لم تكن دول العالم مهتمة كثيرًا بمنطقة القرن الإفريقي إلا في الآونة الأخيرة، فقد أصبحت هذه المنطقة التي تقع إلى الشمال الشرقي من القارة السمراء محط أنظار العالم لتأثيرها الجيوسياسي ولتمتعها بثروات طبيعية هائلة.
وتتبوأ جمهورية إثيوبيا مكانة متميزة في إفريقيا، فتعتبر حلقة اتصال تجاري ومركز تواصل حضاري بين إفريقيا وشبه الجزيرة العربية وشعوبها، وكان لها تاريخ مشرف مع الإسلام، عندما نصح النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) صحابته بالهجرة إلى بلد النجاشي، هربًا من اضطهاد أهلهم وأبناء عمومتهم في مكة، ولذلك فإن الإسلام دخل أرض الحبشة قبل أن يصل المدينة المنورة!
وتتميز إثيوبيا كذلك، بكونها بلد المقر للاتحاد الإفريقي الذي يضم في عضويته 53 دولة تسعى من خلاله الدول الأعضاء إلى توحيد الرؤى والمواقف بشأن القضايا التي تهم إنسان القارة السمراء، فضلًا عن أنها تحظى بثقة كبيرة من المجتمع الدولي، باعتبارها قوة ضاربة في القرن الإفريقي، إذ تمتاز بقدراتها العسكرية التي لا تضاهيها قوة أخرى شرق القارة، وتتميز بأنها تحتل المرتبة الثانية من حيث عدد سكانها الذي يفوق 100 مليون نسمة، وبمساحتها التي تزيد على مليون كيلومتر مربع، فضلًا عن علاقتها الراسخة بالدول الإفريقية الأخرى ومقدرتها على التأثير واستضافة جولات التفاوض بين الفرقاء في دول الجوار مثل الصومال والسودان وجنوب السودان وكينيا.
إن البنك الدولي وصندوق النقد صنَّفا الاقتصاد الإثيوبي ضمن الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم للبلدان غير المنتجة للنفط، بنسبة تبلغ أكثر من 8%
الأهم من ذلك، أن إثيوبيا تمكّنت، خلال فترة وجيزة، أن تضع اسمها في قائمة أبرز الدول الإفريقية التي تشهد نموًا اقتصاديا متصاعدًا، ورغم أنها كانت ثاني أفقر دولة في العالم ولا يزال جزء كبير من مواطنيها يعانون حتى الآن، فإن البنك الدولي وصندوق النقد صنَّفا الاقتصاد الإثيوبي ضمن الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم للبلدان غير المنتجة للنفط، بنسبة تبلغ أكثر من 8%.
ونتيجة إمكاناتها الزراعية الهائلة، تشكل إثيوبيا منطقة جذب للاستثمار الزراعي، وتساهم الزراعة بما يعادل 42% من ناتجها الإجمالي، كما تمنحها الطبيعة الخلابة والمناخ الذي تتمتع به عوامل إضافية للجذب السياحي، خصوصًا أن أراضيها ترتفع عن سطح البحر نحو 2400 متر ضمن ما يعرف بـ”الهضبة الإثيوبية”.
ولعل لهذه الأبعاد التاريخية والقدرات الجغرافية والإمكانات البشرية والامتيازات الاستراتيجية التي سردنا بعضها، تستحق إثيوبيا أن تكون في قائمة شركاء قطر على الساحة الدولية، فبإمكان أرض الحبشة أن تستوعب استثمارات ضخمة في مجالات الزراعة والبنية التحتية والسياحة، وغيرها من المجالات التي تمتلك دولة قطر خبرة وثقلًا دوليًا فيه.
قبل أن نستعرض التطورات الأخيرة والقفزة التي شهدتها العلاقات القطرية ـ الإثيوبية يجدر بنا أن نشير إلى أن العلاقات بين البلدين شهدت عام 2008 قطيعة دامت أكثر من 4 سنوات، لكن المياه بين الدوحة وأديس أبابا عادت إلى مجاريها بعد استئناف العلاقات في أكتوبر/تشرين الأول عام 2012، وتُوّجت في أبريل/نيسان عام 2013 بزيارة أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى العاصمة الإثيوبية، فيبدو أن البلدين توصلا إلى قناعة ورؤية مشتركة بأن الشراكة تشكل مصلحة متبادلة، إذ ترى الدبلوماسية القطرية ضرورة تطوير العلاقات مع جميع الدول الفاعلة في القرن الإفريقي، وفي مقدمتها إثيوبيا التي تعد نافذة مهمة تطل على أعماق القارّة السمراء.
ومن المحطات البارزة في تاريخ العلاقات بين الدولتين، زيارة وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن إلى أديس أبابا في أواخر العام الماضي التي وجّه خلالها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين الدعوة إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لزيارة إثيوبيا وهي الدعوة التي لبّاها الأخير في أبريل/نيسان الماضي ووقع خلالها الزعيمان اتفاقيات عديدة في مجال التعاون والاستثمار واتفاقًا على تبادل الزيارات بين البلدين.
