عرفت المملكة المغربية خلال حكم دولة الموحدين ازدهارًا كبيرًا وتطورًا ملحوظًا مس جميع القطاعات في المملكة، نتيجة الأمن والاستقرار الذي ساد المنطقة خلال فترة حكمها، فقد اهتم حكامها بالفكر والثقافة كما شغفوا بالبناء المعماري، ولا تزال بعض مآثرهم الخلابة قائمة إلى يومنا هذا تشهد على عصرهم الذهبي.
الموحدون .. ازدهار عمراني كبير
تميز العصر الموحدي بالمغرب الذي امتد من سنة 1121 إلى 1269 ميلاديًا، بفنه المعماري رائع الجمال، وقد شملت حركة البناء والتعمير تنوعًا وكثرةً؛ فمن بناء المدن والمواني، إلى المنشآت العسكرية من حصون وقلاع وأسوار، إلى المنشآت العامة التي انتشرت في أنحاء البلاد مثل المساجد والمدارس والمستشفيات والحمامات والفنادق والقناطر وغير ذلك من المنشآت.
في بداية حكم عبد المؤمن بن علي كان الموحدون يجتنبون الغلو في الزخرفة، حيث اتسم فن البناء عندهم في تلك الفترة بالمتانة والخلو من الزخرفة سيرًا على مبدأ مؤسس الدولة ابن تومرت في التقشف والزهد في الدنيا، إلا أنهم ما لبثوا أن تشبعوا بالحضارة الأندلسية بعد أن فتحوا الأندلس، فطفقوا ينهلون من معين هذه الحضارة المتميزة واقتبسوا من جمال عمارتها وبدائع زخرفتها في أبنيتهم المختلفة، وتفننوا في ذلك.
مسجد “الكتبية”
يقدم فرانسيسكو بيدال كاسترو في كتابه “المرابطون والموحدون في الأندلس والمغرب” وصفًا جامعًا للفن المعماري الموحدي بقوله: “وفيما يخص الفن المعماري الموحدي فقد تميز باهتمامه بالبناء الشاهق وقلة الزخارف، ولكن دون المساس بتناسقه الإجمالي، خاصة فيما يتعلق بالهندسة المعمارية للمساجد، وعلى الرغم من أن هذا الفن تخلى في الأخير عن بساطته الصارمة ليلجأ إلى استعمال الأشكال الزخرفية، فإن عظمة البنايات تبين في ذات الوقت قوة ومتانة الدولة الموحدية“.
ومن أروع ما خلده التاريخ للخليفة المنصور الموحدي مسجد “الكتبية” بمدينة مراكش، فقد حرص المنصور أن يكون المسجد في أبهى صورة وأروعها فجمع فيه الطراز الأندلسي والمغربي، ويتألف المسجد من حرم عريض قليلاً ينفتح على صحن يعلو الحرم قبة في نهايته المجاورة للمحراب وثمة قباب في صدر الحرم، ويمتاز المسجد بضخامة برج المئذنة، وبعظمة الأساليب والأروقة وصفاء رسوم الأقواس وتجانس الصحن المركزي والصحون الجانبية في وحدة المربصات وقوة الخشب وتناسق الفسيفساء.
من أبرز المدن التي تم تشييدها خلال العهد الموحدي مدينة “الرباط” أو “رباط الفاتح” التي بنيت عقب انتصار الخليفة المنصور في الأندلس
إلى جانب بناء المساجد اهتم الموحدون بتشييد المنارات، وتتشابه هذه المنارات في هيكلها حيث يصعد إليها بواسطة طريق مائل يدور حول قاعات مغطاة بالقبب، وتعتمد الزخرفة على الكتابة الكوفية والأشكال الهندسية كالأقواس أو الرسوم التي تحاكي الزهور والنخيل والصدف.
من أبرز المدن التي تم تشيدها خلال العهد الموحدي مدينة “الرباط” أو “رباط الفاتح” التي بنيت عقب انتصار الخليفة المنصور في الأندلس، شيدت بحجارة المعابد الرومانية القديمة، وحملت المدينة في بنائها مسحة التجديد، إذ بنيت على هيئة مدينة الإسكندرية المصرية في الاتساع، وتؤكد هذه المدينة وما احتوته من بنيان على عظم دولة الموحدين وحضارتهم الزاهرة.
