في الوقت الذي رفضت فيه الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية عدّة إلى جانب عدد من الدول الإفريقية، التمويل الكامل للقوة العسكرية متعدّدة الجنسيات التي تنوي فرنسا تشكيلها بمعية خمس دول إفريقية في منطقة الساحل والصحراء، سارعت كل من السعودية والإمارات المتّحدة إلى تمويل هذه القوّة العسكرية التي تسعى فرنسا إلى استغلالها لتقوية نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية، ما جعل عديد المراقبين يؤكّدون أن هذه المنطقة قادمة على حرب فرنسية بتمويل سعودي إماراتي.
مساهمة مشتركة بـ 130 مليون يورو
أول أمس الاربعاء، أعلنت السعودية والامارات، المساهمة بـ 130 مليون يورو في قمة استضاف خلالها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قادة أوروبيين وأفارقة من أجل تعزيز القوة الإقليمية لدول الساحل والصحراء الإفريقية الخمس، بعد أن شكّل التمويل عائقا كبيرا امام تشكيلها واطلاقها.
يعتبر الدعم السعودي الإماراتي الأكبر لهذه القوةّ العسكرية
وأعلنت المملكة العربية السعودية ممثلة بوزير خارجيتها عادل الجبير المساهمة بـ 100 مليون يورو إلى جانب مساهمة دولة الإمارات العربية المتحدة بـ 30 مليون يورو ما انعكس ارتياحا لدى الرئيس الفرنسي بتخطي مجموع المساهمات المعلنة عتبة 250 مليون يورو التي يحتاجها تشكيل هذه القوة على المدى القصير.
وكان قصر الإليزيه قد أعلن صراحة في 11 نوفمبر الماضي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مساعدة مالية للقوة العسكرية المشتركة بين الدول الخمس بمنطقة الساحل الأفريقي، وذلك بعد يومين من اجتماعه به في الرياض، بعد زيارة خاطفة تقررت على نحو مفاجئ في أثناء وجود الرئيس الفرنسي في الإمارات لافتتاح متحف اللوفر – أبوظبي.
اجتماع باريس بحث تمويل القوة العسكرية المشتركة
ويعتبر الدعم السعودي الإماراتي الأكبر لهذه القوةّ، فقد وعد الاتحاد الأوروبي بتقديم 50 مليون يورو، فيما وعدت فرنسا الدولة التي تشرف على تشكيل هذه القوة بتقديم 8 مليون يورو فقط، وهي عبارة عن معدات، كما وعدت البلدان الخمسة المؤسسة لهذه القوّة بتقديم 10 مليون يورو، أما الولايات المتحدة فوعدت البلدان الخمسة الأعضاء في مجموعة دول الساحل بمساعدة ثنائية شاملة تبلغ 60 مليون دولار، دون المرور على الصندوق المشترك.
تبيض صورة مشوهة
هذه المساهمة السعودية الإماراتية الكبيرة لتمويل هذه القوة العسكرية في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية البعيدة عن أراضيها، برّره مسؤولين كبار في البلدين برغبة الدولتين في المشاركة في الجهود الدولية للقضاء على الإرهاب ووقف انتشاره.
في مقابل ذلك، يرى عديد الخبراء في هذا الدعم، أنه محاولة من البلدين الظهور في ثوب المحارب للإرهاب في الوقت الذي أكّدت فيه عديد التقارير الدولية تورط كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في أنشطة مشبوهة لتمويل الإرهاب في عديد المناطق من العالم.
وفي يوليو الماضي، أعلن رؤساء دول الساحل والصحراء الخمسة (تشاد ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر) إلى جانب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، في ختام القمة عقدت في العاصمة المالية باماكو، تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات ستعمل إلى جانب بعثتي فرنسا والأمم المتحدة في حربها ضد الجماعات المسلحة في المنطقة.
قررت دول الساحل والصحراء في قمتها الأولى المنعقدة في فبراير الماضي تأسيس قوة عسكرية مشتركة قوامها 5000 عنصر لاستعادة المبادرة الأمنية في المنطقة
ومن المخطط أن تنتشر القوة المشتركة في البداية على حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر لتنضم في وقت لاحق إلى قوة “برخان” الفرنسية التي تطارد المسلحين في دول الساحل، وإلى بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، وأكد قائد القوة المشتركة، رئيس أركان الجيش المالي سابقًا، الجنرال ديدييه داكو، أن مركز قيادة هذه القوة سيكون في “سيفاري” بوسط مالي.
وكانت دول الساحل المشكّلة من كل من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد قد قررت في قمتها الأولى المنعقدة في فبراير الماضي تأسيس قوة عسكرية مشتركة قوامها 5000 عنصر لاستعادة المبادرة الأمنية في المنطقة وملاحقة التنظيمات الجهادية والمسلحة، لكن بقيت مسألة توفير مبلغ 250 مليون دولار لتمويلها عائقًا أمامها، لذلك توجهت للاتحادين الإفريقي والأوروبي لطلب الدعم المالي.
حرب بالوكالة
إلى جانب ذلك، يأتي هذا الدعم السعودي الإماراتي، في الوقت الذي تسعى فيه باريس إلى بسط نفوذها في هذه المنطقة، ومزيد إحكام السيطرة عليها لحماية مصالحها في هذه المنطقة الغنية بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
ويسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تصحيح الأخطاء التي وقع فيها سلفه فرنسوا هولاند الذي قاد عمليتين عسكريتين في شمال مالي، كُللت بإبعاد المسلحين من مناطق متعددة في الشمال، لكن كلفت الجيش الفرنسي الكثير من الخسائر خاصة في الأرواح، ويعول الإليزيه على ديناميكية ماكرون لتأمين مصالح باريس في القارة السمراء وحماية نفوذها التاريخي من المنافسة، دون أن يكبّده ذلك خسائر مالية وعسكرية، ويبدو الأن بشكل واضح أن فرنسا ستخوض الفصل الجديد من حربها في منطقة الساحل الأفريقي بأموال سعودية وإماراتية.
ماكرون في زيارة لقوات بلاده في المنطقة
وتزداد أهمية المنطقة بالنسبة لفرنسا، بما يحمله باطنها من ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس، اللتيوم، المنجنيز، الفوسفات، الملح..)، تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعًا كبيرًا للفرنسيين ولقوى دولية أخرى تسعى لأن يكون لها موطئ قدم في العمق الإفريقي وتهيمن على ثرواته الكثيرة والمتنوعة، وفي المقدمة الصين التي تقدر الدراسات الاقتصادية أن استثماراتها في الدول الإفريقية لا تقل عن 300 مليار دولار.
ويدخل السعي المتواصل لفرنسا لتحقيق وجود مستمر في القارة الإفريقية ضمن الحسابات الفرنسية المتعلقة بالحيلولة دون الابتعاد عن إفريقيا، على اعتبار أن العلاقة فيما بينهما إنما هي علاقات مصيرية، بمعنى أنها تتعلق ببقاء واستمرار الدولة الفرنسية كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، وفي سبيل ذلك فإنها تبرهن على ذلك بتوظيف آلية التدخلات في مناطق الأزمات والصراعات، بغض النظر عن التكاليف والنتائج المترتبة على ذلك.