تعكس الأغنية التراثية في كلماتها جزءًا من الواقع الذي شهدته البلدان العربية في ماضيها، وتستغل هذا الفن لتنقل التاريخ بين الأجيال على هيئة أبيات وإيقاعات موسيقية رنانة في ذاكرة مواطنيها، فلكل أغنية فلكلورية قصة مختلفة تحاول أن ترويها لتحفظها آذان السامعين، وقد تتخذ هذه الأغاني طابعًا سياسيًا أو وطنيًا لتخبرنا عن حياة الترحال والغربة، أو تذكرنا بقريتنا المهجرة، أو تحكي لنا تاريخ الحروب والاستعمارات القديمة.
تملك جميع الدول رصيدًا كافيًا من المحطات التاريخية البارزة والمنعطفات الرئيسية التي تركت صبغتها في الماضي وشكلت حاضرها وربما مستقبلها، وفي هذا الموضوع نستعرض بعض الأغاني الوطنية التراثية التي حدثتنا عن بعض تفاصيل هذه الأحداث وأثارت مشاعرنا الوطنية، ومنها:
يما ودعيني
تسرد قصة الأغنية مغنيتها الفلسطينية سناء موسى التي تعلمتها من جدتها، مشيرة إلى أن هذه الأغنية تعبر عن وجع وآلام الأهالي والأمهات خاصة الذين فقدوا أبنائهم خلال فترة التجنيد الإجباري في زمن حكم الدولة العثمانية عام 1915، وكان من المتعارف عليه أن من يذهب للقتال في الحرب آنذاك يغيب دون عودة ولا يعرف أين مات وكيف دفن، وخصصت لتلك الفترة أغنيات باسم “الشلعيات” لكثرة ما توجع القلب وتمزقه حتى أصبحت نمط موسيقي من تراث التغريبة الفلسطينية، إذ تقول كلماتها:
ها يما ودعيني قبل ما أمشي ما تدري بعثراتي وأنا وأمشي
يا قايد المراكب قيد وأمشي عسى الله نلحق ضعن الأحباب
ها يما ودعيني قبل ما أروح ما تدري بعثراتي وأنا أروح
استطاعت هذه الأغنية بألحانها الحزينة وكلماتها المعبرة أن تسجل المشهد المأساوي لرحيل الآلاف من شباب بلاد الشام لينضموا إلى الحرب، ونجحت في تصوير التاريخ المروع، مخلدة تذكار الذين رحلوا ولم يعودوا، يذكر أن هناك العديد من الأعمال الفنية والسينمائية التي وثقت هذه الحكاية أيضًا مثل فيلم سفر برلك بطولة فيروز، ومسلسل أخوة التراب.
ترويدة شمالي
تحمل هذه الأغنية في مضمونها معانٍ مختلفة من الحزن والشوق والحب، فالكلمات التي بنيت عليها الأغنية تبدو وكأنها كلمات مشفرة وغير منسقة، لكن في الحقيقة هذه الكلمات غير المفهومة نسجتها أشواق الأمهات والأسرى، إذ كانت تستخدم قديمًا في الرسائل بين المقاومين والمعتقلين وأمهاتهم، فلم يرغبوا بأن يفهم المحتل الإسرائيلي رسائلهم أو يتتبع أخبارهم، وخاصة لو كانت معلومات عن عملية ما أو فعل متعلق بالمقاومة، وتقول الأغنية:
وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)
ياصليلار ويدورليللي على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الحباب يابا)
يا هللوا روح سلللملي على للهم يا رويللووووو (يا هوا روح سلملي عليهم)
وطالالالت الغربة الليلة واشتقنا ليلي للهم يا رويللوووو (وطالت الغربة واشتقنا لهم)
يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللوووو (يا طير روح للأحباب ووصل لهم)
شاعت هذه الكلمات في الأغنيات الفلسطينية وتحولت العبارات المشوشة إلى جزء من الأغنية الفلسطينية التي نجحت في نقل أحداث القضية وأدق تفاصيلها محاولة تذكيرنا بما مضى.
بني وطني
يعتز الشعب التونسي بالأغنية الوطنية، وخاصة بهذه القطعة التي تذكره بجلاء القوات الفرنسية عن مدينة بنزرت وانتصارهم على المستعمر الفرنسي عام 1963 بعد مواجهة عسكرية دامية أسفرت عن سقوط المئات من المناضلين التونسيين.
