مذبحة الأمراء أو مجزرة السبت الدامي، هكذا وصفت بعض وسائل الإعلام دراما ما حدث بالأمس داخل الديوان الملكي السعودي حين شنت السلطات السعودية أكبر حملة اعتقالات من نوعها في تاريخها لتشمل قرابة 18 أميرًا وما يزيد على 38 رجل أعمال في خطوة تخطت سقف التوقعات كافة.
المثير للجدل أنه في الوقت الذي شغل فيه الجميع بمتابعة سقوط صاروخ قيل إنه من حوثيين اليمن على حرم مطار الملك خالد بالرياض، بعد ساعات قليلة من إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، استقالته من منصبه عبر خطاب بثته قناة العربية من الرياض، إذ بالجميع يتلقى حزمة من الأوامر الملكية المفاجئة لتبدأ بعدها أول فصول المذبحة في مشهد قد لا يتكرر إلا عبر شاشات هوليوود.
لم تشهد المملكة هذا الحراك الدراماتيكي منذ سنوات عدة، وهو ما أثار العديد من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة وماذا يريد ولي العهد محمد بن سلمان من خلال سياسة الاعتقالات المتتالية التي تجاوزت الأكاديميين والكتاب ورجال الدين لتتسع إلى الأمراء ووزراء سابقين لتعبيد الطريق أمام كرسي العرش، فهل بات تنصيب ابن سلمان ملكًا مسألة وقت؟
مجزرة الأمراء
مساء أمس السبت، أصدر العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، حزمة من الأوامر الملكية المفاجئة التي جاءت على عكس الاتجاه بالنسبة لكثير من المقربين من دوائر صنع القرار.
وقد مرت الأوامر التي أصدرها سلمان بمرحلتين، الأولى: المرحلة الأولية التي من خلالها أطاح بما تبقى من جبهة الأمير محمد بن نايف ولي العهد الأسبق، حيث قضت بإعفاء الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الحرس الوطني من منصبه، وتعيين الأمير خالد بن عبد العزيز بن محمد بن عياف آل مقرن وزيرًا للحرس الوطني، كذلك وزير الاقتصاد والتخطيط عادل فقيه وتعيين محمد التويجري وزيرًا للاقتصاد والتخطيط، إضافة إلى إنهاء خدمة قائد القوات البحرية عبد الله السلطان وإحالته للتقاعد، وترقية اللواء فهد الغفيلي إلى رتبة فريق ركن وتعيينه قائدًا للقوات البحرية.
الملياردير الوليد بن طلال هدد خلال اجتماع للأسرة الحاكمة بسحب كل أمواله إلى أوروبا في حال رفض الإفراج عن الأمير محمد بن نايف
وإكمالاً للمرحلة الأولى من الأوامر فقد تضمنت تشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئيس ديوان المراقبة العامة والنائب العام ورئيس أمن الدولة، هدفها حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام.
المرحلة الثانية وتضمنت ترجمة عملية فورية لقرار تشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد، فبعد دقائق معدودة من تشكيلها فوجئ الجميع بالأنباء تتوارد نبأ تلو الآخر بشأن توقيف أمراء ورجال أعمال وشخصيات عامة بتهم الفساد واستغلال النفوذ، ليبلغ عدد المعتقلين حتى كتابة هذه السطور 18 أميرًا (أعلن أسماء 11 منهم)، وأربعة وزراء حاليين، وعشرات من الوزراء والمسؤولين السابقين بتهم فساد، فضلاً عن قرابة 38 رجل أعمال، وتصدر قائمة الموقوفين: الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الحرس الوطني، بتهمة الفساد في صفقات السلاح، الأمير والملياردير المعروف الوليد بن طلال بن عبد العزيز، بتهمة غسيل الأموال، الأمير تركي بن عبد الله بن عبد العزيز أمير الرياض السابق، بتهمة الفساد في مشروع “قطار الرياض”، رئيس مجموعة MBC التلفزيونية ورجل الأعمال البارز وليد الإبراهيم، رئيس ومؤسس البنك الإسلامي رجل الأعمال الكبير صالح كامل واثنين من أبنائه، بتهم الفساد، اللواء تركي بن عبد الله بن محمد الكبير، بتهم فساد تتعلق بالقوات البحرية، رئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري، وزير الاقتصاد والتخطيط المقال عادل فقيه، وزير المالية السابق إبراهيم العساف، الأمير تركي بن ناصر بن عبد العزيز، خالد الملحم رئيس الخطوط السعودية السابق وعدد من الشركات الكبرى، بتهم الفساد والاختلاس، سعود الدويش رئيس مجلس إدارة شركة الاتصالات السعودية، بتهم الفساد وترقية عقود على شركاته الخاصة واختلاس أموال الشركة، محمد الطبيشي رئيس المراسم الملكية السابق، بتهم عدة تتعلق بالفساد وسوء استغلال السلطة، رجل الأعمال حسين العمودي، بتهم عدة تتعلق بالفساد وتقديم الرشاوى والاحتيال، بالإضافة إلى جميع المسؤولين عن قضية “سيول جدة”، فضلاً عما يقال عن محافظ هيئة الاستثمار الأسبق عمر الدباغ، بعدة تهم تتعلق بالفساد والتلاعب في أوراق المدن الاقتصادية.
