الأحمر، وكلية واحدة في كل من إقليم عنسبا والإقليم الجنوبي، وكان الغرض من إنشاء هذه الكليات تفكيك جامعة أسمرة وتوزيعها في مدن مختلفة لضمان عدم التفاف الطلاب مجددًا على فكرة معارضة سياسات الحكومة.
الحصول على أي معلومة من إريتريا أمر في غاية الصعوبة، حيث لا توجد أي وسيلة إعلام مستقلة هناك، كما أن البلاد ليس بها سوى تليفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة، وجميعها حكومية مملوكة لحزب الجبهة الشعبية، وبالإضافة إلى ذلك فإن خدمة الإنترنت ضعيفة للغاية، وتحظر السلطات معظم المواقع الإخبارية، فضلًا عن أنه لا يُسمح لأي مواطن باستخراج شريحة هاتف نقال ما لم يكن له سكن ثابت، مع انعدام خاصية إرسال الرسائل النصية خارج البلاد وعدم وجود خدمة التجوال الدولي، كما لا يمكن للأجانب اقتناء شريحة جوال عند زيارتهم البلاد تحت أي ظرف!
ثلاث محاولات انقلابية آخرها عام 2013
ضاق المواطنون ذرعًا بسياسات أسياس أفورقي الذي نصّب نفسه رئيسًا للبلاد منذ استقلالها عن إثيوبيا عام 1993، حيث لا توجد انتخابات ولو بطريقة صورية، ومن يحتج أو يعارض فإن السجون جاهزة لاستيعابه دون أي محاكمات أو إجراءات قانونية، إذ يقبع الآلاف من المعتقلين في سجون النظام بعضهم أمضى 20 سنة وأكثر دون أن يعرف مصيرهم إن كانوا أحياءً أو أموات.
شهد شارع “أكريا” وسط العاصمة الإريترية أسمرة، ظهر الثلاثاء الماضي، مظاهرات طلابية حاشدة، تخللتها اشتباكات بين المحتجين وقوات الأمن استُخدم فيها الرصاص الحي، وسط أنباء غير مؤكدة عن سقوط قتيل واحد
نتيجة لذلك، حاولت مجموعة تتألف من نحو مئتي ضابط في مطلع العام 2013، الانقلاب على نظام الحكم لكن سرعان ما تم إعلان فشل المحاولة التي أجهضت كما حدث من قبل لمحاولتين أولهما في 1993 والثانية 2001.
الشرارة.. اعتقال الشيخ موسى محمد نور
تفجّرت الأوضاع الأخيرة بعد أن حاولت الحكومة تأميم مدرسة الضياء الأهلية التي يدرس بها نحو 2800 طالب وطالبة، وقررت ضمها إلى المدارس التي تشرف عليها وزارة التعليم، رفض الأهالي تلك الخطوة بشدة مما دعا السلطات الأمنية إلى اعتقال رئيس لجنة المدرسة موسى محمد نور (يزيد عمره على 90 عامًا) وذلك على خلفية مناهضته قرارات الحكومة التي أمرت بتنحية القرآن الكريم وفرضت خلع الحجاب والنقاب على الطالبات ومنع الفصل بين الطالبات والطلاب، وهي القيم التي من أجلها شُيّدت المدرسة بالعون الذاتي وتبرعات الأهالي.
إدارة المدرسة وعلى رأسها الشيخ المعتقل كانت قد تحفّظت على قرارات النظام الحاكم بوصفها تتعارض مع أهداف مدرسة إسلامية خاصة تدرس المنهج العصري مع التركيز على التربية الإسلامية، وكانت “المدرسة” فاعلة منذ العام 1969 دون أن تتعرض لأي تهديدات تستهدف تأميمها وضمها إلى ممتلكات الحكومة.
وينسب للشيخ موسى أنه قال للأهالي قبل أن يُعتقل: “الفتيات اللاتي يأتين إلى المدرسة محجبات هُن مسلمات وهن بناتنا ولا يمكن أن يعتدي عليهن أحد”، وأضاف “نحن مستعدون لتحمل تبعات كل شيء، من أجل ديننا وعقيدتنا لأن الإنسان يولد ليموت”.
