فيلم “ذا بوست” هو الفيلم الذي يحكي عن الصحافة في عصر الأخبار الكاذبة، ليروي 40 عامًا من السياسة الأمريكية من عيون الصحافة، التي كانت وظيفتها آنذاك أن تخرج بحثًا عن الحقيقة، حتى لو كلفهم الأمر وقوفهم في المحكمة القضائية أمام الرئاسة الأمريكية و احتمالية زجهم في السجن وإغلاق الجريدة وتوقفها كليًا عن العمل.
فيلم المخرج “ستيفين سبيلبرج” الجديد الذي يجمع لأول مرة عمالقة السينما في هولييود الممثلة “ميرل ستريب” في دور ناشرة صحيفة واشنطن بوست “كاثرين جراهام” أو “كاي” كما كانوا يدعونها في الفيلم، و الممثل “توم هانكس” في دور رئيس تحرير واشنطن بوست “بن برادلي” في فيلم عن الصحافة في خضم الانتقادات اللاذعة للصحافة الأمريكية والإعلام الأمريكي ككل بعد انتخاب دونالد ترامب في عصر تُهمين عليه الأخبار الكاذبة والدعاية السوداء.
لم يقف أحدًا في وجه الجريدة المحلية آنذاك، واشنطن بوست، أمام قرار الجريدة في نشر وثائق مسربة من وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” عن تضليل السياسة الأمريكية عن حرب فيتنام لأكثر من ثلاثين عامًا في الإعلام أمام الشعب الأمريكي، وذلك من خلال 7000 صفحة من الوثائق التي تروي التفاصيل التي كذبت بشأنها السياسة الأمريكية ما بين عام 1945 و عام 1967 من الحرب في فيتنام.
فيلم “ذا بوست” هو الفيلم الذي يحكي عن الصحافة في عصر الأخبار الكاذبة، ليروي 40 عامًا من السياسة الأمريكية من عيون الصحافة
روى الفيلم حكاية صراع الجريدة التي أسقطت الرئاسة الأمريكية في عهد الرئيس “نيكسون” في الوقت الذي أعلنت فيه شركة واشنطن بوست بيع حصة من أسهمها سوق البورصة للحفاظ على مستقبل الشركة والجريدة، حيث كان من الواجب على “كاي جراهام” الحفاظ على علاقتها الطيبة مع أصحاب البنوك و المساهمين من خلال الحفاظ على الوضع المستقر للجريدة، إلا أن “كاي جرهام” اختارت أن تخاطر بمستقبل الجريدة أمام أكثر منافس قوي لها في التاريخ، ألا وهو الحكومة الأمريكية.
دفاع عن حرية الصحافة في زمن الأخبار الكاذبة والحجب
يأتي فيلم “ذا بوست” أو “المنشور” بروايته الحماسية التي تدافع عن حرية الصحافة و استقلالها التام في دفاعها في الوقت نفسه الذي تُعاني منه الولايات المتحدة من انتقادات للإعلام ككل وللصحافة الأمريكية بشكل خاص منذ انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، بما يتضمنه عصر الأخبار الكاذبة و دخول رواد وادي السيليكون ومواقع التواصل الاجتماعي كجزء من عملية البحث عن الخبر و إظهار الحقيقة.
لكل من شاهد فيلم “ذا بوست” سيجد مفارقة كبيرة جدًا بين مستوى الصحافة في الدول العربية و مستوى الصحافة الذي دافعت عنه “واشنطن بوست” في السبعينات من القرن الماضي
صورة لكاثرين جرهام و بن برادلي
لقد كان توقيت الفيلم ذكيًا لكثير من الأسباب، أولها أنه يُناقش حرية الصحافة في الوقت الذي تتعرض فيه الصحافة المستقلة والحرة لكثير من العقبات والتحديات، كان آخرها اغتيال الصحفية المالطية “دافني كارونا غاليزا” التي قادت التحقيق الخاص بـ “أوراق بنما” الذي يفضح فساد العديد من الرؤساء والشركات والمشاهير والأثرياء من خلال تعاملاتهم التجارية الخارجية في أكثر من مئتي دولة و منطقة حول العالم، وفي الوقت ذاته التي تعاني منه الصحافة من قيود على حرية التعبير وحرية النشر من قبل الأنظمة القمعية التي تمتلك أعلى عدد من معتقلي الصحافة في السجون والمعتقلات كما هو الحال في مصر.
لكل من شاهد فيلم “ذا بوست” سيجد مفارقة كبيرة جدًا بين مستوى الصحافة في الدول العربية و مستوى الصحافة الذي دافعت عنه “واشنطن بوست” في السبعينات من القرن الماضي، حيث كانت حرية الصحافة التي دافعت عنها جريدة صحفية السبب الرئيسي في إسقاط الرئاسة الأمريكية نفسها بعد فضيحة تضليل صورة الموقف الأمريكي في الفوز الباطل بحرب فيتنام، بينما يقابل ذلك في الوضع العربي صحافة مقيدة يُعتقل فيها الصحفيين وتُحجب فيها مواقع الصحافة الرقمية.