إعفاء الأمير متعب بن عبد الله من منصبه
ماذا يريد ابن سلمان؟
جاءت حملة الاعتقالات الأخيرة ضد أمراء الأسرة المالكة وكبار شخصياتها ورموزها الاقتصادية بمثابة الصدمة للجميع بلا استثناء كونها تمثل خروجًا مباشرًا عن الخط العام الذي اتخذه النظام الحاكم، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها سلمان ونجله إلى هذه الاستراتيجية الجديدة التي تهدف في المقام الأول إلى فتح الطريق أمام ولي العهد لخلافة والده، إذ تكررت قبل ذلك مع الأمير محمد بن نايف، لكن شتان بين الحدثين، سواء في التفاصيل أو تبعاتها.
ويرى المراقبون أن خطوة الأمس هدف من خلالها ابن سلمان إلى تحقيق أربعة محاور رئيسية، الأول: إخلاء الساحة السياسية تمامًا من المعارضين له سواء داخل الأسرة المالكة أو خارجها من المقربين من النخبة ورجال الأعمال المؤثرين في المشهد السعودي الداخلي، وعلى رأسهم الأمير متعب بن عبد العزيز والذي يعد العقبة الأخيرة في طريق تنصيب ابن سلمان ملكًا للبلاد، بعد عزله لولي العهد ابن نايف من منصبه وإعفائه من وزارة الداخلية أيضًا.
وبحسب بعض المعارضين فإن هذه الحملة لن تتوقف وستتواصل خلال الفترة القادمة حتى يخضع آخر رجل من أسرة آل سعود لحكم ابن سلمان، ويعترف به كملك للبلاد، وهو ما تتضح معالمه رويدًا رويدًا منذ الإطاحة بمحمد بن نايف، ومبايعة أفراد هيئة البيعة لمحمد بن سلمان وليًا للعهد.
الثاني: تجريد الأمراء ورجال الأعمال من سلاح المال والثروة على رأسهم تركي بن ناصر والوليد بن طلال، خوفًا من استخدامها في المستقبل كورقة ضغط ضده حال اعتزامه خلافة والده رسميًا، خاصة أن بعضًا منهم لديه اعتراضات على سيطرة ابن سلمان المطلقة على مفاصيل المملكة كافة.
وقد نشر حساب “ويكيلكس الخليج” على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، حديثًا يشير إلى: “أن الملياردير الوليد بن طلال هدد خلال اجتماع للأسرة الحاكمة بسحب كل أمواله إلى أوروبا في حال رفض الإفراج عن الأمير محمد بن نايف”، ومن هنا كان لا بد من التحجيم.
https://twitter.com/Khaleaks/status/926926972869136385
الثالث: مغازلة السعوديين بوتر محاربة الفساد ومواجهة الفاسدين وتقديمهم للمحاكمة، وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا الوتر، إذ إنه في أبريل الماضي وفي أعقاب حزمة الأوامر الملكية الصادرة وقتها تم إعفاء خالد العرج وزير الخدمة المدنية من منصبه وتقديمه للمحاكمة بتهم تتعلق بالفساد، وهو ما رآه البعض رسالة قوية للفاسدين وجرس إنذار لهم، بينما رآه أخرون محاولة لكسب رصيد شعبي جديد، وهو ما تم بالأمس أيضًا مرة أخرى بفتح ملفات المدينة الاقتصادية والتي تورط فيها رجل الأعمال عمرو الدباغ، وكذلك ملفات الرشاوى التي قُدمت لمستشار الديوان الملكي خالد التويجري والذي قدّم ككبش فداء بسبب علاقته الوثيقة مع وزير الحرس الوطني المعزول متعب بن عبد الله.
الرابع: الاستيلاء على المال فبحسب ما كشفه “مجتهد” على حسابه على تويتر فإن “سبب الحملة على الأمراء والوزراء ورجال الأعمال، أن ابن سلمان يريد الاستيلاء على أكبر كمية من أموالهم ويحيلها لحساباته”، وهو ما يفسر التركيز على رجال الأعمال والأمراء أصحاب المليارات هذه المرة مقارنة بالمرات السابقة.
