يكفي أن ننظر إلى ملابس الشخص الذي يقابلنا حتى نحدد جنسيته ولغته وتاريخه، وهذا ما ينطبق على الثوب الفلسطيني الذي توارثته الأجيال المختلفة عبر السنين معبرين عن هويتهم وجذورهم، ومع التحولات السياسية التي لازمت القضية الفلسطينية طرأت تغيرات على هذا الزي التقليدي الذي يحفظ بطياته وألوانه ثقافة كل مدينة وقرية فلسطينية، وأحسن الشعب الفلسطيني استغلاله للتعبير عن انتمائهم للأرض، ومقاومتهم لمحاولات “إسرائيل” محو تراثهم الشعبي.
يعتبر تداول هذا الزي على مر الأجيال نجاحًا ساحقًا لجميع الضغوط التي تعرضت لها الثقافة الفلسطينية وسعت للحد من وجودها وتوسعها، فهو أفضل الشواهد على عادات وتقاليد المدن والبلدات المهجرة التي فقدت حقها بالوجود بسبب استبداد سياسات دولة الاحتلال.
ومع ذلك، حرصت المدن الفلسطينية على إظهار جانب من تاريخها وحياتها الاقتصادية من خلال تنوع أشكال الزخارف والتطريز، واختلاف الألوان والرموز التي حاكتها أنامل النساء الفلسطينيات لتوثيق الوجود الفلسطيني على أقمشة الحرير والمخمل.
ارتدت النساء الثوب الفلسطيني منذ آلاف السنين
ثوب امرأة من مدينة رام الله
يعتقد المؤرخون أن الثوب الفلسطيني يعود للعهد الكنعاني أي قبل 3000 سنة، فلقد وجدت بعض الصور والرسومات التي طرزت بها ملابس ملكات الكنعانيين على نفس أشكال التطريز الموجودة حاليًّا، إضافة إلى الاستخدام المشترك لخيوط الحرير، وذلك وفقًا لكتاب ملكات الحرير.
ويمكن ملاحظة تأثير الحضارة الكنعانية على هذا الزي أيضًا من خلال رسومات الثعابين والشجر التي كانت جزءًا منها، كما غلب على الثوب اللون الأحمر فكنعان يعني أرجوان، وتختلف درجاته من مكان لآخر، فثوب غزة يميل إلى البنفسجي، أما الخليل فإلى البني، وبيت لحم ورام الله ويافا يميل إلى اللون الأحمر القاني أو الخمري وبئر السبع الأحمر المائل إلى البرتقالي، ومع دخول الحضارة الإسلامية أضيف البرقع (غطاء الوجه) وغطاء الرأس للباس الفلسطيني.
عادة ما يستخدم الثوب الأسود للعمل اليومي وتكون التطريزات عليه بسيطة وخفيفة غير متكلفة، وهذا بعكس ثوب الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية الذي يشتهر بغزارة الرسومات والنقوش
يوجد الثوب الفلسطيني بلونين، الأسود والأبيض، وعادة ما يستخدم الثوب الأسود للعمل اليومي وتكون التطريزات عليه بسيطة وخفيفة غير متكلفة، وهذا بعكس ثوب الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية الذي يشتهر بغزارة الرسومات والنقوش.
قبل النكبة، كان يصنع الثوب الفلسطيني في عكا وعسقلان وكانا مركزًا لتصدير الأثواب لبلاد الشام والرافدين، واعتبر حرفة تقليدية للنساء الريفيات اللاتي تعلمن الحياكة والتطريز من سن مبكرة، خاصة أنها صنعة تحتاج إلى الدقة والصبر والذوق، وبعد عام 1948 اختلفت نوعية التطريز وأصبح مزيجًا من ثقافات وأطباع المدن الفلسطينية، فنجد مثلًا أشجار السرو التي امتاز بها الثوب الفلسطيني في يافا مع الورود المشتهرة برام الله في نفس الثوب.
