للخروج من عزلتها الإفريقية، عملت المغرب في السنوات الأخيرة على استغلال الجانب الاقتصادي لدفع تواجدها في دول القارة السمراء، فضلا عن اعتمادها على ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الدينية، من خلال مبادرات واتفاقيات تجمع المملكة بدول إفريقية عدّة، ظاهرها الدين وباطنها السياسة.
دبلوماسية موازية
تلقت الدبلوماسية المغربية في العقدين الأخيرين، ضربات قاسية، فيما يتعلق بموقعها في القارة الأفريقية، نتيجة الخلافات المتواصلة مع جارتها الشرقية الجزائر فيما يتعلّق بقضية الصحراء الغربية، وخروج المملكة من منظمة الوحدة الأفريقية عام 1984، احتجاجاً على اعترافها بما يسمى بـ “الجمهورية الصحراوية” ومنحها العضوية جنباً إلى جنب مع المغرب.
تتجلى الدبلوماسية الدينية للمغرب في إفريقيا في عدة مجالات رئيسة، منها تدريب أئمة المساجد الأفارقة والمرشدين الدينيين في معاهد المملكة
وأمام يقينها التام بعدم تحقيقها للنتائج المرجوة من الخروج من المنظمة الإفريقية والعزلة التي فرضتها على نفسها، انتهجت المملكة المغربية كلّ السبل للعودة إلى بعدها الإفريقي، واستغلت في ذلك البعد الديني الذي يربطها بعديد الدول الإفريقية. ذلك أن عدداً من البلدان الأفريقية كانت تابعة للتاج المغربي عندما كان المغرب إمبراطورية عظمى، ما يعني أن هناك جذوراً ثقافية ودينية لا تزال موجودة، والعديد من الأفارقة ينظرون إلى الملك المغربي على أنه أمير المؤمنين ليس داخل المغرب بل حتى بالنسبة للأفارقة.
وتتجلى الدبلوماسية الدينية للمغرب في إفريقيا في عدة مجالات رئيسة، منها تدريب أئمة المساجد الأفارقة والمرشدين الدينيين في معاهد المملكة على برامج تتسم بالوسطية ومحاربة التطرف، بالإضافة إلى العناية بالطرق والزوايا الصوفية، التي توحّد ما بين المغرب وعدد من تلك البلدان، من قبيل الزاوية التيجانية الموجودة في المغرب والسنغال ومالي.
مؤسسات دينية رسمية
لدعم هذه الديبلوماسية، استحدث المغرب، في يونيو من السنة الماضية، مؤسسة دينية رسمية، تضم العديد من علماء الدين في البلدان الأفريقية، مثل مالي والكاميرون وساحل العاج والغابون وموريتانيا، سُميت بمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ومقرها مدينة فاس، اعتبارا لمكانتها الدينية كعاصمة علمية وروحية للمغرب، وقد أولاها الملك المغربي عناية كبيرة، لجهة تمويلها واحتضانها والترويج لأنشطتها.
وتجسد هذه المؤسسة الدينية، حسب العاهل المغربي، عمق الأواصر الروحية العريقة، التي ظلت تربط الشعوب الأفريقية جنوب الصحراء بملك المغرب بصفته أمير المؤمنين، ولما يجمعهما من وحدة العقيدة والمذهب، والتراث الحضاري المشترك، معتبرا، أن مؤسسة العلماء الأفارقة “لبنة إضافية تعزز توجه المغرب الاستراتيجي، للارتقاء بعلاقات التعاون السياسي والاقتصادي، التي تجمع المغرب بعدد من الدول الإفريقية الشقيقة، إلى شراكة تضامنية فعالة، في مختلف المجالات”.
العاهل المغربي إلى جانب أئمة أفارقة
إلى جانب ذلك، ترتكز الدبلوماسية الدينية المغربية في إفريقيا أيضا، على الأدوار التي يؤديها معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي تمّ افتتاحه في مارس سنة 2015 في العاصمة الرباط، والذي تحول إلى مؤسسة لإنتاج “الفكر الوسطي” و”الإسلام المعتدل” ليستفيد منه مئات الأئمة والفاعلين الدينيين من بلدان أفريقية كثيرة، مثل ساحل العاج، والسنغال، ومالي، وغينيا، والغابون، وتونس.
يزيد عدد الأئمة والمرشدين الذين يتقلون تكوينهم في معهد محمد السادس للمرشدين والمرشدات عن 1000 طالب وطالبة، ويستغرق التكوين الذي يتلقّاه الطلاب المغاربة سنة واحدة، ويُشترط فيهم أن يكونوا حاملي إجازة جامعية، فضلا عن حفظ القرآن حفظا تاما بالنسبة للذكور، ثم يجتازون مقابلات القبول، أمّا الطلاب الأجانب فيستغرق تكوينهم مدّة أطول، إذ تمتدّ مدّة تكوين الطلاب القادمين من البلدان الإفريقية إلى سنتيْن، وتتضمن دروساً شرعية في الفقه المالكي أساساً، وتكوينات في ثقافة السلم والتسامح ونبذ التشدد الديني.
