عاد الحديث عن ضرورة التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية يفرض نفسه بصورة مكثفة خلال اليومين الماضيين بعد فشل مسار “جنيف” في جولته الثامنة التي عقدت مؤخرًا في الخروج بأي نتائج من الممكن الاعتماد عليها في فرض تسوية مقبولة تخرج السوريين من مأزقهم الحاليّ.
وسواء كان فشل هذه الجولة متعمدًا من أي من الأطراف الرافضة التزحزح قيد أنملة عن مواقفها الثابتة أو نتيجة بعض المتغيرات الراهنة التي ألقت بظلالها على المشهد السياسي برمته، فإن مسار المفاوضات بدأ في اتخاذ منحى آخر بعيدًا عن المظلة الأممية، حيث مؤتمر سوتشي المقرر عقده أواخر يناير/كانون الثاني.
نجاح روسيا في توجيه بوصلة المفاوضات من جنيف إلى سوتشي فرض حالة من الترقب والقلق لدى الكثير من المقربين من المشهد السوري، خاصة فيما يتعلق بمساعي موسكو تكييف الحل السياسي بما يتماهى مع رؤيتها لترسيخ وجودها داخل سوريا، علمًا بأن هذا لن يتأتى إلا من خلال الإبقاء على النظام الحاليّ، وإن لم يكن بمسماه وشخوصه فبتوجهاته وميوله السياسية.
جنيف إلى طريق مسدود
جولات تفاوضية عدة قام بها أطراف النزاع في سوريا منذ بدء الأزمة وحتى الآن باءت جميعها بالفشل، ورغم ما حققته في بعض مراحلها من تقدم نسبي في المسار السياسي غير أنها سرعان ما تسقط في فخ آخر يعيدها إلى المربع رقم “صفر” مجددًا، ولعل فشل الجولة الأخيرة من مفاوضات “جنيف” تجسد حالة الإحباط التي أصابت الكثيرين بشأن إمكانية الخروج ببصيص أمل في النفق المظلم للمفاوضات المستمرة قرابة الأعوام الثلاث تحت رعاية أممية.
الشروط المسبقة كانت في المجمل معول الفشل الأبرز للمسار التفاوضي طيلة الفترة الماضية، حيث يتشبث كل طرف بما لديه من أوراق ومواقف رافضًا تقديم أي من التنازلات من أجل الوصول إلى نقاط مشتركة قد تكون محل اتفاق يمكن من خلالها الانطلاق نحو آفاق جديدة من التسوية.
فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات علق عليها رئيس وفد النظام السوري بشار الجعفري، بأن حكومته لن تقبل الدخول في حوار بوجود شرط الالتزام ببيان “الرياض 2” الذي يقضي برحيل الأسد كشرط للتفاوض، يقابله اتهام رئيس “هيئة التفاوض السورية” نصر الحريري، لوفد النظام بإضاعة الوقت وعدم الجدية خلال الجولة الحاليّة، هذا في الوقت الذي اكتفى فيه ميستورا، بإبداء أسفه لعدم حصول “مفاوضات حقيقة” بين الطرفين.
الرهان على فشل هذه الجولة كان منطقيًا للغاية في ظل التشكيل الجديد للخريطة السياسية السورية التي تغيرت ملامحها بصورة جذرية خلال الفترة الأخيرة، ومن ثم لم يكن مفاجئًا أن يخرج طرفا الأزمة بوفاض خالٍ باستثناء الاتفاق على تشكيل مجموعتي عمل من أجل المعتقلين والمفقودين وتبادل الأسرى والجثث وإزالة الألغام.
سوتشي.. الدفة تتحول
فشل جنيف وتبعاتها أعطى الضوء الأخضر لروسيا لتوجيه مسار التفاوض حيثما تريد وبالشكل الذي يتواءم مع أهدافها وتوجهاتها داخل سوريا، فبعد قدرتها على قلب المعادلة الميدانية لصالح حليفها بشار الأسد ونظامه على حساب قوى المعارضة والفصائل المسلحة الأخرى، ها هي تدفع المعارضة إلى الاجتماع في سوتشي.
روسيا وتركيا وإيران بصفتها الدول الضامنة لمسار أستانة اتفقتا فيما بينهما على “عقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في 29-30 من يناير/كانون الثاني 2018، في سوتشي، بمشاركة الطوائف السورية كافة، والحكومة والمعارضة، ومن يهمه وحدة واستقلال أراضي سورية” حسبما أشار بيان أستانة الختامي الثامن الذي جاء متزامنًا مع إعلان الكرملين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان أملا، في اتصال هاتفي بينهما “أن تمهد محادثات أستانة الطريق لعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في منتجع سوتشي”.
الشروط المسبقة كانت في المجمل معول الفشل الأبرز للمسار التفاوضي طيلة الفترة الماضية، حيث يتشبث كل طرف بما لديه من أوراق ومواقف رافضًا تقديم أي من التنازلات
الدول الثلاثة الضامنة استقرت – وفق بعض المصادر – على قائمة المشاركين في سوتشي، وهو ما أشار إليه رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرنتييف خلال لقائه مع وفد المعارضة، بترشيح قوائم من بعض الشخصيات لحضور المؤتمر كذا دعوة عدد من الدول على رأسها مصر والسعودية وتركيا والإمارات وروسيا.
