تعكس الخانات القديمة في إسطنبول جانبًا تاريخيًا وتراثيًّا أساسيًّا للمدينة، نظرًا لأهميتها التجارية ومكانتها الحيوية سابقًا، إذ بدأ ظهورها مع فتح المدينة واستمرّ استمرّ بناؤها في الدولة العثمانية حتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع تغييرات عديدة في الشكل والوظيفة والاستخدامات، ما يعني أنّ الخلفاء والوزراء أولوا اهتمامًا بالغًا فيها.
أقدم خانات إسطنبول هو بالكاباني خان “Balkapanı Han“، ويرجع تاريخ بناؤه إلى القرن الرابع للميلاد، أي في عهد الدولة البيزنطية، أما الخانات الأخرى فيرجع معظمها لعهد الدولتين العثمانية والسلجوقية، ولا زالت معظمها قائمة كما كانت عليه آنذاك بفعل أعمال الترميم والاهتمام التي تحظى به من الدولة التركية.
بدأ العثمانيون بعد الفتح مباشرة بإنشاء بنية تحتية تجارية في المدينة، من خلال إحياء المباني البيزنطية القديمة وإنشاء مبانٍ جديدة لأهداف وأغراض تجارية، ومن هنا جاءت فكرة الخانات والبازارات، التي شكّلت مراكز حيوية تجارية إضافةً لما يحيط بها من فنادق ونُزل وحمّامات وجوامع وقصور كبيرة.
أما الهدف الأساسي من بناء الخانات، والتي يرجع أصلها إلى الفارسية بمعنة منزل، فقد كان لاحتواء المحلات التجارية وورشات الصنع اليدوية، إضافة لتوفير السكن والنُزل للتجار والباعة القادمين من خارج المدينة والذين يحتاجون مكانًا يبيتون فيه، ولذلك فكلّ خان كان عبارة عن عدة طوابق يكون أحدها مخصصًا للمحلات والورشات، وآخر مخصص لغرف المبيت.
يوجد لكلّ خان ساحة كبيرة، بحيث تتسع لقوافل البضائع القادمة، أو تكون مناسبة لإقامة الحيوانات القادمة معها من جِمال وخيول وبغال وغيرها. كما حرص العثمانيون على تخصص جوامع تابعة لكلّ خان، بحيث يستطيع التجار أداء عباداتهم دون قطع مسافاتٍ كبيرة للجوامع الرئيسية في المدينة.
تتمركز الخانات العثمانية في إسطنبول في أربع مناطق أساسية؛ وهي إمينونو وبايزيد وأكسراي وبي أوغلو. وبطبيعة الحال فالسوق المسقوف أو ما يُعرف بجراند بازار كان يشكّل البؤرة التجارية الأساسية في المدينة، لذلك لا ريب بأنّ معظم الخانات القديمة تتركّز حوله وحول المناطق القريبة منه.
خان الوالدة القديمة هو واحد من أكبر الخانات في إسطنبول، بُني في القرن السابع عشر، تحديدًا في عام 1651 بإشرافٍ من السلطانة كوسم، والدة السلطان محمد الرابع، ويشكّل اليوم واحدًا من أكثر الخانات شعبية في المدينة، نظرًا لموقعه المرتفع على إحدى التلال والتي تطلّ على منظرٍ فائق الجمال للمدينة القديمة وخليجها والعديد من معالمها التاريخية.
كان الخان يُستخدم لتخزين البضائع القادمة عبرَ السفن الراسية في خليج القرن الذهبيّ، بالإضافة لكونه فندقًا أو نُزلًا للتجار المسافرين القادمين للمدينة، أما اليوم فهو عبارة عن تجمّع لورش العمل للعديد من الحرفيين ذوي الحرف المختلفة، من حديد وفخارومصابيح وأراجيل وفضة وورش النسيج والخياطة وغيرها الكثير.
يتكون الخان من طابقين، وثلاثة أفنية، وهو ذو مخطط بنائي غير منتظم، تبعًا لموقعه والأرض المبنيّ عليها. يضم 153 غرفة في باحتيه الأولى والثانية و57 غرفة في الباحة الثالثة. إلا أنّ أجمل ما فيه كما قلنا هو سطحه الذي يطلّ على المدينة العريقة الآسرة للأنفاس.
أما تاش هان، أو خان الحجر كما يعني اسمه بالعربية، فيبدو أنّه مذ لحظة بنائه عام 1763 على نقيض صهريجٍ بيزنطيّ قديم، ما زال يحافظ على هيئته الأولى التي بُني عليها، إذ ليسَ من الصعب عليك أن تستشفّ ذلك منذ اللحظة الأولى لدخولك إياه.
بُني الخان بأمرٍ من السلطان مصطفى الثالث، ليكون بالأصل تابعًا لجامع لاليلي على أنه نزلٌ مخصص لفرسان الجيش العثمانيّ القادمين من خارج إسطنبول لاستلام مستحقاتهم، فحمل اسم “خان الفرسان Sipahiler Hanı” بدايةً، وحين لم يعد الفرسان يقدمون إليه تغير اسمه إلى “خان الينبوع المغمور ÇukurÇeşme Hanı” نظرًا لخزان الماء أسفله. ومع بداية الدولة التركية الحديثة بات يُعرف باسم تاش خان، أي “خان الحجر”.
يتكون الخان من ممرّات ضيقة تضمّ عدة دكاكين ومحلّات متنوعة تتوزع على طابقين وتقودك لباحتين واسعتين تحوّلتا لمقهىً ومطعمٍ، محاطين بأنواع مختلفة من الزهور الملوّنة برفقةِ صوت الماء المنسدل من نوافير صغيرة جميلة.
في الحديقة الرئيسية للخان ستجد درجًا يُفضي للأسفل، استعن بأحد العاملين ليساعدك على دخوله في حال كان مغلقًا، وانزل لتشاهد مكان خزان الماء المغمور قبل 200 عام، والذي صُوّرت فيه مسلسلاتٍ عديدة منها وادي الذئاب وحريم السلطان وأوزيل وغيرها.
بعد أن تنهيَ جولتك حول الخان، اجلس في حديقته لتستمتع بفنجانٍ من القهوة بكلّ هدوء وأُنس، وإن كنتَ محظوظًا قد تلتقي بـِ”كمال آبي”، صاحب الخان الذي أشرفت عائلته – عائلة أوجاك Ocak- في الأعوام 1993-1996 على إعادة ترميم الخان المتهالك آنذاك، سلّم عليه واشكره على جهوده التي بذلها في سبيل الخان، وقد تحظى معه بجولةٍ قصيرة يعطيكَ من خلالها لمحةً عن تاريخ الخان وقصته مع إعادة ترميمه.
وفي حال كنتَ بالقرب من السوق المسقوف، فلا بدّ أن تستكشف أحد أجمل الخانات القديمة فيه، وهو “زنجرلي خان” والذي يعود بناؤه للقرن الثامن عشر، أي لأواخر الدولة العثمانية، لذلك ستجده أحدث من غيره من الخانات، وستستشفّ الأسلوب المعماري المختلف قليلًا عن غيره، خاصة بلونه الوردي القريب للاحمرار.
تم بناء الخان على شكل مستطيل عّرضي ويتكون من من طابقين يحيطان بفناء وساحة مفتوحة على الفناء. وما زال حتى يومنا هذا يخصص غرف طابقه العلوي لصناعة الحلي والمجوهرات تمامًا كما أنشئ له قبل أكثر من قرنين.