غنتها المطربة عليا التونسية، داعية الجيش للخروج من البلاد مؤكدة هوية هذه الأراضي، ولا تزال تبث هذه الأغنية في الأعياد الوطنية تذكيرًا بالانتصار وإخلاصًا لمن قدموا أرواحهم مقابل الحرية، كما يحاول بعض الفنانين الحاليين إحياء غنائها مرة أخرى في حفلاتهم وتتلقى حماسًا واسعًا وإقبالًا حارًا من الجمهور التونسي.
فإما حياة وإما فلا وعن ثغر بنزرت نبغي الجلاء
فلسنا نعيش ونحيا سدى فمغربنا يا فرنسا غدا
ينادي الجلاء الجلاء الجلاء
يعتبر الخامس عشر من شهر أكتوبر هو التاريخ الذي يحتفل به التونسيين كل عام بإخراج آخر جندي فرنسي من أراضيهم وبسيادتهم كاملاً، معبرين بهذه الأغنية عن معاني النضال والمقاومة والنصر الذي نالوه بعد سنوات طويلة من الدماء والتضحيات.
يا المنفي
أغنية تراثية جزائرية، تحكي بلسان مناضل جزائري معاناة الثوار الجزائريين في المنفى في أثناء ثورة المقراني عام 1871 ضد الغزو الفرنسي، التي راح ضحيتها أكثر من ألفين و500 جزائري من الثوار، ومن عاش منهم ظلوا يرددون هذه الأغنية التي تروي تجربتهم، حتى قدمها من جديد آكلي يحياتن، مغني جزائري أمازيغي، معروف بمعادته الشديدة للاستعمار، وسجن هو بدوره في سجون الاستعمار الفرنسي إبان ثورة التحرير الوطني.
قولوا لأمي ما تبكيش يا منفى
ولدك ربنا ما يخليهش يا منفى
وكي داخل فى وسط البيبان يا منفى
والسباع هم الجدعان يا منفى
وقالولي أنت شيء دخان يا منفى
وأنا في وسطهم دهشان يا منفى
قد يصعب فهم كلمات الأغنية بنسختها الأصلية القديمة التي تجمع بين العبارات العامية والأمازيغية والفرنسية، لكن قام عدد من المغنيين العصريين مثل الشاب خالد ورشيد طه بإعادة إحيائها بقالب غنائي أكثر رواجًا على أذن السامع، وهي واحدة من أشهر الأغاني التي استطاعت أن تكسر الحدود المحلية بعد أن كتبت بين أربعة جدران.
يا عم حمزة
تقول كلمات هذه الأغنية “يا عم حمزة، إحنا التلامذة.. واخدين ع العيش الحاف والنوم من غير لحاف.. مستعدين.. ناس وطنيين ودايمًا صاحيين”، فهذه العبارات تروي قصة كاتبها المصري محمود الحفني الذي كان معتقلًا في سجن القلعة أثناء أحداث ثورة 1919 في مصر وكان وقتها مازال طالبًا وغناها لحارس السجن “حمزة” الذي كان يتعاطف مع الطلاب ويخالف أوامر الإنجليز بمعاملتهم بطريقة سيئة، جدير بالذكر أن من لحنها السيد درويش وغناها الشيخ إمام، وأعاد إحيائها من جديد مجموعة من المغنيين الآخرين مثل محمد فؤاد وأحمد سعد وحمادة هلال.
أصبح اسم حمزة رمز وطني وإنساني في الأغنية المصرية العتيقة، فعلى إثرها ظهرت أغاني أخرى تحمل نفس رمزية الاسم، مثل أغنية الشاعر صلاح جاهين التي كتبها أثناء ثورة يوليو في الخمسينيات، ويقول فيها “يا عم حمزة إحنا التلامذة.. جن وبلاوي مسيحة من غير مؤاخذة نكبر ما نكبر.. الله أكبر”، كما اقتبست الشخصية في مسلسل درامي وفيلم باسم “شنطة حمزة”.
امتد تأثير هذه الأغنية حتى السبعينيات، إذ باتت أغنية الثورات المصرية والحركات الطلبية، فلقد نادى بها أحمد فوائد نجم، أحد ثوار الكلمة وشعراء مصر، عقب المظاهرات التي اندلعت بالجامعات المصرية رفضًا لقرارات الرئيس الراحل أنور السادات عام 1972، وقال “رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد التاني”.