لم تكن أوراق الإدارات الأمريكية الاستراتيجية تعطى الاهتمام الذي أخذت في اكتسابه في العقد أو العقدين الأخيرين. في الأصل، لم تكن الادارة مطالبة بإعلان رؤيتها الاستراتيجية للأمن القومي حتى 1986، عندما مرر الكونغرس مشروع قانون بهذا الشأن، لأسباب تتعلق بعلاقة الرئيس مع المؤسسة التشريعية وحاجة الأخيرة لتوقع الأولويات وكيفية تخصيص الموارد.
خلال سنوات الحرب الباردة، وحتى انهيار الكتلة الشرقية، لم يكن ثمة حاجة ملحة للبحث عن خيارات رئيس ما وتتبع مقاربته الاستراتيجية للشأن العالمي. كانت خارطة العالم الاستراتيجية محددة إلى حد كبير، كما كان دليل مقاربة قضاياه أكثر وضوحاً. وكان يكفي، مثلاً، أن يعلن الرئيس تصوره للعلاقات مع الاتحاد السوفياتي لإدراك الكيفية التي سيتعامل بها مع شؤون العالم المختلفة الأخرى.
مع بداية القرن الحادي والعشرين، أصبحت صورة العالم أكثر تعقيداً، سواء لاستعادة روسيا بعضاً من الحيوية، لتسارع وتيرة النهوض الصيني الاقتصادي، أو للدور الذي باتت تلعبه القوى تحت مستوى الدولة في صناعة الأزمات، أو إضفاء مزيد من التعقيد في مناطق التأزم المزمنة. من جهة أخرى، أخذ التقدم الهائل في وسائل الاتصال في تغيير طبيعة التهديدات المحتملة، ليس فقط في مجال المعلومات والإدارة، ولكن أيضاً في دوائر المال والتجارة الدولية.
واحدة من الإضافات التي تقدمها ورقة إدارة ترامب، تتعلق بالربط بين قضايا الأمن الأمريكي الاستراتيجي داخلياً، والأخرى ذات الصلة بالتحديات الخارجية لموقع أمريكا ودورها في العالم
بيد أن الرئيسين السابقين لترامب، بوش الابن وأوباما، اللذين تولى كل منهما مقاليد البيت الأبيض لدورتين متتاليتين، لم يتعجلا في إعلان رؤية إدارتيهما الاستراتيجية. كان أوباما قد أمضى أكثر من عامين في منصبه قبل أن يعلن ورقته الاستراتيجية الأولى. والسبب على الأرجح خلف هذا التباطؤ كان الإدراك المتزايد في واشنطن لتحول طبيعة الاهتمام بالرؤية الاستراتيجية، من كونها إطاراً لتحديد مسار العلاقة بين البيت الأبيض والكونغرس، إلى إطار لتقديم الإدارة وأولوياتها للعالم بأسره.
ولأن كل قادم جديد إلى البيت الأبيض يحتاج بعض الوقت للتعرف على التحديات التي تواجهه، وأدوات القوة المتاحة له، لم تكن ثمة ضرورة للإسراع في الكشف عن النوايا. بإعلانه رؤية رئاسته الاستراتيجية قبل اختتام عامه الأول في البيت الأبيض، يعتبر ترامب الرئيس الأسرع في هذا المجال منذ عقدين على الأقل. ولأن من العبث البحث عن الأسباب المنطقية خلف الخطوات التي يتعهدها هذا الرئيس، ليس من المهم طرح سؤال لماذا عمل ترامب على إصدار ورقته الاستراتيجية بهذه السرعة. فما الذي تحمله رؤية إدارة ترامب الاستراتيجية، وإلى أي درجة يمكن اعتبارها دليلاً يمكن الاطمئنان له للتعرف على سياسة الرئيس الخارجية؟
واحدة من الإضافات التي تقدمها ورقة إدارة ترامب، تتعلق بالربط بين قضايا الأمن الأمريكي الاستراتيجي داخلياً، والأخرى ذات الصلة بالتحديات الخارجية لموقع أمريكا ودورها في العالم. داخلياً، تتبنى إدارة ترامب لغة يمكن وصفها بالقومية الأمريكية، التي تعكس شعار الرئيس المفضل: «أمريكا أولاً». ثمة تركيز غير معهود على ضرورة استعادة التفوق الاقتصادي الأمريكي بإلغاء أو إعادة النظر في الاتفاقيات الاقتصادية الدولية التي وقعتها الولايات المتحدة مع دول حوض الباسيفيك والأمريكيتين، وإشارة واضحة إلى ضرورة تحمل الحلفاء، في أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، تكاليف الدفاع عن منظومات أمنهم، التي يدعي ترامب أن الولايات المتحدة تتحمل الآن العبء الأكبر منها.
كما أن الورقة تجعل مسألة الهجرة إلى الولايات المتحدة، سيما هجرة المسلمين، التي اتخذ ترامب بصددها فعلاً إجراءات صارمة وغير معهودة، واحدة من قضايا الأمن الاستراتيجي. ولكن الورقة لم تذكر شيئاً حول التأثير المحتمل للنزعة الرأسمالية القومية على علاقات أمريكا التحالفية ودورها العالمي.
