عيونهم شاخصة إلى السماء وأياديهم على القبضة اللاسلكية، وجوههم يعلوها الخوف من طائرة تطل برأسها بغتة فترمي حمم الحقد والكراهية، جُبُنهم تتصبب عرقًا وهم يحملون أشياءهم ومتاعهم ويركبون قطار النزوح وقلوبهم تنفطر ألمًا، إذ يُهجرون قسرًا من موطنهم.
وقد عطف القرآن الكريم الخروج من الديار على قتل النفس {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم}، وليت هؤلاء المقهورين الذين فاق عددهم 130 ألفًا رحلوا إلى بيوت تمنع عنهم الحر والقر والمطر، بل كان سبيلهم التراب والخيمة والعراء.
ما سبق ذكره من أوصاف شيءٌ من مأساة ضخمة حصلت في شرق حماة وجنوب إدلب، كارثة عايشت كثيرًا من فصولها بنفسي وليس الخبر كالعيان كما حكت العرب.
هل هيئة تحرير الشام متواطئة مع النظام؟
الاجتياح الهائل لنظام الأسد لما يربو عن ثلاثين قرية في أيام معدودات نشّط مدارك النظر وقدح شرارة الفكر واستدعى عددًا من الآراء السياسة لفهم الحدث، آراء اختلفت في تقدير الغاية النهائية للنظام من هذه المعركة واتفقت على أن الفصائل العسكرية وخاصة الفصيل الأكبر منها “هيئة تحرير الشام” المسؤول الأعظم عن هذه المصيبة.
أعجبني في هذا الصدد كلام الإعلامي الشهير هادي العبد الله حين قال في تسجيل مرئي: “يا قادة الفصائل أين أنتم؟ أين الفصيل الذي كان يقول نحن نشكل ثلثي القوة العسكرية في سوريا؟ أين الفصيل الذي هاجم كثيرًا من الفصائل بحجة أنها تنفذ مقررات أستانة؟ (في إشارة للهيئة)”، وأضاف: “نجد أن مقررات أستانة تنفَّذ بحذافيرها، مع زيادة القصف اليومي على مناطق المدنيين”.
تركيا دخلت الشمال السوري بتفاهمات وتنسيق مع هيئة تحرير الشام ليس لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي فحسب، بل لتنفيذ اتفاقات أستانة كما صرح المسؤولون الأتراك مرارًا
وأردف قائلًا: “أين الفصائل الأخرى؟ أين قادة الفصائل؟ متى آخر مرة ظهر قائد فصيل أو قائد عسكري على الإعلام ليتكلم للناس ما الذي يحدث؟ أليس من حق الناس أن تعرف؟!”، وقال بمنتهى الوضوح: “إذا كان هناك اتفاق ترسيم حدود أو تسليم مناطق من وإلى، اخرجوا ووضّحوا للناس كي يكون معهم وقت ليودعوا بيوتهم لآخر مرة ويُخرِجوا منها أمتعتهم ويكونوا بصورة ما يحدث”، مقال مختصر مفيد ينقل نبض الشارع ويترجم كلام الناس بدقة.
مع الحرص المطلق على نقل الحقيقة وتشخيص الحال دون مجاملة أو ميل، ومع الابتعاد التام عن منهج التركيز على تنظيم بعينه دون الآخرين، وبصرف النظر عن المفردة المناسبة لوصف سلوك هيئة تحرير الشام (تسليم أو تواطؤ أو تكتيك عسكري)، إذ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، ثمة معطيات حاكمة في البحث لا بد من سردها:
أولًا: الاتفاقات الدولية الحاصلة في أستانة تقضي إحداها بأن تكون منطقة شرق سكة الحديد إلى مطار أبو الضهور من حصة النظام، والتزام الأخير بهذا المسار منذ بدء المعركة أبرز برهان على ذلك.
ثانيًا: تركيا دخلت الشمال السوري بتفاهمات وتنسيق مع هيئة تحرير الشام ليس لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي فحسب، بل لتنفيذ اتفاقات أستانة كما صرح المسؤولون الأتراك مرارًا.
ثالثًا: البقعة الجغرافية التي استولى عليها النظام مؤخرًا هي منطقة نفوذ شبه كامل لهيئة تحرير الشام التي لم تكن مشاركتها في الدفاع عنها ذات ثقل بارز وقوة فعلية بل تكاد تكون مساهمة رمزية لا أكثر.
غالب الظن أن تنتهي العملية العسكرية في حال وصل النظام لمطار أبو الظهور، وما يُستقبل من الأيام سيتم التركيز فيه على تهيئة الأجواء للحل السياسي
إذا أمعنا النظر في هذه العوامل وربطناها بما قبلها وما يحيط بها يمكن أن نفهم القضية ونكشف سر التقدم السريع للنظام ونصل بوساطة هذه العيّنة من الأحداث إلى حقيقة أعمق وأبعد وأهم، حقيقة المشروع السياسي للتنظيمات العسكرية كلها، الإسلامية أو غير الإسلامية، المطبّعة أو الممانعة، من ذهب أو لم يذهب إلى أستانة.
وإذا أدركنا هذه المقدمات ندرك بالنتيجة ماهية الدور التركي من حيث كونه منسجمًا مع الدور الروسي في التكتيك والإستراتيجية، وجزءًا من لعبة المحاصصة وفاعلًا رئيسًا في توجيه بوصلة قوى الثورة، ومن هنا لا يمكن لتصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو المنددة بروسيا والنظام أن تدخل عقولنا إلا كما يدخل الجمل في سم الخياط فالفعل أصدق إنباء من القول.
متى تنتهي المعارك؟ وهل مطار أبو الظهور سيكون المحطة الأخيرة؟
موجة من الشكوك والهواجس والأسئلة ترافق كل حملة عسكرية للنظام وحلفائه، هل سيقتحم النظام إدلب؟ هل ستقضي روسيا على آخر معاقل الثورة؟ هل الحل العسكري عنوان المرحلة الآن؟
بنظرة موضوعية وذاتية لا أحسب فكرة الحل العسكري واردة في أذهان روسيا ومن معها كون النظام بطبيعة الواقع ووفق عدد من الدراسات ضعيفًا لا يملك الموارد المالية والطاقة البشرية لتغطية المناطق المحررة التي توازي مساحتها تسعة آلاف كيلومتر أو أكثر، فالمسألة ليست سيطرة عسكرية على منطقة ما بل تأمين ورعاية لها.
من هنا فإن القوى الدولية تحتاج الطرفين من النظام والفصائل العسكرية لضمان استقرار البلد في المرحلة المقبلة، لذا فإن غالب الظن أن تنتهي العملية العسكرية في حال وصل النظام لمطار أبو الضهور، وما يُستقبل من الأيام سيتم التركيز فيه على تهيئة الأجواء للحل السياسي.
مختصر القول في المشهد الراهن، أن المعاناة الإنسانية عظيمة، والمقاومة العسكرية ضعيفة أو ممنوعة، والتسوية السياسية تطبخ على نار هادئة.