كيف عبرت المدن الفلسطينية عن خصوصيتها في الثوب الفلسطيني؟
أثواب فلسطينية مختلفة تعبر كل واحد منها عن مختلف مناطق فلسطين
أبرز ما يميز الزي الفلسطيني هو التنوع في الأزياء والألوان والنقوش ونوعية التطريز، وذلك تبعًا لطابع كل منطقة وتنوعها الجغرافي، حيث تتميز المناطق الجبلية بطراز معين يختلف عنه في المناطق الساحلية أو الصحراوية، ولا شك أنه لا يتشابه بين البدو والحضر، فعلى سبيل المثال يرتدي أهل الجنوب والشمال الملابس المطرزة بشكل دائري على هيئة زهور وطيور ومبانٍ، بينما يفضل سكان مدينة أريحا في الضفة الغربية استخدام الزخارف التي تكون على شكل مثلث والتي تسمى بـ “الحجاب” لاعتقادهم بأنها تبعد الأرواح الشريرة عنهم.
ويخلو الثوب الجبلي من التطريز بسبب طبيعة الحياة التي فرضت على النساء العمل مع أزواجهم في الحقول ولم يتوفر لديهن الوقت لممارسة التطريز، كما هو الحال في ثوب مدن الساحل مثل المجدل وحمامة ويافا الذي امتاز بالبساطة الشديدة، وهذا بالعكس من ثوب منطقة بئر السبع والخليل ورام الله الذي امتاز بكثافة التطريز بسبب توفر الوقت لنساء المدينة، وهذا ما قاله المثل الفلسطيني “قلة الشغل بتعلم التطريز”.
اعتادت النساء الفلسطينيات تعليق النقود المعدنية الذهبية والفضية على طاقيتها المطرزة، وتسمى بـ”الشطوة” أو “الصّفّة”، وهي دليل استلام المرأة لمهرها في ليلة زواجها
وهناك أشكال أخرى على هيئة أشجار الزيتون وطائر العنقاء الذي ينبعث من تحت الرماد ويمثل الكبرياء، ويغلب على الأثواب اللون الأحمر بتدرجاته والأخضر رمزًا لدماء الشهداء والأرض، كما تختلف بعض التفاصيل البسيطة في الملابس، وذلك بحسب المواسم والفئة العمرية والحالة الاجتماعية للفتاة سواء كانت متزوجة أو عزباء أو أرملة، فمثلًا ترتدي المطلقة اللون الأزرق تعبيرًا عن الحزن وفراق الزوج، بينما ترتديه المرأة العزباء تعبيرًا عن انتظارها لزواج، لكنه يكون فاتحًا وكثير الزخارف.
وبالنسبة إلى الأرملة فتلبس ثوبًا أسود مطرزًا باللون الأخضر، أما المتزوجة فيميل التطريز إلى التنوع في الألوان مثل الأحمر القاني والبرتقالي والأصفر الكموني وتكون أثوابهن فضفاضة وواسعة، إضافة إلى الشداد أو الحزام الذي كانت ترديه المرأة حول الخصر، ويكون عادة الحزام به حجر أبيض يسمى بحجر القبلة، وهو يدل على أن المرأة تعيش حياة سعيدة مع زوجها، وإن خلعته فهذا يعني أنها مطلقة.
اعتادت النساء الفلسطينيات تعليق النقود المعدنية الذهبية والفضية على طاقيتها المطرزة، وتسمى بـ”الشطوة” أو “الصّفّة”، وهي دليل استلام المرأة لمهرها في ليلة زواجها، وبعد الزواج كانت ينظر إليها كالمدخرات التي تسدد مصروفات البيت ونفقات العيش، أما الزخارف المتنوعة فتحمل رموزًا أسطورية تعود للحضارة الكنعانية التي توارثها الشعب الفلسطيني كجزء من تاريخه، وهذه المنحنيات تكون غالبًا على شكل زهور أو نباتات وما هي إلا حكايات وطن خيطت فوق الأقمشة لتذكر بامتلاك الفلسطيني لأرضه وما عليها.
هل تنجح “إسرائيل” في تهويد الزي الفلسطيني؟
تفتقد دولة الاحتلال إلى تاريخ يربطها بالأرض، لذلك سعت لسرقة الثوب الفلسطيني وزخارفه لتوهم العالم بأن هذا الزي هو تراكم وحصيلة تاريخها وماضيها الذي يربط بينها وبين الأرض، إذ عمدت إلى تسجيل الثوب الفلسطيني باسمها في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية عام 1993، كما تتعمد الشخصيات الإسرائيلية البارزة الظهور باللباس الفلسطيني في المحافل الدولية ليمنحوا صورتهم العامة عمقًا تاريخيًا وطابعً وطنيًا، كما فعلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف في مهرجان كان السينمائي، ومن قبلها زوجة وزير الحرب الأسبق موشيه دايان التي كانت تزور دول العالم وهي مرتدية الزي الفلسطيني.