قد يجد ترامب في الشرق الأوسط من يدفع له المليارات مقابل أوهام الدور الأمريكي الدفاعي؛ ولكن ماذا لو أن أوروبا مضت قدماً في تشكيل جيش أوروبي، خارج نطاق الناتو، بدلاً من الخضوع لابتزاز إدارة ترامب؟ ماذا لو أن اليابان، أو ألمانيا، تخلت عن سياسات التسلح المحافظة التي تبنتها طوال نصف القرن الماضي، وقررت انتهاج سياسة دفاعية أكثر اندفاعاً (ومؤشرات هكذا تحول أصبحت بادية للعيان مؤخراً)؟ تحمل الولايات المتحدة، ومنذ نهاية الحرب الثانية، القسط الأكبر من أعباء الدفاع عن الحلفاء يتصل أصلاً بالموقع والدور والقيادة. والولايات المتحدة، حتى وهي تتحمل هذه الأعباء، تجني ثماراً اقتصادية هائلة، وبصورة غير مباشرة، من الموقع القيادي الذي تحتله.
أخذ ورقة ترامب الاستراتيجية في الاعتبار هو أمر ضروري، بالتأكيد، ولكن الاعتقاد بأن الأمور في العالم ستسير طبقاً لفرضيات واشنطن هو نوع من الشرك السياسي!
على صعيد تحديات الوضع الدولي، تشير الورقة إلى أن روسيا تتبنى سياسة تراجعية، تستهدف إستعادة دور روسيا العالمي؛ وتؤكد على أن هذا التطور في السياسة الروسية يشكل تهديداً للولايات المتحدة. كما تعتبر الصين منافساً رئيساً للقوة الاقتصادية الأمريكية. والمؤكد أن هذا الوضوح غير المسبوق في توصيف علاقة الولايات المتحدة بروسيا وبالصين، يشكل مركز ثقل ورقة استراتيجية الأمن القومي. أغلب المسائل الأخرى التي تشير إليها الورقة على الصعيد الدولي، مثل تحديات الإرهاب والدول الفاشلة؛ وتلك التي تتجاهلها (وكانت أصبحت تقليداً في أوراق إدراتي بوش الابن وأوباما، مثل مسألة الديمقراطية)، هامشية ولا يجب أن تستدعي اهتماماً كبيراً. محاولات الاستعادة الروسية بدأت منذ معركة جورجيا في 2008؛ وربما كان أصبح واضحاً في العام نفسه أن الصعود الاقتصادي الصيني تجاوز السقف، ولم يعد من الممكن محاصرته أو إيقافه بدون تقويض النظام الاقتصادي العالمي برمته.
توصيف ورقة ترامب للتحديين الروسي والصيني صحيح، بالتأكيد، وربما حتى جاء متأخراً. ولكن السؤال كيف، كيف يمكن التعامل مع هذين التحديين؟ مشكلة الورقة أنها لا تقترح، ولا ترسم ولو إطاراً عاماً للكيفية التي ستعمل بها واشنطن ترامب لاحتواء السلوك العدائي الروسي والتنافسية الصينية. كما أنها تغفل كلية ذكر الوسائل والمقدرات المتاحة، أو التي يفترض أن تتاح، للتعامل مع روسيا والصين.
في حديث للبي بي سي، قال الجنرال ماكماستر، الذي يفترض أن يكون من أشرف على وضع تصور إدارة ترامب الاستراتيجي، أن «الجيوبوليتكس تعود، وأنها تعود بنفس انتقامي»، يقصد بذلك أن الاعتبارات الجيوسياسية ستحتل موقعها في أساس رؤية الإدارة الأمريكية للشأن العالمي، وأن واشنطن ترامب لن تغض النظر (كما فعلت إدارات سابقة) عن التحديات التي تواجهها على الخارطة العالمية. ولكن مكماستر، أيضاً، لم يقدم مثالاً واحداً على ما ستقوم به إدارة ترامب لاستعادة ولو موقع واحد خسرته الولايات المتحدة لصالح روسيا أو الصين. ما لا تقوله ورقة الاستراتيجية الجديدة أن ثمة حدوداً لما تستطيع دولة كبرى القيام به، حتى عندما تكون الدولة هي الولايات المتحدة، سيما إن نظر رئيسها إلى العالم من زاوية قومية ضيقة.
بيد أن هناك ما يغيب كثيراً عن الاهتمام العالمي المتزايد بورقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، سيما في عالم ما بعد الحرب الباردة. عالم اليوم، بلا شك، أقل قابلية للتوقع مما كان عليه الشأن العالمي منذ نهاية الحروب النابليونية. وفي عالم يستعصي على التوقع، يصعب التنبؤ مسبقاً بأولويات دولة كبرى كالولايات المتحدة، يفترض أن يكون العالم بأسره مسرحاً لأمنها القومي. لم يتوقع أوباما زيادة عدد قواته في أفغانستان، ولا توقعت إدارته العودة العسكرية إلى العراق. كما أن دارة بوش الأولى، التي تسملت مقاليد الحكم وهي تخطط لانسحاب نسبي من الشأن الدولي، سرعان ما وجدت نفسها تخوض سلسلة من الحروب في الشرق الأوسط. بمعنى، أن أخذ ورقة ترامب الاستراتيجية في الاعتبار هو أمر ضروري، بالتأكيد، ولكن الاعتقاد بأن الأمور في العالم ستسير طبقاً لفرضيات واشنطن هو نوع من الشرك السياسي!