كان من المنتظر أن يصطف التونسيون اليوم أمام مكاتب ومراكز الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم في أول انتخابات محلية بعد ثورة الـ14 من يناير 2011، إلا أن الأقدار وإرادة السياسيين شاءت دون ذلك، لتؤجل تونس بذلك النظر في مشاكل مواطنيها “المحلية” إلى موعد لاحق.
تأجيل خامس
أمس السبت، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، تأجيل أول انتخابات بلدية في مرحلة ما بعد الثورة مرة أخرى بعدما أُرجئت سابقًا، لتصبح في 6 من مايو 2018 بدلاً من 25 من مارس من نفس السنة، وتقدر تكلفة الانتخابات البلدية بنحو 68 مليون دينار تونسي (قرابة 29.5 مليون دولار أمريكي)، وفق أرقام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وتتعلق هذه الانتخابات التي من المفترض أن يشارك فيها العسكريون وأفراد الأمن لأول مرة في تاريخ تونس، بانتخاب أعضاء المجالس البلدية في 350 دائرة بلدية، بينها 86 بلدية حديثة العهد، و24 مجلسًا جهويًا (تابعًا للمحافظة) موزعة على مختلف المحافظات، بمقاعد تزيد على 7 آلاف مقعد.
كان من المقرر إجراء هذه الانتخابات التي طال انتظارها لتعزيز عملية الانتقال الديمقراطي، في الـ30 من شهر أكتوبر سنة 2016، ثم تأجلت إلى 26 من مارس
وأعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات محمد تليلي المنصري أن مجلس الهيئة قرر أن يكون تاريخ 29 من أبريل 2018 موعد انطلاق عملية الانتخابات البلدية بالنسبة إلى رجال الأمن والجيش، في حين تقرر تاريخ 6 من مايو القادم موعدًا للانتخابات بالنسبة لبقية المواطنين.
وكان من المقرر إجراء هذه الانتخابات التي طال انتظارها لتعزيز عملية الانتقال الديمقراطي، في الـ30 من شهر أكتوبر سنة 2016، ثم تأجلت إلى 26 من مارس 2017، ثم إلى 17 من ديسمبر من نفس السنة، تزامنًا مع ذكرى انطلاق الثورة، وتم تأجيلها إلى 25 من مارس 2018 نظرًا لأن البرلمان لم يوفق في سد الشغور الحاصل في هيئة الانتخابات بعد استقالة رئيسها وأعضاء منها، قبل أن تؤجل أمس إلى مايو، بناءً على طلب الأحزاب الكبرى.
حكم محلي مؤجل
ينص الفصل 131 ضمن الباب السابع من الدستور التونسي على أن “السلطة المحلية تقوم على أساس اللامركزية التي تتجسد في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون”.
وتتمتع الجماعات المحلية استنادًا إلى الفصل 132 من الدستور بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقًا لمبدأ التدبير الحر، وتمكن للجماعات المحلية، في إطار الميزانية المصادق عليها، حرية التصرف في مواردها بحسب قواعد الحوكمة الرشيدة وتحت رقابة القضاء المالي.
انتشار الأوساخ في عدد من البلديات التونسية
هذه الفصول يرى فيها العديد من التونسيين، طوق النجاة من حالة الفوضى ومظاهر التلوث والتسيب والفساد التي تعيش على وقعها أغلب البلديات التونسية، فهم يراهنون عليها وعلى الانتخابات وما ستفرزه من مجالس بلدية وجهوية لتركيز مؤسسات حكم محلي حقيقية نادى بها التونسيون في يناير 2011، تكون حلقة وصل بين المواطن والسلطة المركزية، وتمكنهم من المشاركة في إدارة شؤونهم بأنفسهم وتخفف من وطأة السلطة المركزية.
إلا أن كل ذلك سيتأجل إلى أشهر أخرى، ويمنح القانون القديم الذي تدار به المجالس المحلية والجهوية في تونس الآن، ممثل السلطة التنفيذية (المحافظ) في المحافظة صلاحيات كبرى على حساب صلاحيات المجالس المنتخبة وهو ما يفرغ تلك المجالس من مضمونها، ولا تعكس إرادة المواطنين وطموحاتهم.
شهدت هذه المناطق انتشارًا للجريمة المنظمة، نتيجة الغياب شبه الكلي لكيان الدولة، مما يعكس اللامبالاة المطلقة تجاه تلبية مطالب المواطنين
ومن شأن هذا التأجيل المتكرر لموعد الانتخابات المحلية في تونس أن يعمق من معاناة الفئات الاجتماعية الضعيفة والوسطى التي تعطلت مصالحها الأساسية منذ فترة طويلة، وأن يسهم أيضًا في تدهور مستوى الخدمات والبنى التحتية التي تراجعت بشكل كبير منذ حل المجالس البلدية واستبدالها بنيابات خصوصية معينة من السلطة التنفيذية منذ منتصف 2011.
وبلغت الخدمات البلدية في السنوات الأخيرة مستويات متدنية، وشهدت هذه المناطق انتشارًا للجريمة المنظمة، نتيجة الغياب شبه الكلي لكيان الدولة في الأحياء والقرى والمدن خصوصًا الداخلية، مما يعكس اللامبالاة المطلقة تجاه تلبية مطالب المواطنين وتحقيق حقوقهم المشروعة.
من يقف وراء ذلك؟
بقاء تونس دون مجالس محلية منتخبة من طرف الشعب مباشرة للعام السابع على التوالي، وتأجيل موعد الانتخابات المحلية للمرة الخامسة، كان وراءه العديد من الأطراف السياسية التي ليس من مصلحتها إجراء هذه الانتخابات حتى لا يكشف ثقلها الشعبي الهزيل.
ومنذ إقرار موعدها الأول، وُضعت الانتخابات المحلية في تونس، موضع مقايضة سياسية من بعض الأحزاب السياسية، وما يروج في كل مرة من أسباب لتأجيلها لبعض الأشهر ليس إلا إرادة من البعض لإطالة معاناة المواطنين المحرومين من حقهم الأدنى فيمن يمثلهم باختيارهم الإرادي الحر ويتولى تنظيم معاملاتهم اليومية ويقدم لهم أبسط الخدمات الضرورية.
أنصار “نداء تونس”
ورغم كون هذا التأجيل المتكرر لموعد الانتخابات وتعطيل إنجازها ليس في مصلحة تونس، فقد استأسدت العديد من الأحزاب بالدفع نحو التأجيل وعلى رأس هذه الأحزاب حزب نداء تونس والأحزاب التي خرجت من صلبه كمشروع تونس وبني وطني، فضلاً عن الأحزاب التي يشترك معها في الفكر على غرار حركة آفاق تونس، فهذه الأحزاب تريد أن تربط موعد الانتخابات بمدى استعدادها لخوض هذه الانتخابات، وإن كلف ذلك اللعب باستقرار البلاد وتأزيم الوضع العام لتونس.
ومن شأن هذه الانتخابات إن تمت أن تساهم في توسيع المسؤوليات المركزة في مستوى الحكم المركزي إلى آلاف المنتخبين على المستوى المحلي وتخفيف الضغط على الحكومة وتوسيع التجربة الديمقراطية التشاركية في البلاد، ما من شأنه أن يعود بالفائدة على الجميع.