بعد شهر من المفاوضات الشاقة، أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فشلها في تشكيل ائتلاف حكومي، مما ينذر حسب عديد من المراقبين بأزمة سياسية غير مسبوقة في هذا البلد الأوروبي الذي اقترن اسمه بالاستقرار.
أزمة لها أن تنهي الحياة السياسية للمستشارة أنجيلا ميركل بعد 12 سنة من الحكم وتضع مستقبلها في مهبّ الريح، في حال لم تتوصّل زعيمة المحافظين إلى وضع خريطة طريق تجنب الألمان العودة إلى صناديق الاقتراع في انتخابات قد تضع حدًا لحكمها.
فشل المفاوضات
مع بداية الساعات الأولى من يوم أمس الإثنين، انسحب الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) من مشاورات تشكيل ائتلاف حكومي جديد في ألمانيا، وهو ما بات يعرف بائتلاف جامايكا، نسبة لألوان علم هذه الدولة، لأن الأحزاب في ألمانيا تتبنى الألوان كرموز لها، فاللون الأسود يرمز للاتحاد المسيحي بزعامة ميركل والأصفر للحزب الليبرالي والأخضر لحزب الخضر.
وبرر زعيم “الليبرالي الحر” ليندنر انسحابه من المفاوضات، بالفشل في إيجاد أساس للثقة بين أطرافها أو فكرة مشتركة لتحديث البلاد، ووجود تناقضات لا حصر لها، وأسئلة مفتوحة وصراعات دون أهداف، مع تعدد الملفات الخلافية وأكثرها أهمية ملف اللاجئين والمناخ والأمور المالية، إلا أن رد “حزب الخضر” لم يتأخر، واتهم الليبرالي الحر بالتخلي عن مسؤولياته، وقالت الزعيمة الشريكة في رئاسة الحزب كاتين غورينغ إيكارت: “لم نكن بعيدين سوى بضع نقاط عن الاتفاق، وكان من الممكن أن يكون هناك تحالف”.
ويجمع العديد من المراقبين على أن الاتحاد الاجتماعي المسيحي كان بمثابة حجر عثرة أمام نجاح المفاوضات وتشكيل تحالف جامايكا المأمول مع الليبراليين والخضر، وسبق للحزب الديمقراطي المسيحي أن خاض تجربة التحالف مع الخضر، كما حصل ذلك في ولاية راينلاندبفالز، إلا أن هذا التحالف متعذر مع الاتحاد الاجتماعي المسيحي.
يجمع العديد من المراقبين على أن الاتحاد الاجتماعي المسيحي كان بمثابة حجر عثرة أمام نجاح المفاوضات
وبعد ساعة تقريبًا من إعلان قطع المشاورات قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إنها ستبلغ الرئيس الألماني شتاينماير أنها فشلت في تشكيل ائتلاف حكومي مع الخضر والليبراليين، وأعلنت ميركل “أسفها” لفشل مفاوضات تأليف حكومة منبثقة من الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقالت: “آسفة لأننا لم نجد أرضية مشتركة”، فيما وصف الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير انهيار المحادثات التمهيدية لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة في ألمانيا “بالوضع غير المسبوق في تاريخ البلاد”، وهو ما دفعه إلى حثّ الأحزاب لبذل كل ما في وسعها لتشكيل هذه الحكومة.
نقاط الاختلاف
يعتبر ملف اللجوء وقضية لمّ الشمل على وجه الخصوص، أحد أهم نقاط الاختلاف في مفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي الألماني، في هذا الشأن قال رئيس الكتلة الليبرالية في البرلمان فولفغانغ كوبيكي: “حاولنا بناء جسور، لكننا فشلنا حتى الآن للأسف”، وفي مواجهة صعود “البديل لألمانيا” (النازيون الجدد) وضغوط الجناح المحافظ اليميني في حزبها، وعدت ميركل بفرض قيود على استقبال طالبي اللجوء، بعدما فتحت أبواب بلادها لأكثر من مليون مهاجر سنتي 2015 و2016، وتسعى العائلة السياسية لميركل إلى فرض سقف لعدد طالبي اللجوء الجدد في ألمانيا قدره نحو 200 ألف في السنة.
فشل المفاوضات يضعف ميركل
لئن كان “حزب الخضر” على استعداد لقبول تحديد سقف عدد اللاجئين المسموح بدخولهم إلى البلاد، فإن الخضر طالبوا في المقابل باستئناف عمليات لم شمل العائلات لجميع اللاجئين العام المقبل، بما فيهم الحاصلين على “الحماية المؤقتة“، الأمر الذي يرفضه المحافظون والليبراليون رفضًا قاطعًا.
إلى جانب الخلافات الحاصلة في قضايا الهجرة ولمّ الشمل، نجد خلافات أخرى في مجال البيئة، حيث يرفض زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي هورست زيهوفر وضع حدود ثابتة لتقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون، ويرفض التخلي عن الفحم في إنتاج الطاقة، ويرفض التشدد في تقليل إنتاج سيارات الديزل، وهو ما يرفضه حزب الخضر الذي لا يريد خيانة وعوده الانتخابية للناخبين، ويعتبر الخضر أن هناك حاجة إلى سد ثغرة بحجم 90 حتى 120 مليون طن من أوكسيد الكربون التي يجب تفاديها لتحقيق أهداف البيئة الوطنية حتى عام 2020.