مظاهرات لأول مرة منذ 26 عامًا
في سابقة لم تحدث من قبل، شهد شارع “أكريا” وسط العاصمة الإريترية أسمرة، ظهر الثلاثاء الماضي، مظاهرات طلابية حاشدة، تخللتها اشتباكات بين المحتجين وقوات الأمن استُخدم فيها الرصاص الحي، وسط أنباء غير مؤكدة عن سقوط قتيل واحد، في حين شنَّت السلطات حملة اعتقالات طالت العشرات، وأهابت السفارة الأمريكية فى أسمرة برعاياها تجنب مناطق وسط العاصمة.
زعم تقرير للتليفزيون الرسمي أن المظاهرات تقف خلفها جماعات إرهابية تهدف إلى ضرب الأمن والاستقرار!
كشفت تلك المظاهرات المفاجئة خوف النظام مما دفع قوات الأمن إلى استخدام الرصاص الحي لتفرقة المتظاهرين، ونقل ناشطون على مواقع التواصل أن السلطات الأمنية منعت إقامة صلاة العشاء في محيط مسجد الخلفاء الراشدين لتتجنب احتمالية تجدد التظاهرات، كما تحدثت أنباء عن قطع شبكة الإنترنت عن العاصمة أسمرة، ونقلت شبكة رصد إريتريا أن مفتي النظام طلب الحماية الشخصية من السفارة السودانية هربًا من المتظاهرين.
أين المنظات الحقوقية ووسائل الإعلام؟
يتساءل ناشطون إريتريون عن سر تجاهل منظمات الأمم المتحدة لانتهاكات نظام أسياس أفورقي المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، وعن كيفية قبول المجتمع الدولي بنظامٍ يفرض عزلة إعلامية كاملة ولا يسمح بدخول وسائل الإعلام المستقلة.
هل سيتوقف الأمر عند تأميم مدرسة الضياء الأهلية؟
كذلك يتخوف الأهالي من أن الموضوع لن يتوقف عند مدرسة الضياء الإسلامية، ومحاربة الحجاب وتدريس القرآن الكريم فحسب، يدللون على ذلك بعلاقات أسياس أفورقي المشبوهة مع دول إقليمية تتبنى العلمانية بصورة علنية وتحذر من المد الإسلامي، وهذا ما ظهر جليًا فقد سارع الإعلام الحكومي في إريتريا إلى ربط الأحداث بالإرهاب والتطرف، وزعم تقرير للتليفزيون الرسمي أن المظاهرات تقف خلفها جماعات إرهابية تهدف إلى ضرب الأمن والاستقرار!
دعوات لوقفات احتجاجية
دعا العديد من النشطاء الإريتريين في دول المجهر إلى استثمار الحدث والقيام بحراك شعبي، بجانب تنظيم تجمعات احتجاجية أمام سفارات النظام بالخارج للتنديد بالانتهاكات في ظل التعتيم الإعلامي، واعتبر هؤلاء الشباب أن ما حدث ظُهر الثلاثاء لم يكن متوقعًا وشكّل مفاجأة للسلطات الأمنية، خصوصًا أن إحدى السيدات وقفت تخطب فى الناس بصورة مؤثرة أمام الشرطة التي لم تستطع التعرض إليها.
حتى الآن، يمكن القول إن الكرة ما زالت في ملعب حكومة أسياس أفورقي، إن أرادت إظهار حسن النوايا فعليها إطلاق سراح جميع المعتقلين وعلى رأسهم الشيخ التسعيني موسى محمد نور، بالإضافة إلى التخلي عن خطط تأميم مدرسة الضياء، فضلًا عن ضرورة الوقوف على مسافة واحدة من جميع الديانات والمذاهب، إذا لم تفعل الحكومة ذلك فقد يكون البديل مكلفًا جدًا وربما تدخل البلاد في متاهة غير معلومة العواقب، ذلك لأن السكان ليس لديهم ما يخسرونه، انتهاكات بالجملة لحقوق الإنسان وأوضاع اقتصادية قاسية دفعت بغالبية الشباب إلى الهروب لدول الجوار وأنحاء العالم المختلفة، وفوق ذلك تتحدث الأنباء عن حالة تذمر غير مسبوقة في صفوف الجيش الإريتري، مما يجعل مهمة استلام السلطة أمرًا يسيرًا إذا تتابعت الأحداث.