بعد زيارة الشيخ تميم بفترة قليلة حدثت الأزمة الخليجية الأخيرة وعلى إثرها قامت كل من السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر بقطع العلاقات مع قطر وحصارها، وحاولت حشد الدعم إلى موقفها فنجحت في شراء بعض الدول الإفريقية الضعيفة مثل إريتريا وجيبوتي وتشاد، لكن إثيوبيا كان موقفها واضحًا رغم الضغوط التي تعرضت إليها، فقد أعلنت دعم الوساطة الكويتية ودعوتها لحل الأزمة عن طريق المفاوضات رافضة الانضمام إلى موقف دول الحصار.
لم تكتفِ أديس أبابا بهذا، بل وسّعت علاقاتها مع قطر، فبعد أشهر قليلة من الأزمة افتتحت إثيوبيا مكتبًا إقليميًا ضخمًا لقناة الجزيرة التي تعد أحد أسباب اندلاع الأزمة بحسب رواية الدول الأربعة، وربما شكّل افتتاح القناة الذي شهده مسؤولون إثيوبيون كبار رسالةً بليغة إلى محور دول حصار قطر التي كانت تقاتل لأجل إغلاق القناة.
إثيوبيا تهتم بعلاقاتها مع دولة قطر، فقد رفعت تمثيلها الدبلوماسي في الدوحة إلى طاقم نشط يقوده سفير فوق العادة ومفوض عام “ميساغانو آرغا مواش” لتكون لديه صلاحيات أعلى من السفير العادي
وبعد ذلك وقّع الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر القطري السفير علي الحمادي اتفاقية مع منظمة إثيوبية بارزة لتنفيذ مشاريع إنسانية لصالح اللاجئين من دول الجوار مثل السودان وإريتريا والصومال، بالإضافة إلى المجتمع المحلي في إثيوبيا.
وما يلفت الانتباه أيضًا أن إثيوبيا تهتم هي الأخرى بعلاقاتها مع دولة قطر، فقد رفعت تمثيلها الدبلوماسي في الدوحة إلى طاقم نشط يقوده سفير فوق العادة ومفوض عام “ميساغانو آرغا مواش” لتكون لديه صلاحيات أعلى من السفير العادي.
ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ميريام ديسالين – الإثنين 13 من نوفمبر/تشرين الثاني – إلى العاصمة القطرية الدوحة والحفاوة البالغة التي استُقبل بها، تؤكد بجلاء قوة ومتانة العلاقات بين البلدين ورغبتهما في تنفيذ الاتفاقيات التي وقعت إبان زيارة أمير قطر في عدة مجالات اقتصادية والتي تنوعت ما بين قطاعات السياحة والاستثمار والبنية التحتية ودعم التقارب الثنائي بين رجال المال والأعمال في البلدين وتعزيز التعاون في مجال السلم والأمن على المستويين الدولي والإقليمي.
من الواضح أن قطر تراهن على إثيوبيا بصفتها الكارت الرابح في المعادلة الإفريقية وربما تتجه الدوحة إلى الاستثمار بقوة في الهضبة الإثيوبية، وبناء علاقات استراتيجية معها ولو على حساب السودان “جار إثيوبيا” الذي كان حليفًا قويًا لدولة قطر قبل التغيرات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، وتتلخص أسباب تفضيل الدوحة لأديس أبابا على الخرطوم في الآتي:
أولًا: وضوح الرؤية والموقف الإثيوبي، فلإثيوبيا مواقف سياسية ثابتة وموحدة وتتحدث بلسانٍ واحد، فهي ليست كالسودان الذي تتذبذب مواقفه رغم إعلانه الحياد من الأزمة الخليجية، فبعد أيام قليلة من الموقف المعلن صرّح وزير إعلامه أحمد بلال عثمان بتصريحات هاجم فيها قناة الجزيرة مما دفع الأخيرة إلى الاحتجاج رسميًا إلى رئيس الوزراء السوداني.
جاذبية القوانين الإثيوبية للاستثمار، فقد نجحت إثيوبيا في جذب المستثمرين من دول الخليج الأخرى خاصة السعودية والإمارات ومن شتى أنحاء العالم بسبب تبسيط إجراءات الاستثمار وتوحيد القوانين
ثانيًا: إثيوبيا تنتهج الشفافية وتكافح الفساد بقوة وأبرز دليل على ذلك رفع البرلمان الحصانة عن وزير المالية أليمايهو غوجو واعتقاله بسبب “شبهات” في التورط بالفساد، في حين تصنف الأمم المتحدة السودان ضمن أكثر دول العالم فسادًا، الأمر الذي جعل قطر تلجأ مؤخرًا إلى تنفيذ مشروعاتها التنموية مباشرة عبر سفارتها في الخرطوم ولا توكلها إلى الجهات الحكومية في السودان.
ثالثًا: جاذبية القوانين الإثيوبية للاستثمار، فقد نجحت إثيوبيا في جذب المستثمرين من دول الخليج الأخرى خاصة السعودية والإمارات ومن شتى أنحاء العالم بسبب تبسيط إجراءات الاستثمار وتوحيد القوانين، وهذا ما يفتقده السودان الذي يعاني فيه المستثمرين من صعوبة الإجراءات وتقاطع القوانين الاتحادية مع الولائية، إلى جانب انتشار الرشاوى وطلب العمولات حتى من كبار المسؤولين!