دوليًا.. فقد طالب المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، بتقييم خطة روسيا لعقد “مؤتمر الحوار الوطني السوري” الشهر المقبل في سوتشي، ومدى قدرته على دعم محادثات جنيف، معربًا عن تقديره للنتائج التي خرجت بها الجولة الثامنة من المفاوضات وإن لم تكن على المستوى المأمول.
ومن ثم يبدو أن الأمور تسير وفق تطورات المشهد نحو الرؤية الروسية بشكل كبير، فالنظام السوري لا يملك سوى الانصياع لإرادة داعمه الأول وحليفه القوي، وها هي الأمم المتحدة تقر ضمنيًا بفشل المسار التفاوضي بعد 8 جولات لم تسفر عن شيء، كذلك عدم ممانعتها في التنازل عن رعايتها لهذا المسار لصالح الروس، لكن يبقى السؤال: ماذا عن المعارضة؟
انتهاء روسيا وتركيا وإيران من تحديد القوائم المشاركة في المؤتمر
موسكو تغازل
موسكو تسعى – بلا شك – إلى مشاركة الجزء الأكبر من المعارضة في مؤتمر الحوار الوطني نهاية يناير المقبل لما ينطوي على ذلك من إضفاء لشرعيته السياسية بصورة تسحب من خلالها البساط من تحت أقدام الأمم المتحدة، ومن ثم إلغاء بيان “جنيف 1″ والقرار”2218” لذا كانت رسائل الطمأنة الروسية للمعارضة التي تحمل في بعضها صفة المغازلة.
مصدر مطلع في المعارضة السورية قال إن رئيس الوفد الروسي أكد للمعارضة “أهمية الالتزام بمرجعية جنيف وتنفيذ القرار الأممي 2254، وأن مؤتمر الحوار السوري سيكون ملتزمًا بذلك ويحظى بالدعم الإقليمي والأممي”، كذلك علق على صورة إيقاف الضابط الروسي لرئيس النظام بشار الأسد في قاعدة حميميم، بقوله: “الحل في سورية لا يتوقف على شخص أحد، لا بشار ولا غيره، ويجب أن يكون مؤتمر الحوار السوري مخرجًا مناسبًا للحل النهائي”، حسبما نقلت عنه “العربي الجديد“.
من جانب آخر جاءت تصريحات المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، أمس السبت، لتسير في اتجاه الطمأنة بشكل كبير، وذلك حين أعلن أن المؤتمر المزمع عقده في سوتشي الروسية يومي 29 و30 من يناير/كانون الثاني المقبل، بمشاركة 1500 شخص، سينظر في إجراء إصلاحات دستورية وانتخابات في سورية بإشراف أممي، وأن بلاده “تعمل على مشاركة ممثلي جميع الأطياف السورية” في هذا المؤتمر.
بينما رجح نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، أن يتم خلال المؤتمر “تشكيل لجنة دستورية تحصل على تفويض عام من الشعب، ولذلك سيكون هناك بين 1500 و1700 مشارك”، مؤكدًا أن “ممثلي الشعب بأسره يعتبرون مصدرًا للتشريع بشأن المسائل كافة، بما في ذلك بدء إصلاح دستوري والتحضير لدستور جديد”.
مصدر في الائتلاف الوطني السوري: هناك مؤشرات على أن الروس أعدوا مشروع حلّ يتوافق مع مصالحهم، والمطلوب من المشاركين التوقيع عليه
المعارضة لم تحسم موقفها بعد
تحيا المعارضة السورية أضعف حالاتها منذ انطلاق الثورة السورية في 2011 وذلك إثر إصابتها بالعديد من الشروخات التي أصابت جسدها فأنهكته بصورة كبيرة، مما أسفر عن فشلها في خلق جبهة مسلحة متماسكة ومنظمة في مواجهة النظام السوري، مكونة حزمة من الفصائل والتشكيلات المتناحرة، ارتفعت فيما بينها مستويات “الأدلجة” و”المنهجة” و”الأسلمة” بالتزامن مع تشعب منافذ الدعم والتمويل.
وأمام هذا الوهن الذي أصابها في مقابل التقدم الميداني للنظام السوري لم تجد المعارضة سوى التعاطي بواقعية مع المستجدات التي طرأت على الساحة حتى لا تفقد ما تبقى منها، وتقلصت أمامها الخيارات فيما يتعلق بموقفها من المسار التفاوضي، وعليه تشير العديد من الشواهد إلى قبول المشاركة في سوتشي رغم التخوفات.