ومؤخرًا انتشرت أخبار عن ارتداء مضيفات شركة طيران “العال” الإسرائيلية الثوب الفلسطيني، الأمر الذي زاد من الفعاليات المشجعة للتراث الفلسطيني، مثل تنظيم معارض وعروض أزياء وافتتاح دورات تدريبية لتعليم التطريز.
أدخل التطريز الفلسطيني إلى الأثاث المنزلي والملابس اليومية وفساتين السهرة وقطع الحلي بهدف نشره على أوسع نطاق ممكن
وفي محاولة خاصة لأهالي مدينة الخليل عام 2009، تم تطريز ثوب يبلغ طوله 32 مترًا وعرضه 19 مترًا كأطول ثوب في العالم للدخول في موسوعة غينيس وكخطوة لحماية التراث الوطني من التشويه والضياع، جدير بالذكر الإشارة إلى أن 150 امرأةً عملت على هذا الثوب الذي احتوى مليون و400 ألف غزرة تجمع بين مختلف المناطق الجغرافية على شكل النجمة الكنعانية وشجرة الزيتون من شمال فلسطين وزهرة الليمون من قطاع غزة، ورموز من محافظات أخرى مثل الخليل وبيت لحم.
كذلك، أدخل التطريز الفلسطيني إلى الأثاث المنزلي والملابس اليومية وفساتين السهرة وقطع الحلي بهدف نشره على أوسع نطاق ممكن، وهي منتشرة في بيوت المهاجرين أو بيوت الشتات للحفاظ على مكانة الوطن في ركن من أركان المنزل.
أثواب بعض المدن الفلسطينية وقراها
ثوب القدس: ويعرف بكثرة التطريز وتنوع الرسومات وهو دلالة على رفاهية المرأة ومكانتها الاجتماعية، ويمتاز هذا الثوب بوجود أثر ورمز لكل العصور والحضارات التي مرت على القدس، فعلى الصدر توجد ملكات الكنعانيين، وعلى الجوانب تظهر طريقة التصليب منذ أيام الحكم الصليبي، كما يظهر الهلال والآيات القرآنية كدليل على عودة القدس للحكم العربي الإسلامي، إلى جانب آثار النكبة التي تظهر الحزن والحنين من خلال اختفاء الألوان الزاهية.
ثوب يافا: رسم على الثوب ألوان زهر البرتقال والليمون الذي يحيطه السرو، لتميز يافا بالبساتين الخضراء، بالإضافة إلى تأثر هذه المنطقة بالزي التركي، إذ امتد تأثيره على مدن أخرى مثل طبريا وحيفا أيضًا، ويظهر ذلك من خلال التنورة والجاكيت المطرز على الطريقة التركية، وتغطي وجهها بالخمار، وهو مزيج من الصبغة الحضرية والتراثية.
ثوب نابلس: يشبه هذا الزي بالملابس التي كانت منتشرة في دمشق، ويعود ذلك بسبب الطبيعة المدنية والتجارية لنابلس التي ربطتها بدمشق وحلب، إذ تلبس النساء العباءة السوداء ويغطين وجوههن بملاءة تخفي ملامحهن، وهذه أبرز علامات التشابه، بينما تكمن مظاهر الاختلاف بالألوان والتطريز وخطوطه الحمراء والخضراء والربطة والشال الذي يميز هذه المنطقة عن غيرها وعادة ما يصنع من خيوط الكتان والحرير.
ومع الحرص المتزايد في الحفاظ على أصالة الثوب، صارت المرأة الفلسطينية تنقل رسوماتها وتشارك رموز مدينتها الخاصة إلى منطقة أخرى، فمثلًا اشتهرت منطقة الخليل بزخرفة خيمة الباشا وغلبت الرسومات الهندسية على مطرزات شمال فلسطين والجليل الأعلى وصفد، والنجمة الكنعانية في زي بيت لحم، لكن أصبحت هذه الزخارف جميعها تجتمع وتتنقل من ثوب إلى آخر بغض النظر عن المنطقة الجغرافية كنوع من التأكيد على وحدة الأراضي الفلسطينية التي قسمتها حواجز وجدران الاحتلال الإسرائيلي.