هناك مواقف متباينة فيما يخص توجيه الاتحاد البنكي الأوروبي
ومن النقاط الخلافية الأخرى أيضًا السياسة الضريبية ولا سيما احتمال إلغاء ضريبة أنشئت لدعم المناطق الفقيرة من ألمانيا الشرقية السابقة، إلى جانب نقاط خلافية أخرى بخصوص توجيه سياسة أوروبا الألمانية، ويرفض الليبراليون مستقبلاً مساعدة دول متعثرة ماليًا طبقًا لنموذج اليونان، فيما يدعم الخضر أفكار الإصلاح المقترحة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، كما أن هناك مواقفًا متباينة فيما يخص توجيه الاتحاد البنكي الأوروبي، هنا يتعلق الأمر لا سيما بتوسيع أنظمة تأمين الإيداعات الوطنية على المستوى الأوروبي.
السيناريوهات المقبلة
أمام فشلها في تشكيل حكومة ائتلافية، يبقى أمام ميركل إما تشكيل حكومة أقلية أو اللجوء إلى انتخابات سابقة لأوانها أو إعلان اعتزالها الحياة السياسية واستقالتها من رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بعد 17 سنة في هذا المنصب، وأضعفت انتخابات أيلول/سبتمبر الماضي المستشارة أنجيلا ميركل وتركتها دون غالبية مطلقة في البرلمان، مع تحول جزء من ناخبيها إلى حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف بعدما أغضبتهم سياسة ميركل المتحررة تجاه اللاجئين.
وعقب إعلان فشل المفاوضات، أعلنت ميركل في تصريحات للقناة الأولى في التليفزيون الألماني (ARD) استعدادها للترشح مجددًا في حال إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في البلاد، وردًا على سؤال عن إمكان ترشحها في حال إجراء انتخابات مبكرة في الأشهر المقبلة قالت “نعم”، وأضافت المستشارة ميركل أن تنظيم انتخابات مبكرة يشكل “خيارًا أفضل من حكومة أقلية”، وشددت على أن ألمانيا تحتاج إلى حكومة مستقرة لا تضطر إلى البحث عن غالبية عند كل قرار.
تراجع حزب ميركل في الانتخابات الأخيرة عقّد الأمر أكثر
ويفهم من كلام ميركل أنها لا تعتزم تشكيل حكومة أقلية مع الخضر أو مع الليبيراليين، فمن المستحيل أن تصمد لمدة أربع سنوات حكومة أقلية تشكلها ميركل بوجه غالبية برلمانية معارضة يقودها الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ونسبة عالية يحركها عدوها الرئيسي المتمثل بحزب البديل لألمانيا الشعبوي، ولم يسبق لألمانيا أن شهدت تشكيل حكومة أقلية منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية، بل إن هذا النوع من التحالفات لم يتحقق على مستوى الولايات.
وسبق أن أعلنت ميركل أكثر من مرة أنها تسعى لتشكيل حكومة أكثرية ثابتة، وهذا رفض مباشر منها لاحتمال تشكيل حكومة أقلية مع الليبراليين، ولا يبدو الليبراليون، من جهتهم، بحسب تصريحات نائب الرئيس فولغانغ كوبيكي، على استعداد لخوض هذه المغامرة، وقال إنه لن يرضى بدور الحزب “التكميلي” للحزب الكبير.
ولا يبدو خيار إعادة الانتخابات أفضل من الأول، لأن جميع التكهنات تشير إلى أن المستفيد الأول من إعادة الانتخابات سيكون حزب البديل لألمانيا، يليه الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ومن ثم الحزب الليبرالي، وتحدث فولغانغ كوبيكي نائب رئيس الحزب الليبرالي، عن ثقته بأن يحقق الحزب في الدورة الثانية للانتخابات نسبة أعلى مما حققها في الانتخابات الأولى.
السيناريو الثالث الذي يواجه ميركل وهو الاستقالة من رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي
وينص الدستور الألماني على أن يقترح الرئيس على البرلمان “البوندستاج” مرشحًا لمنصب مستشار الحكومة، ويشترط فوزه الحصول على أصوات الأغلبية المطلقة داخل البرلمان من الجولة الأولى، وإذا لم يوّفق تنعقد جولة ثانية بعد 14 يومًا من الأولى، وفي الجولة الثالثة يتطلّب الحصول على أغلبية عادية، وقد يضطّر الرئيس لتعيين مرشح أو حل البرلمان خلال 7 أيام من فشل العملية السياسية، وبناءً عليه تتم الدعوة لانتخابات جديدة خلال 60 يومًا.
أما السيناريو الثالث الذي يواجه ميركل وهو الاستقالة من رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، إلا أنها ترفض ذلك، حيث قالت في تصريحات للقناة الثانية بالتليفزيون الألماني (ZDF)، ردًا على سؤال عما إذا كانت فكرت مساء أمس في اتخاذ ردود فعل على المستوى الشخصي أو الاستقالة، قالت: “لا هذا لم يكن مطروحًا، وأعتقد أن ألمانيا بحاجة الآن إلى الاستقرار”، وأعربت ميركل عن اعتقادها بأنها لا ترى في فشل محادثات ائتلاف جامايكا داعيًا للاستقالة، وأضافت أنه سيكون من “المضحك جدًا” أن تنسحب الآن بعد مضي شهرين.
وكان الجناح الأكثر تشددًا من ناشطي الاتحاد الديموقراطي المسيحي طلب من ميركل مغادرة رئاسة الحزب التي تشغلها إضافة إلى منصبها كمستشارة، وطالب بول تيسمياك زعيم منظمة الشباب في الحزب نفسه التي عقدت مؤتمرها خلال الأسبوع الماضي “بوجوه جديدة” على رأس الحزب “وتوجه محافظ أكثر تشددًا”، وقال: “علينا أن نعدد أخطاءنا بشكل واضح: من الواضح أن جزءًا من ناخبينا يشعرون أنهم غير ممثلين بشكل كافٍ”.