دفاع عن المرأة في خضم حملة “وأنا أيضًا”
جاءت الممثلة “ميرل ستريب” التي تؤدي دور “كاثرين جرهام” أول امرأة ترأس جريدة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الوظيفة التي لم تطلبها، إلا أنها كانت المسؤولة الأولى عن مشروع العائلة “واشنطن بوست” بعد وفاة زوجها، ليتركها ترأس مجال يُهيمن فيه الرجال في ذلك الوقت، وهو ما أوضحه الفيلم من خلال عدم ثقة مجلس الإدارة في حكمة قراراتها بخصوص جريدة “واشنطن بوست”.
على الرغم من أن “كاثرين جراهام” كانت المرأة الأولى والوحيدة المسؤولة عن دور نشر في الصحافة الأمريكية، إلا أن قرارها بالمجازفة في نشر وثائق “البنتاجون” أسقط الرئيس “نيكسون” وأجبره على الاستقالة
بالتزامن مع حملة “وأنا أيضًا” المشهورة في أيامنا الحالية على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال هاشتاغ “Metoo” الذي استخدمته النساء حول العالم لعرض تجاربهم مع التحرش والاعتداء الجنسي في مختلف دول العالم، لتكون الحملة من أكثر الحملات تأثيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي في نهاية العام الماضي ومستمرة إلى الآن، يأتي فيلم “ذا بوست” ليثير قضية المساواة بين الجنسين في مجالات العمل، وخصوصًا تلك التي يُهيمن فيها الرجال.
على الرغم من أن “كاثرين جراهام” كانت المرأة الأولى والوحيدة المسؤولة عن دور نشر في الصحافة الأمريكية، إلا أن قرارها بالمجازفة في نشر وثائق “البنتاجون”، الذي كان من شأنه أن يُنهي عمل “واشنطن بوست” للأبد وأن يزج لها وبرئيس التحرير في السجن، إلا أنها كانت السبب في انتصار حرية الصحافة على حساب الحكومات والرؤساء وهو الأمر الذي شجع كل الصحف المحلية في الولايات المتحدة والدولية أن تحذو حذو “واشنطن بوست” في النشر عن وثائق البنتاجون في حركة حماسية للدفاع عن استقلال الصحافة.
الدراما الصحافية في عصر فيسبوك
فيلم “ذا بوست” المرشح لجائزة الأوسكار لهذا العام، و فيلم “سبوتلايت” الحائز على الأوسكار لعام 2016 هي من أفلام الدراما الصحفية، التي لا تروي إلا أحداث تاريخية حقيقية تحدثت عنها الصحف آلاف المرات، إلا أنها تدمج المشاهد في الحبكة الدرامية لكواليس الأخبار وكيفية صناعتها، في رحلة الخروج للبحث عن الحقيقة والتي قامت عليها الصحافة الحقيقية عن طريق جذب المشاهد في الدراما المستمرة منذ بداية المعرفة بالخبر إلى اللحظة التي يُنشر فيها، لكي يرى المفارقة ما بين قراءة الخبر في الصحيفة في ذلك الوقت، وقراءة الأخبار على فيسبوك في وقتنا هذا.
يقول الكاتب الأمريكي”روبرت ميك” في كتابه “القصة”:
إن العذر الوحيد المقبول لكي تصنع فيلمًا من الماضي هو المفارقة، وذلك باستخدام التاريخ كمرآة صافية ترينا الحاضر
قدم “ذا بوست” صراعًا واضحًا بين الصحافة والحكومات من خلال عرضه قصة انتصار للمستضعفين الباحثين عن الحقيقة أمام النظام الحاكم، وذلك من خلال المفارقة بين ما حدث في صراع “واشنطن بوست” أمام الرئاسة الأمريكية، وبين اللحظة التي تلقي بظلالها على أمريكا اليوم بعد عام من حكم ترامب وعلاقته بالمؤسسات الصحفية والإعلامية واتهاماته لها بتلفيق الأخبار وتزييف الحقائق وقلق المثقفين والمبدعين على حرية الصحافة والرأي.
يقول القاضي الذي قضى بحكم فوز جريدة “واشنطن بوست” في القضية المرفوعة ضدهم من قبل الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” أن من مهمة الصحافة أن تحمي المحكومين، وليس من مهمتها أن تحمي الحاكمين، ولهذا فإن الصحافة وحريتها في معركتها مع الأنظمة والحكومات تقتضي استقلاليتها التامة عن التبعية والسيطرة من قبل الحكومات، ربما يبدو هذا بمثابة فانتازيا لدى كثير من الصحفيين في الدول العربية، التي تكلفهم الكلمة والصورة التي تعبر عن الحقيقة حياتهم.