ورغم عدم حسم المعارضة السورية لمسألة المشاركة في سوتشي غير أن هناك تيارًا بداخلها لا يمانع من حيث المبدأ في الحضور خاصة بعد رسائل موسكو التطمينية، وهو ما لفت إليه رئيس اللجنة العسكرية في وفد قوى الثورة العسكري العقيد فاتح حسون، في تصريحاته لـ”العربي الجديد” التي أشار فيها إلى أنه سيتم “التشاور مع كل القوى المدنية والعسكرية قبل تحديد موقف حيال هذا المؤتمر”.
لكنه أضاف “من حيث المبدأ، إذا كان المؤتمر سيؤدي إلى دفع مسار جنيف المبني على القرارات الدولية، فإننا نرحّب به، أمّا إذا كان له مسار مستقل يخرج عن هذه القرارات، فلن يكون محلّ ترحيب”، موضحًا أنه يستلزم معرفة بعض التفاصيل قبل اتخاذ القرار بشأن المشاركة في المؤتمر أو عدم المشاركة.
قلق داخل صفوف المعارضة بشأن نوايا موسكو من وراء عقد سوتشي
تصفية القضية والمعارضة معًا
وفي المقابل تخيم حالة من القلق على تيار آخر داخل صفوف المعارضة بشأن كواليس هذا المؤتمر المزعوم، فالاستماتة الروسية نحو إزاحة المظلة الأممية من على رأس المسار التفاوضي يحمل – بحسب البعض – العديد من التساؤلات عن النوايا الحقيقية لموسكو.
هذا الفريق يرى أن سير روسيا عكس اتجاه العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف يولد حزمة من المخاوف بشأن مساعي موسكو تصفية القضية السورية بصورة كاملة من خلال إعادة إنتاج النظام السوري من جانب، وإحداث مزيد من الشروخات والانقسامات في صفوف المعارضة من جانب آخر.
الناطق باسم هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، يحيى العريضي، وصف ما تقوم به موسكو بـ”الخبث” من خلال “استجلاب هذا العدد الهائل المهلهل، الرغو، غائب الملامح، مهتزّ الثوابت، مما يجعل أي ورقة قوة بيد أي مجموعة أو هيئة، بلا تأثير فعلي”، واعتبر العريضي أنه “من هنا ستكون الدراسة المعمقة للقصة، وبلورة مواقف وإستراتيجية ذات تأثير فعلي”، مضيفًا “المسألة ليست نعم أو لا”.
أمام هذا الوهن الذي أصابها في مقابل التقدم الميداني للنظام السوري لم تجد المعارضة سوى التعاطي بواقعية مع المستجدات التي طرأت على الساحة حتى لا تفقد ما تبقى منها
بينما آخرون داخل صفوف المعارضة أشاروا أن مؤتمر سوتشي في حقيقته “انزلاق كبير” ومحاولة روسية لتشوية القضية السورية، مطالبين بضرورة الحديث مع حلفاء المعارضة على رأسهم تركيا ونقل الصورة كاملة للشارع السوري المعارض قبل البت في مسألة المشاركة من عدمها.
مصدر رفيع المستوى في الائتلاف الوطني السوري، استنكر اختزال موسكو للقضية السورية في مسألة الانتخابات، لافتًا إلى أنها محاولة لتمرير خطة ما، تسعى روسيا لفرضها بالقوة – السياسية والعسكرية -، دون مراعاة لمواقف الطرف الآخر، كاشفًا أن “هناك مؤشرات على أن الروس أعدوا مشروع حلّ يتوافق مع مصالحهم، والمطلوب من المشاركين التوقيع عليه”.
المصدر الذي رفض ذكره اسمه تساءل: “كيف نعقد اجتماعًا في أرض قوة احتلال لا تزال تصرّ على إعادة إنتاج النظام، وإعفاء بشار الأسد من المسؤولية الجنائية حيال الجرائم التي ارتكبت في سورية طيلة أعوام؟” مشيرًا إلى أن المعارضة تنظر بعين الريبة والشك نحو هذا المؤتمر رغم التطمينات الروسية.
تخوفات ساقها البعض أيضًا بشأن ممارسة موسكو ضغوطًا على المعارضة حال مشاركتها في المؤتمر من أجل القبول بالورقة الروسية التي تحمل بين طياتها إجهاض للثورة بشكل كامل وتفتيت آخر ما تبقى من الفصائل المتماسكة في صفوف المعارضة، منوهين إلى إجماع عدد من الشخصيات الوطنية ذات التأثير في الشارع السوري على رفض المشاركة وتفويت الفرصة على موسكو لتنفيذ مخططها.
ومن ثم من المرجح أن تحارب موسكو من أجل إضفاء الشرعية على مؤتمر سوتشي من خلال الضغط على المعارضة للتمثيل بالشكل المطلوب من أجل تحصين مخرجات المؤتمر دوليًا بما يتماشى من أهدافها الرامية إلى ترسيخ وجودها داخل سوريا، لتبقى الكرة في النهاية في ملعب المعارضة الواقعة بين مطرقة الوهن الذي أصابها وقلص خياراتها بشكل كبير وسندان القلق من تصفيتها والقضية الروسية برمتها في آن واحد على أيدي الروس.. فهل ترضخ؟