عند الترحال يشعر المرء بالحرية وأنه ليس سجين أحزان المدينة السابقة، ولا يجد في نفسه حرجٌ أن يستمتع وينسى الهموم والمشاغل الحياتية التي لا تنتهي، ومن أجمل الأوقات التي يمكن أن يقضيها الشخص سواء كان بمفرده أم رفقة المقربين منه، إجازةً يستمتع فيها بالطبيعة الخلابة بعيدًا عن الضوضاء والصخب.
في أمسية ممطرة من أمسيات الزهرة الجديدة (أديس أبابا) الصيف الماضي، قلت لرفيقي ونحن في طريقنا لتناول وجبة العشاء: “ما رأيك في الخروج من العاصمة وقضاء أسبوع كامل في إحدى المدن البعيدة؟”، أيّد الصديق الفكرة بحماس مذكِّرًا بأن خبراء السفر ينصحون دائمًا بزيارة المدن والقرى خارج العواصم لمعرفة البلدان، فاقترحت “بحر دار” التي توصف بجنّة الله في الأرض، لكن صديقي اعتذر من مرافقتي لارتباطه بمواعيد داخل العاصمة، واعترض في الوقت نفسه على الوجهة محتجًا بأنني زرت بحر دار عدة مرات من قبل، وسألني عن رأيي في “هوّاسا” عاصمة الجنوب الإثيوبي.
ذكرت له أنني لم أزرها من قبل وسمعت عنها كثيرًا وعن منتجعاتها الخلابة وبساطة أهلها، قال لي إذًا عليك بها، وفي الصباح يمكننا جمع المزيد من المعلومات عنها إذا أحببت.
بت ليلتي بعد أن تناولنا طعامنا وجلسنا برهةً من الزمن في أحد المقاهي الشعبية القديمة نستمع إلى صوت الفنان السوداني كمال ترباس وهو يشدو برائعته “ما تهتموا للأيام” عبر جهاز الـ”سي دي” التابع للمقهى، والغناء السوداني في إثيوبيا رائج ومنتشر في كل مكان رغم حاجز اللغة.
في الصباح، استفسرت عن هواسا فلمست استحسانًا وتأييدًا من أصدقائي الإثيوبيين وتشجّعت أكثر للسفر إليها بعد أن علمت أن طقسها دافئ نسبيًّا مقارنة بالعاصمة التي تشهد هطول أمطار بمعدل 4 إلى 5 مرات يوميًّا خلال الصيف وتتراوح درجات الحرارة فيها بين 22 و12 درجة مئوية.
رغم المسافة الكبيرة بين أديس أبابا وشاشمني (4 ساعات ونصف) لم أشعر بمرور الزمن فقد كان المشهد خلف النافذة غاية في الروعة، المروج الخضراء والسلاسل الجبلية على مد البصر
وللسفر إلى هواسا هناك خياران: الأول عن طريق البر حيث تستغرق الرحلة 5 ساعات تقريبًا بالحافلات الحديثة، وعن طريق الجو لا تزيد رحلة الخطوط الإثيوبية بين أديس أبابا وعاصمة الجنوب على 30 دقيقة فقط، شخصيّا فضّلت الخيار الأول لرغبتي في استكشاف البلد ولقلة التكاليف إذ لا تزيد قيمة التذكرة على 150 بِرًا إثيوبيًا (الدولار الأمريكي = 27.2 بر).
وصلت في تمام التاسعة صباحًا إلى محطة (Meskel Square) الشهيرة التي تنطلق منها السفريات للمدن الإثيوبية، وللأسف وجدت آخر حافلة غادرت قبل نصف ساعة، خيّرتني موظفة مكتب النقل بين أن تحجز لي في الرحلة الأولى ليوم غدٍ، أو التوجه إلى المحطة الثانية التي تقع في أطراف المدينة للسفر اليوم، اخترت الأخير واستقللت سيارة تاكسي للوصول إلى محطة الحافلات الرئيسية في منطقة (كاليتي).
مأزق آخر كان في انتظاري بالمحطة حيث وجدت الحافلات الفاخرة غادرت هي الأخيرة من (كاليتي)، فلم أجد بدًا من استقلال حافلة صغيرة (ميني باص) ذاهبة إلى مدينة (شاشمنِّي) القريبة من وجهتي (هوّاسا).
