على بعد 75 كيلومترًا غرب الجزائر العاصمة، تعترضك إحدى نفائس البلاد التي تظهر للعيان في شكل لوحة فنية جمعت جمالاً طبيعيًا وروعة استمدتها من بني البشر، إنها مدينة “تيبازه” الجزائرية التي يعود تأسيسها إلى العهد الفينيقي.
مدينة بسطت ذراعيها على شواطئ الجزائر فمنحتها سحرًا لا متناهي، وعانقت التاريخ عبر الآثار العديدة الشامخة فوق أرضها التي يرجع معظمها إلى عهود قديمة أبرزها العهد الروماني، فتمنح من يشاهدها شعورًا ملؤه السعادة يسافر به إلى رحاب الماضي ويروي له فصولاً من سيرة القدامى.
كتاب تاريخ يروي قصة ماضٍ عريق
رغم مرور آلاف السنين، ما زالت آثار مدينة تيبازة الجزائرية أو “بازار” كما يسميها أهلها، تحكي تاريخ مدينة أسسها الفينيقيون كإحدى مستعمراتهم التجارية العديدة، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، فزائر المدينة يجد أمامه كتاب تاريخ يفتح صفحاته لمحبيه يروي لهم أجمل الحكايات ويقص عليهم ماضي مدينة عريقة تأسست في القرن الخامس قبل الميلاد.
المدرج الروماني
آثار شاهدة على حضارة عريقة بُنيت هناك في غرب الجزائر، من بينها المدرج الروماني الكائن في الحديقة الأثرية، ويوجد في الجزء الشمالي من مدرج الألعاب عدة أقواس تُعد دعامة للمدرجات، إضافة لوجود أسوار عالية قد حدت من الأبواب المشرفة على الساحة التي كانت حلبة مصارعة ورواقًا فنيًا، وفيه بوابتان رئيسيتان، الأولى في الجانب الشرقي والثانية في الجانب الغربي، إضافة لوجود ثلاثة أبوابٍ فرعية في كل جانب من جوانب المدرج، وفيه قبو.
المعابد
لزائر المدينة أن يمتع ناظريه أيضًا بالمعبدين، ويُعرف الأول محليًا باسم “المعبد المجهول” حيث لم يُعرَف بانيه، ولم يحافظ هذا المعبد سوى على بضعة أعمدة شامخة وقواعد منتصبة، أما الثاني فيُطلق عليه مسمى “المعبد الجديد”، ويحوي موجودات المعبد المجهول نفسها، إلا أنه يختلف عنه في وجود بلاط الأرضية الذي لم يطله التلف رغم مرور آلاف السنين على بنائه.
معبد روماني
كنائس
إلى جانب المدرج والمعبدين، ما زالت كنائس تيبازة الرومانية القديمة صامدة، ومنها البازيليكا الكُبرى التي استخدمتْ عبر قرونٍ عديدة كإحدى المقالع الحجرية، وما زال مخططها المقسم إلى أجنحة سبع واضحًا إلى يومِنا هذا، وقد عُثر من خلال الاكتشافات على عددٍ من المقابر الموجودة تحتها، منحوتة في الصخر، إضافة إلى قبرٍ ذي شكلٍ دائري ويبلغ قطره نحو ستين قدمًا، ويستوعب ما يقارب 24 كفنًا.
ينتشي زوار تيبازة بمشاهدة “الفوروم” (المنتدى)، تلك الساحة الواسعة التي ظلت تستعمل كسوق عمومية
من الكنائس الرومانية أيضًا كنيسة القديسة سالسا التي تقع في التلة الشرقية، وتتكون من صحنٍ رئيسي إضافة إلى جناحين، وتحتوي هذه الكنيسة على قطع فسيفسائية جميلة، فضلاُ عن كنيسة إسكندر التي توجد في التلة الغربية من تيبازة.
السور والفوروم
من الآثار الباقية في المدينة والشاهدة على الحضارة الرومانية في المنطقة، نجد أيضًا سور المدينة الذي بقيت منه بعض الأجزاء بعد أن أدت طبيعة المنطقة إلى زوال أجزاء كبيرة منه، وغرق بعضه الآخر في مياه البحر.