سور الرباط
تذكر كتب التاريخ والمؤرخين أن الموحدين كانوا يستعملون في بناياتهم مواد مختلفة كالحجر المنحوت الذي برز في “صومعة حسان”، والأجر مثلما يظهر جليًا في “برج الخالدة أو الخيرالدة”، والطوبياء في “سور الرباط”.
حياة علمية متطورة
فضلاً عن الاهتمام بالعمارة والتشييد، اهتم الموحدون أيضًا بالمجال الفكري والعلمي، فقد اعتنوا بالعلوم الإسلامية والفلسفية تفسيرًا وحديثًا، وترسيخ المذهب المالكي بين الناس، والمحافظة على جوهر الدين بنشر أصوله العقلية والنقلية.
إلى جانب ذلك، اهتم الموحدون بالعلوم اللسانية خاصة اللغة العربية التي انتشرت في الدولة باعتبارها لغة البلاد الرسمية في المكاتبات والمعاملات وشؤون الدولة، وكان لمجيء العلماء إلى المدن دور كبير في انتشار اللغة العربية وازدهارها، وكان أيضًا لقدوم القبائل الهلالية إلى المغرب الإسلامي أثر كبير في دعم اللغة العربية وانتشارها لتمسك هذه القبائـل البدويـة باللسان العربي.
المدارس أيضًا كان لها شأن كبير لدى الموحدين، ذلك أنهم اعتنوا ببنائها
اهتم الموحدون أيضًا بالتاريخ والجغرافيا، ومن أشهر المؤرخين في عهد الدولة الموحدية البيدق أبو بكـــر الصنهاجي من المغرب الأوسط، والمؤرخ والأديب أبو علي الذي ولد بتلمسان في عهد يوسف بن عبد المؤمن، لـه مختصر في التاريخ أسماه “نظـم الآلـي فتوح الأمـر العالي”، ومن أشهر الرحالة بالمغرب الأوسط ابن فكـون القسنطيني وهو أبو علي حسن بن علي رحـل إلى مراكش ومدح الخليفة الموحدي وكتب عن سفره من قسنطينة إلى مراكش.
اعتنى الموحدون أيضًا بالعلوم الفلكية والتنجيم والطب والصيدلة والرياضيات والفلسفة التي بلغت أوجها على يد ابن رشد وطلبته، ومن أشهر الكتب والمؤلفات الدراسـية الرسالة لابن أبي رشد والمستصفي وإحياء علوم الدين للغزالي، ويرجع الفضل إلى الخليفة الموحدي أبي يعقوب في نشر فلسفة أرسطو بين الناس وشرحها بعد أن كانت غامضة مندثرة، حسب عدد من المؤرخين.
ازدهار العلوم الهندسية في العصر الموحدي
خلال فترة حكم الدولة الموحدية، انتشرت الكتاتيب، وهي أماكن المرحلة الأولى التي كان يتعلم فيها صبية المسلمين مبادئ القرآن الكريم والكتابة ويأخذون بعد ذلك في حفظ القرآن الكريم، ثم يتعلمون بين جدرانها أولويات علوم الدين واللغة التي تهيئهم لتلقي العلوم بالمساجد.
كما انتشرت الرباطـات التي كانت تعتبر من المعاهد العلمية والحربية المهمة بالمغرب، وكان عبد المؤمون أول من فرض على شعبه إجبارية ومجانية التعليم في المغرب، ورغـم أن الأربطة نشـأت في أول أمرها بالمشرق في مطلع الدولة العباسية غير أن أربطة المغرب كانت أكثر نفعًا، فإلى جانب مهمة الرباط الحربية فهي مكان للعبادة ومعهد تدرس به شتى العلوم.
المدارس أيضًا كان لها شأن كبير لدى الموحدين، ذلك أنهم اعتنوا ببنائها، حيث اقترن اسم الخليفة عبد المؤمن بن علي وحفيده يعقوب المنصور بكثير من المدارس المنشأة في عصرهم، منها ما أسسه عبد المؤمن بمراكش كالمدرسة الملحقة بقصره التي كانت تخرج الضباط والولاة، والمدرسة العامة لتعليم الأمراء الموحدين، ومنها المدرسة التي أنشأها بالرباط من أجل تعليم فن الملاحة والحربية.