رابعًا: البنية التحتية، تمتاز إثيوبيا بوجود بنية تحتية قوية رغم معاناتها من عدم وجود منفذ بحري، إذ لجأت إلى إنشاء خط سكك حديدية يربطها بميناء جيبوتي، علاوة على وجود شبكة هائلة من الطرق البرية والقطارات الداخلية وعشرات المطارات بالإضافة إلى أسطول الخطوط الجوية الإثيوبية التي تغطي أنحاء العالم المختلفة، يقابل ذلك في السودان طرق ضيقة مهترئة وسكك حديدية منهارة وخطوط جوية تضم أسطولًا متعطلًا عدا طائرتين.
خامسًا: العلاقات العسكرية، كان من اللافت وجود وزير الدفاع الإثيوبي سيراج فقيسا ضمن وفد رئيس الوزراء، وقد أجرى الأول مباحثات منفصلة مع نظيره القطري خالد العطية عقب توقيع اتفاقية بين البلدين في مجال التعاون الدفاعي، وأكّد ديسالين خلال التوقيع أن بلاده “تقف مع مبادئها وتقف مع دولة قطر في ترسيخ الأمن والاستقرار في منطقة الخليج وإفريقيا”، مما يدل على عمق العلاقات بين الدوحة وأديس أبابا.
سادسًا: اللقاءات رفيعة المستوى التي أجراها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ديسالين مع المسؤولين القطريين وعلى رأسهم الأمير الشيخ تميم بن حمد ورئيس وزرائه الشيخ عبد الله بن ناصر ورئيسة مجلس إدارة مؤسسة قطرالشيخة موزا بنت ناصر.
سابعًا: استثمارات قطر لا تزال صغيرة في إثيوبيا إذ لا تقدر بـ500 مليون دولار، وقد نشر مركز الجزيرة للدراسات في 2013 دراسة حول آفاق العلاقات القطرية الإثيوبية، قال فيه إن بإمكان قطر أن تشتري جزءًا من الأراضي الصالحة للري والتي تغطي نحو 65% من مساحة إثيوبيا، وهو مما سيوفر لتلك الأخيرة فرصة لاستثمار أراضيها، ويوفر لقطر مصدرًا جديدًا للتمويل الغذائي، هذا بالإضافة إلى إمكانية الاستثمار في مجال الثروة الحيوانية، حيث تمتلك إثيوبيا الثروة الحيوانية الكبرى على مستوى القارة السمراء.
ثامنًا: مستوى التمثيل الدبلوماسي الرفيع لجمهورية إثيوبيا في قطر، وقد أشرنا إلى ذلك بالأعلى، فضلًا عن الاهتمام الذي وجدته زيارة ديسالين من وسائل الإعلام المحلية والناشطين في قطر.
تزامنت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين مع اعتراف مصر بفشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، ولذلك نظرت إليها وسائل الإعلام المقربة من نظام السيسي بتوجس وهي التي لا ترى في إثيوبيا شيئًا غير سد النهضة
تاسعًا: الفرص الاستثمارية الهائلة في إثيوبيا مع عدد السكان الكبير وتوفر عمالة رخيصة ومدربة، فضلًا عن الضرائب المنخفصة التي جذبت حتى رؤوس الأموال السودانية الخاصة إلى إثيوبيا، إذ إنّ السودانيين يستثمرون في إثيوبيا نحو 4 مليارات دولار بحسب سفير أديس أبابا السابق لدى الخرطوم أبادي زمو.
عاشرًا: تعد إثيوبيا أعلى دول العالم في معدل النمو، وتُحظى بمعاملة تفضيلية للتصدير إلى الأسواق الأوروبية، ويمكن للدول المستثمرة في إثيوبيا تسويق منتجاتها لـ23 بلدًا إفريقيًا (دول الكويسا)، والتصدير إلى الأسواق الأمريكية بموجب نظام الأفضليات المعمم.
وعلى الرغم من ذلك، أرى أن قطر ستحاول الاحتفاظ بعلاقات إيجابية مع السودان حتى لا تخسره نهائيًا في وقت تكثر فيه الإغراءات والاستقطابات، بالإضافة إلى أن الدوحة ترعى اتفاقية “سلام دارفور” منذ أكثر من 10 أعوام ولديها التزام أخلاقي بالعمل مع الشركاء على إحلال الأمن والسلام في الإقليم المضطرب.
أخيرًا، تزامنت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين مع اعتراف مصر بفشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، ولذلك نظرت إليها وسائل الإعلام المقربة من نظام السيسي بتوجس وهي التي لا ترى في إثيوبيا شيئًا غير سد النهضة، فقد زعمت إحدى الصحف أن الدوحة تمول السد بمبلغ 86 مليار دولار! وهو رقم فلكي لا يمكن للعقل البشري أن يتخيل أنه مخصص لتمويل سد كهرومائي ولو كان الأكبر من نوعه في إفريقيا.