تعليق سريع والتفاصيل لاحقا
سبب الحملة على الأمراء والوزراء ورجال الأعمال
ابن سلمان يريد الاستيلاء على أكبر كمية من أموالهم ويحيلها لحساباته— مجتهد (@mujtahidd) November 4, 2017
وقدرت المبالغ التي تم الاستيلاء عليها من الأمراء ورجال الأعمال الموقوفين بحسب ما تداولته قائمة أسمائهم قراب تريليوني ريال سعودي، سيتم مصادرتها إلى أجل غير مسمى، وهو ما يمكن أن يخضع بعد ذلك لمرحلة المساومة والابتزاز من أجل الرضوخ لإملاءات ابن سلمان.
أبو ظبي تسعى لتدشين سعودية جديدة وفق مقاييس ومواصفات تتناغم مع الأهداف الإماراتية التي تسعى لسحب بساط الريادة الإقليمية من تحت أقدام المملكة
المعارضة الصفرية
حدث كهذا ربما يتوقع البعض أن يستتبعه زلزال داخل الأسرة المالكة في السعودية، إلا أن التجارب السابقة تشير إلى أن أجنحة المعارضة داخل الديوان الملكي تم قص ريشها بصورة كبيرة، ولعل المشهد التراجيدي لليلة الانقلاب على الرجل الثاني في المملكة والشخصية الأقوى في جهاز الأمن على مدار عدة سنوات لصالح الفتى المدلل نجل الملك الذي كانت تشير التوقعات إلى تصعيده بخطوات ملموسة، أكبر دليل على ذلك، فما توقع أحد أن تسير الأمور بهذه السلاسة دون معارضة أو مقاومة ولو شكلية.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف عن انتهاج النظام السعودي لسياسة التنكيل والاعتقالات وتضييق الخناق ضد كل من يفكر أن يغرد خارج السرب، مستندًا في ذلك إلى الحملة التي أعقبت تنصيب ابن سلمان وليًا للعهد، حينها استدعت وزارة الداخلية المتحفظين على مثل هذا القرار من الدعاة والعلماء والكتاب وحذرتهم من التعبير عن آرائهم.
وفي المقابل كان للقصر دور آخر في تقليم أظافر المعارضين من الأسرة المالكة، سواء في الداخل من خلال الوضع تحت الإقامة الجبرية والتهديد بالاعتقال أو في الخارج من خلال الملاحقات وما يقال بشأن استهداف بعضهم، حسبما نشرت بعض وسائل الإعلام الأجنبية مؤخرًا.
اعتقال الوليد بن طلال بسبب تورطه في قضايا فساد بحسب تقرير اللجنة المشكلة
من يدعم ابن سلمان؟
بعض المراقبين ذهبوا إلى أن ابن سلمان ما كان يجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوات التصعيدية ضد شخصيات بارزة تمثل النخبة السعودية، أمراء كانوا أو رجال أعمال، دون ظهير ودعم إقليمي كان أو دولي، وهنا أشار البعض إلى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في ظل العلاقات القوية التي تربطها بالمملكة في الآونة الأخيرة منذ حزمة الصفقات التي جاوزت نصف تريليون دولار الموقعة بين الجانبين مايو الماضي.
وبصرف النظر عن الموقف الأمريكي الداعم للأنظمة السعودية على طول الخط طيلة السنوات الماضية نظرًا لما تقدمه من فروض الولاء والطاعة لسيد البيت الأبيض، إلا أن التدخل الأمريكي في مجزرة الأمس ربما لم يكن بالشكل المتوقع من البعض، مقارنة بالموقف الإماراتي والذي أعلن دعمه مبكرًا لهذه التوجهات الجديدة.
سبب الحملة على الأمراء والوزراء ورجال الأعمال، أن ابن سلمان يريد الاستيلاء على أكبر كمية من أموالهم ويحيلها لحساباته
معروف أن محمد بن زايد هو المخطط الأول والأكثر تأثيرًا لاستراتيجية تعبيد الطريق أمام ابن سلمان، بدءًا بالترويج له أمريكيًا مرورًا بالتخلص من العقبات التي تعرقل مسيرته نحو خلافة والده وعلى رأسها عمه ابن نايف، وصولاً إلى مذبحة الأمراء ورجال الأعمال التي قام بها بالأمس، فأبو ظبي تسعى لتدشين سعودية جديدة وفق مقاييس ومواصفات تتناغم مع الأهداف الإماراتية التي تسعى لسحب بساط الريادة الإقليمية من تحت أقدام المملكة في ظل انشغال مصر بأزماتها الداخلية لتتصدر المشهد بصورة كاملة.
لا يمكن تقييم خطوات ابن سلمان الأخيرة في الوقت الراهن، إذ إن هذا سيتوقف بصورة كبيرة على رد الفعل داخل الأسرة المالكة، فما بين غمضة عين وانتباهتها قد يصبح نجل سلمان ملكًا خاصة بعد تمهيد الطريق أمامه بصورة كاملة في أعقاب التخلص من العقبات التي كان يخشى مواجهتها، وقد تنقلب الأمور رأسًا على عقب وحينها ستدخل المملكة في آتون من الصراعات قد لا تخرج منها خلال العقود القادمة.