ورغم المسافة الكبيرة بين أديس أبابا وشاشمني (4 ساعات ونصف) لم أشعر بمرور الزمن فقد كان المشهد خلف النافذة غاية في الروعة، المروج الخضراء والسلاسل الجبلية على مد البصر، قطعان الماشية تتهادى على جانبي الطريق وترافقنا الغيوم وزخات المطر على الطرق الواسعة النظيفة 4 مسارات لكل اتجاه وفي أسوأ الحالات 3 مسارات مع لوحات إرشادية باللغتين الأمهرية والإنجليزية .
بالإضافة إلى ذلك شغل لنا سائق السيارة لنا آخر ألبوم أصدره الفنان الإثيوبي الكبير تيدي أفرو وهو يحمل عدة أغانٍ وطنية أشهرها أغنية (Ethiopia Hagere) التي تعني بالأمهرية (إثيوبيا وطني)، جدير بالذكر أنها حققت نحو 12 مليون مشاهدة على اليوتيوب.
بعد الوصول إلى شاشمني ركبنا سيارة صغيرة أخرى أقلتنا إلى زهرة الجنوب في غضون 20 دقيقة تقريبًا. دخلنا هوّاسا الساعة الرابعة عصرًا تقريبًا والشمس كانت غائبة بفعل الغيوم الداكنة خلف البحيرة الضخمة التي تحمل الاسم ذاته، هُنَا قلب المدينة النابض ومركزها محطة المواصلات التي تصل زهرة الجنوب بالعاصمة أديس أبابا وغيرها من المدن، السحابة التي تتوسط السماء استقبلتنا بمطرٍ خفيف أذهب عنا تعب الرحلة، درجات الحرارة معتدلة جدًا بالمقارنة مع طقس العاصمة البارد.
أنهيت إجراءات الدخول بسرعة في بهو الفندق الأنيق الذي يقع قبالة كلية الزراعة التابعة لجامعة هواسا، فتحت النافذة ونظرت من الشرفة المطلة على أسوار الكلية فهالني جمال الطبيعة والأشجار الخضراء تقف شامخة حتى تحجب مباني كلية الزراعة ذات المعمار الكلاسيكي القديم، وفي الأفق البعيد تظهر البحيرة وهي تحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، تسمّرت في مكاني أتأمّل المنظر دقائق طويلة رغم إحساسي بالتعب وحاجتي إلى الاسترخاء.
بعد قسطٍ من الراحة، خرجت أتمشى في شوارع المدينة خاصة الشارع المستقيم الذي يربط الدوار الشهير ببحيرة هواسا غربًا، كان هناك رذاذ خفيف يداعب وجوه المارة، الابتسامة مرسومة على شفاه الجميع خاصة طلاب وطالبات جامعة هواسا وهم في طريق العودة إلى منازلهم.
على جنبات الطريق يصطف بائعو عيش الريف (الذرة الشامية) وهم يقومون بشوائها في الهواء الطلق، تجذبك إليهم رائحة الشواء الممزوجة بالنسيم البارد، المتاجر الكبرى تستعد لإغلاق أبوابها مع المغيب وقرب حلول الظلام، كلمة التاكسي هناك تُطلق على المركبات ثلاثية العجلات التي نسميها (الركشة) في السودان.
في هواسا تنتشر المقاهي الشعبية مثل بقية المدن الإثيوبية وتوجد كذلك الكافيهات الحديثة لكنها ليست منتشرة كما في العاصمة أديس ابابا، ويتحدث السكان لغة محلية هي لغة “أمم وشعوب الجنوب” إلى جانب اللغة الرسمية (الأمهرية)، وقليل منهم يتحدث العربية والإنجليزية.
أكثر ما يلفت انتباه الزائر لزهرة الجنوب نظافة المدينة ورحابة طرقها وبساطة السكان واحتفائهم بالغريب والهدوء الشديد والأمان الذي تتصف به المدينة الرائعة، فضلًا عن طقسها الدافئ مقارنة بالعاصمة أديس أبابا ومدن الشمال.
بعد جولة المشي ووجبة الذرة الشامية الخفيفة كان لا بد من تذوق القهوة الإثيوبية المسماة محليًا بالبُنّة، سألت عن أفضل مقاهي المدينة فقيل لي التي تطل على البحيرة ولما كان الوقت قد تأخر قررت تناولها في مقهى شعبي صغير بالقرب من كلية الزراعة، وقبل أن أنتهي من شرب الفنجان أخذ المطر في الهطول بغزارة فأكملته على عجل وعدت أدراجي إلى الفندق بصعوبة.