الساحة العامة
ينتشي زوار تيبازة بمشاهدة “الفوروم” (المنتدى)، تلك الساحة الواسعة التي ظلت تستعمل كسوق عمومية امتدت إلى مستوى توظيفها كبورصة مال وأعمال، قبل أن تتحول لاحقًا إلى مقر لمجلس الشيوخ، كما احتضن هذا المكان التاريخي أيضًا المحكمة المدنية التي تبقى أطلالها شاهدة على بناية كانت مكونة من أجنحة منفصلة لا يزال نصفها أعمدتها منصوبًا.
قصر الرومية
غير بعيد عن هذه الآثار، يسترعي الضريح الملكي الموريتاني نظر الزوار، ذلك أنه من أهم المعالم التاريخية التي تؤكد عبقرية الإنسان في فن العمارة، وهو عبارة عن نصب هندسي جميل يعكس الذوق الرفيع للإنسان القديم، ويشبه هذا القصر كومة التبن الضخمة أو خلية النحل حيث بني بالحجارة الضخمة.
بناء هذا المعلم يعود إلى العهد الروماني
في هذا الضريح الذي يسمى أيضًا “قصر الرومية” باب سفلي ضيق يوجد تحته الباب الخلفي للناحية الشرقية وهو الممر السري للضريح، عند اجتياز باب القبر يجد الزائر نفسه في رواق يضطر للانحناء عند المشي به، في حائطه الأيمن توجد نقوش تمثل صورة أسد ولبؤة، لذا سُمي بـ”بهو الأسود”، وعند اجتياز هذا الرواق يوجد رواق ثانٍ طوله 141 مترًا وعلوه 2.40 متر شكله ملتوٍ ويقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته 80 مترًا مربعًا.
ضريح موريتانيا
يقول مؤرخون إن بناء هذا المعلم يعود إلى العهد الروماني، وقد بناه ملك الأمازيغ (يوبا) الذي حكم موريتانيا، من أجل زوجته كليوباترا سيليني، ابنة كليوباترا حاكمة مصر، وبحسب الروايات التاريخية فإنها دفنت فيه بعد وفاتها.
المتحف
في متحف المدينة لك أن تقف على إبداعات الفينيقيين والرومانيين والمسيحيين والبيزنطيين، أهمها “الفسيفساء” التي تبرز منها تلك اللوحة المسماة “فسيفساء الأسرى” أو “فسيفساء المكبلين” التي تعود تاريخيًا إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
ويحتوي المتحف أيضًا على نصب تذكاري لأحد الكهنة وآخر جنائزي لفارس روماني، إضافة إلى أثاث جنائزي ومجسمات وجداريات باهرة الألوان، فضلاً عن قطع رخامية عالية الجودة، وتابوتين رخاميين، نُقشت على الأول أسطورة بيلوبس، بينما حمل الثاني لوحة رمزية تشير إلى “آلهات بحرية”، وتماثيل ورموز هندسية حربية تعكس تاريخ المنطقة.
شواطئ خلابة
عند زيارتك لهذه المدينة، كن متيقنًا أنك على موعد مع الجمال، ففضلاً عما تحتويه من آثار تاريخية، تتمتع “تيبازه” الجزائرية بشواطئها الساحرة التي تجمع بين زرقة البحر وخضرة الجبال، وتمنح عشاقها راحة وسكينة تنسيهم صخب الحياة ومتاعبها اليومية.
ففي تلك الشواطئ الممتدة من شاطئ متاريس إلى شاطئ شنوة، يجد محبو الرفاهية والاستجمام مبتغاهم، وذلك باستمتاعهم بنسيم البحر وأمواجه، وبأشعة الشمس التي تنعكس على مياه البحر فتزيدها بريقًا وجاذبية.
شاطئ شنوة
هناك أيضًا للزائر أن يمتع عينيه بجمال تلك بالمناظر الخلابة وسط الغابات والجبال الخضراء كثيفة الأشجار التي تلطف المكان وتمنح السائح فرصة استنشاق هواء صحي نقي يساعده على تجاوز هموم المدينة وتعب العمل المتواصل.