تاريخ قديم
استعمال المغرب للبعد الديني والديبلوماسية الروحية ليس وليد اللحظة، فمنذ الثمانينات، بعد خروجه من منظمة الوحدة الأفريقية، حاول المغرب توظيف الورقة الدينية لحماية مصالحه، فأنشأ مع السنغال رابطة علماء المغرب والسنغال عام 1985، وكانت رغبة البلدين أن تكون الرابطة بينهما بداية انخراط بلدان أفريقية أخرى.
استثمار المغرب للدبلوماسية الروحية والدينية بإفريقيا كان نتيجة حتميات تاريخية فرضها ارتباط المملكة ببعض البلدان الإفريقية
وكثيرا ما يقدّم المغرب مساعدات لعديد البلدان الإفريقية، مثل توزيع المصاحف وتجهيز بعض المؤسسات الدينية والمساجد والزوايا الصوفية، الأمر الذي مكّنه من إعادة التموضع سياسياً في أفريقيا بعد أكثر من 32 سنة من سياسة المقعد الفارغ التي انتهجها. ويرى محلّلين سياسيين، أن المغرب أثبت حسن استثماره للعلاقات التاريخية مع البلدان الأفريقية وقبائلها وممالكها منذ الفتح الإسلامي إلى ما بعد رحيل الاستعمار الفرنسي.
ويؤكّد عديد المتابعين، أن استثمار المغرب للدبلوماسية الروحية والدينية بإفريقيا كان نتيجة حتميات تاريخية فرضها ارتباط المملكة ببعض البلدان الإفريقية، زد على ذلك التحديات الأمنية التي تشهدها القارة وعلى رأسها الإرهاب وتزايد الصراعات بالدول الإفريقية كما هو الحال بالنسبة لنيجيريا وإفريقيا الوسطى، وانتشار الجماعات المسلحة في المنطقة.
الصوفية، ذراع المملكة في إفريقيا
يتوفر المغرب على حركة صوفية قوية تعتبر جزء من الآليات التي تحافظ بها المملكة على هويتها الدينية، وقد استغلت المملكة هذه الطرق الصوفية في ديبلوماسيتها الدينية لارتباطها الوثيق بمجموعة من الدول الإفريقية، والمكانة الهامة التي تمتلكها داخل هذه الدول. وأدت هجمات 16 مايو 2003 الإرهابية بالدار البيضاء، إلى هذا الصعود اللافت للتصوف الطرائقي بعد وضع خطة إعادة هيكلة الحقل الديني التي اتخذت من التصوف السني أحد معالمها الأساسية في ضمان الأمن الروحي للمملكة.
وأصبح التصوف السني في السنوات الأخيرة من مسلمات الخطاب الديني الرسمي في المغرب وعماد السياسة الدينية وأحد الركائز الأساسية في تعريف الهوية والخصوصية الدينية المغربية إلى جانب المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وتم اعتماده كمحدد مركزي لإعادة هيكلة الحقل الديني، وقد انعكس هذا التوجه الرسمي بشكل كبير على عمل وممارسة الطرق الصوفية وعلى حضور التصوف الطرائقي في المشهد العمومي والإعلامي المغربي عبر توسيع مساحات نشاط واشتغال التصوف، ليشمل الثقافة والفن والموسيقى والبحث الأكاديمي.
مشائخ للطرق الصوفية في السينغال يستقبلون الملك محمد السادس
حضورها المحلّي القوي، ساهم في انتشارها في عديد الدول الإفريقية لتشكّل بذلك بمعية الطرق والزوايا الصوفية المنتشرة في دول القارة السمراء، لوبي ضاغط لفائدة المغرب في القضايا السياسية الكبرى، لاسيما قضية الصحراء. فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لفائدة الجزائر أو جبهة البوليساريو كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب.
ففي ديسمبر/كانون الأول 2007، ظهر سوء تفاهم بين المغرب والسنغال، إذ استدعت الرباط سفيرها بدكار إثر تصريحات “سيئة” لعضو من حزب المعارضة في حكومة الرئيس عبد الله واد، جاك بودان، السكرتير الوطني المكلف بالعلاقات الخارجية للحزب الاشتراكي السنغالي ووزير الخارجية في الحكومة السابقة لعبدو ضيوف. وهنا تحركت الآلة التيجانية بقادتها وقواعدها نحو مقر الحزب الاشتراكي السنغالي للاحتجاج وإنهاء التوتر وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها.