بينما لا يفصل اللبنانيين عن انتخاباتهم التشريعية سوى 35 يومًا كما هو محدد لها في الـ6 من مايو/أيار القادم، إذ بالقانون الانتخابي النيابي الجديد الذي تم إقراره بعد مداولات استمرت قرابة الـ9 سنوات، يثير حالة من الجدل داخل الشارع اللبناني.
القانون الذي تقدم بمشروعه نائب رئيس الهيئة التنفيذية في “حزب القوات اللبنانية” النائب جورج عدوان، بعد فشل عشرات الطروحات الأخرى التي قدمتها بقية القوى السياسية بات الأمل الوحيد أمام اللبنانيين للتخلص من “قانون الستين” سيئ السمعة، ومن ثم لاقى قبولاً من مختلف الأطياف حتى وإن لم يرتق إلى مستوى طموحاتهم.
النظام الانتخابي الجديد الذي قلص عدد الدوائر من 26 دائرة إلى 15 دائرة فقط، بعد ماراثون طويل من النقاشات، خاضت خلالها القوى السياسية مفاوضات ذات طابع تقني بهدف تحسين حظوظها الانتخابية في مُختلف الدوائر، فرض حزمة من التساؤلات عن مدى ما يمكن أن يحققه من تقدم في العملية السياسية اللبنانية بعد سنوات من التجمد، هذا بخلاف ما أثاره البعض بشأن السلبيات التي انطوى عليها القانون الجديد والموصوفة من محللين بأنها قنابل موقوتة ربما تعيد تشكيل الخريطة السياسية للبرلمان اللبناني في دورته الجديدة.
قانون يحسم الجدل
منذ استقلال لبنان عام 1943 وحالة من الجدل تسود أروقة المشهد السياسي بخصوص قانون الانتخابات التشريعية، حيث انقسم ساسة هذه الدولة إلى ثلاثة أقسام، كل منهم يطالب بصيغة انتخابية معينة تحفظ له حظوظه السياسية في أكثرية المقاعد داخل مجلس النواب (البرلمان).
القسم الأول كان يطالب بانتخابات وفق النظام النسبي (القوائم) وهو النظام الذي يراه أنصاره أكثر ملاءمة للتطورات السياسية بصورة عصرية بعيدًا عن الطائفية، بينما الفريق الثاني كان يميل إلى النظام الأكثري (الفردي) الذي بدوره يرسخ مفهوم المحاصصة الطائفية.
التيار الثالث طالب بأن يكون النظام الانتخابي خليطًا بين النظامين السابقين، النسبي والأكثري، بوصفه الأكثر تماشيًا مع الخريطة السياسية اللبنانية، فيما اقترح آخرون الإبقاء على القانون المعمول به طيلة السنوات الماضية والمعروف باسم قانون الستين، وهو القانون الذي يقسم البلاد لدوائر غير متساوية من خلال النظام الفردي.
التحدي الأكبر حال إجراء الانتخابات القادمة على أساس النظام الجديد سيكون لكتلة رئيس الوزراء سعد الحريري، “تيار المستقبل” الذي يمتلك أكبر كتلة داخل البرلمان (34نائبًا)
دخول عصر النسبية
“بغض النظر عن الذرائع “التقنية” غير المنطقية لتبرير التمديد الطويل، فإن القانون الانتخابي الجديد يمكن وصفه بـ”الإنجاز” مقارنة بالقوانين الانتخابية السابقة”، بهذه الكلمات استهل الكاتب والمحلل اللبناني أمين خليل قمورية، تعليقه على “قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب” اللبناني، خلال تحليل له على موقع “الجزيرة”، مرجعًا ذلك إلى سببين: الأول أنه دفن القانون الأكثري السيئ الذي تحكم في الحياة السياسية اللبنانية منذ نشأة هذه الدولة في عشرينيات القرن الماضي، وكان مجحفا – على الصعيد التمثيلي – لقوى سياسية عدة، لا سيما منها صاحبة الخطاب الوطني العام.
ثانيًا كونه يُدخل لبنان في عصر النسبية في التمثيل النيابي، وهو ما كان يفتقده الشارع السياسي اللبناني خلال السنوات الماضية، حيث كانت القائمة الانتخابية التي تنال الأكثرية زائد واحد كانت تحظى بغالبية المقاعد، وتحمل أحيانًا إلى المجلس النيابي ممثلين عن الشعب شبه مجهولين، ولا يتمتعون بأي كفاية سوى الولاء المطلق للزعيم السياسي.
ومن ثم فإن الإيجابية الوحيدة التي جاء بها القانون الجديد – من وجهة نظر البعض – هي إسقاطه قاعدة اللائحة الواحدة الفائزة، التي غالبًا ما صنعت الطبقة السياسية وحفظت استمرارها، ومكّنتها من الإمساك بالسلطة وفرض قوانين الانتخاب المتعاقبة، حتى تحولت المقاعد النيابية إلى إرث يورثه الأعضاء إلى أبنائهم وذويهم بصرف النظر عن الكفاءة وتحمل المسؤولية.
جدير بالذكر هنا أن اعتماد النسبية الكاملة في القانون الجديد إنما جاء في أعقاب سقوط كل مشاريع القوانين التي كانت ترتكز إلى النظام الأكثري، هذا بخلاف الرفض العارم من غالبية الشعب اللبناني لهذا النظام الذي تجرع منه البنانيون كؤوس التهميش والتجاهل لعقود طويلة مضت.
الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، رأت أن “تقسيم الدوائر والمقاعد بالشكل المقدم وفق القانون الجديد يعزز الخطاب الطائفي للقوى السياسية، ويحد من التنوع في الدوائر الانتخابية”
تباين وجهات النظر حيال القانون الجديد
قنابل موقوتة
رغم التفاؤل حيال القانون الجديد وما يمكن أن يلعبه من دور في تحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي الانتخابي فضلاً عن دفنه للقانون الأكثري السابق، فإنه لاقى اعتراضات كبيرة من قوى المجتمع المدني، ومن الأحزاب الوطنية غير الطائفية والأحزاب الصغرى، تمحورت في خمس قنابل موقوتة.
أولا: تعزيز الخطاب الطائفي.. الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، رأت أن “تقسيم الدوائر والمقاعد بالشكل المقدم وفق القانون الجديد يعزز الخطاب الطائفي للقوى السياسية، ويحد من التنوع في الدوائر الانتخابية”، إذ إن النسبية المطروحة في النظام الجديد تعطي مفعول النظام الأكثري تحت مسمى النسبية، ذلك أن النظام النسبي بدوائر صغيرة أو متوسطة – كما هو مطروح حاليًّا (15 دائرة يتراوح عدد المقاعد فيها بين 5 و13) – مع كوتا مذهبية ومناطقية، يضعف كثيرًا مفعول النسبية ويحولها إلى نظام أكثري مبطن.
الجمعية في بيان لها ذكرت أن ” قانون الانتخاب نفسه هو عامل رئيسي مساهم في إضعاف سلامة العملية الانتخابية، فهذا القانون جرى التوافق عليه خارج المؤسسات الدستورية بين أطراف سياسيين رئيسيين، فرضوه على الأطراف الآخرين الشركاء معهم وعلى مضض، ووضعه المرشحون أنفسهم، وجرى تفصيله بناء على التوازنات والمصالح الخاصة بهم، مما جعله قانونًا هجينًا، فلا هو أكثري ولا هو نسبي، ولا هو على أساس المحافظة ولا القضاء، ولا هو انتخاب للائحة على أساس سياسي ولا هو انتخاب لأفراد، إلخ.
يضاف إلى ذلك، أن هناك انتهاكًا جوهريًا لمبدأ قانوني ثابت وهو ألا يتولى أصحاب المصلحة المباشرة التشريع في الأمور التي تطاول مصالحهم، وقد حصل العكس تمامًا مع قانون انتخاب سنّه المرشحون أنفسهم لأنفسهم، ويتولون بأنفسهم الآن الإشراف على تنفيذه (…)”.
علاوة على ذلك فإن اعتماد نظام “الصوت التفضيلي”، أي أن الناخب ملزم بأن يختار شخصًا محددًا في اللائحة التي ينتخبها، بغية دعمه أكثريًا في الفرز النسبي، أحد مرتكزت تعزيز الطائفية في العملية الانتخابية، حيث تكون المواجهة بين المرشحين للانتخابات على أساس أكثري، يتحول في بعض الأماكن إلى صراع طائفي.
في دائرة مختلطة طائفياً، يمكن لناخبين من طائفة معيّنة اختيار مرشح من طائفتهم لا من طائفة أخرى، كما يمكن أن يختار ناخبون من طائفة ما تفضيليًا، مرشحًا من طائفة أخرى شرط أن يكون مرشحًا عن القضاء الإداري الذي ينتمون إليه من ضمن الدائرة الانتخابية التي غالبًا ما تضمّ أكثر من قضاء.
بغض النظر عن الذرائع “التقنية” غير المنطقية لتبرير التمديد الطويل، فإن القانون الانتخابي الجديد يمكن وصفه بـ”الإنجاز” مقارنة بالقوانين الانتخابية السابقة
ثانيًا: الرشوة الانتخابية الشرعية.. ثغرة أخرى يراها البعض بالقانون الجديد تتعلق بالمال الانتخابي المقرر إنفاقه من كل مرشح خلال الحملة الانتخابية الخاصة به، وهو ما يفتح باب الرشوة السياسية بصورة شرعية، إذ نصّ القانون في الإنفاق الانتخابي ضمن المادة 61 على التالي: “يحدد سقف المبلغ الأقصى الذي يجوز لكل مرشح إنفاقه في أثناء فترة الحملة الانتخابية وفقًا لما يأتي: قسم ثابت مقطوع قدره 150 مليون ليرة لبنانية (100 ألف دولار)، يضاف إليه قسم متحرك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي ينتخب فيها وقدره 5000 ليرة لبنانية (3.5 دولار) عن كل ناخب من الناخبين المسجلين في قوائم الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى، أما سقف الإنفاق الانتخابي للائحة فهو مبلغ ثابت مقطوع قدره 150 مليون ليرة لبنانية عن كل مرشح فيها”.
في هذه الحالة يمكن للمرشح تخصيص هذا المال على الأصوات التي يحتاجها لنجاحه فقط، بمعنى أنه إن احتاج مثلاً 10 آلاف صوت في دائرة ما لضمان نجاحه، بات من السهل عليه إنفاق المبلغ المحدد وفق القانون على تلك الأصوات بدلاً من إنفاقها على بقية المقترعين في الدائرة، ومن ثم فإن بند الإنفاق الانتخابي شرّع الباب أمام “رشوة شرعية”، وهو ما قد يحول المجلس إلى برلمان رجال الأعمال ممن يمتلكون المال.
ثالثًا: تجاهل حق المغتربين.. تجاهل القانون الجديد حق المغتربين في أن يكون لهم مقاعد خاصة بهم كحصة برلمانية، وقد تمّ تسجيل نحو 92 ألف مغترب فقط في السفارات اللبنانية في الخارج، وهو رقم ضئيل جدًا بجانب الملايين التي تعيش خارج لبنان، بين دول الخليج وإفريقيا والقارة الأمريكية وأستراليا وأوروبا.
ومن ثم فإن عدم تخصيص مقاعد برلمانية للمغتربين سيسمح لهم بتغيير نسبي في بعض الدوائر وهو ما قد يؤثر في رأي غالبية المقيمين، ويأتي بنتائج معاكسة تمامًا، خاصة أن القدرة على القيام بجولة لدى البلدان التي يوجد بها المغتربون، لا يملكها الكثير من الأطراف ماديًا سوى أهل السلطة.
رابعًا: إضعاف عملية المشاركة.. رغم الضغوط التي مارستها القوى السياسية بشأن السماح للناخب بالتصويت في منطقة سكنة وليس شرطًا أن يكون داخل مقره الانتخابي، غير أن السلطة رفضت اعتماد هذا المبدأ، مشددة على ضرورة التصويت في مسقط رأسه.
هذا القيد ربما يكون سببًا في ضعف المشاركة بالانتخابات، خاصة أن ما يقرب من 80% من اللبنانيين يعملون في مدن أخرى غير تلك المولودين بها، نصفهم تقريبًا في العاصمة بيروت، مما سيجعل الناخب الذي تقع دائرته في منطقة بعيدة عن العاصمة، مترددًا في المشاركة بالانتخابات، خصوصًا أنه في يوم الانتخابات ستشهد البلاد زحمة سير خانقة.
خامسًا: إغفال كوتة المرأة وتخفيض سن الاقتراع.. بعض الانتقادات ذهبت إلى افتقاد القانون الجديد للمعيار المساواة بين الدوائر الانتخابية، فتقسيم الدوائر إلى 15 دائرة تم بطريقة – كما يرى سياسيون – مخالفة للدستور لناحية اعتماد المحافظات الستة دوائر انتخابية لضمان عملية الانصهار الوطني والارتقاء بالخطاب الانتخابي والسياسي من الخطاب الطائفي والمذهبي إلى الخطاب الوطني.
هذا بخلاف افتقاد بعض النقاط الإصلاحية الأخرى مثل عدم إقرار كوتة خاصة بالمرأة، وتخفيض سن الاقتراع إلى 18 عامًا بدلا من 21 كما كان يطالب البعض؛ مما قد يؤثر على عملية المشاركة من النساء والشباب على حد سواء.
تغيرات متوقعة على خريطة البرلمان حال تطبيق النظام الجديد
الرابح والخاسر من النظام الجديد
تتباين حصص القوى السياسية وفرصها في الانتخابات التشريعية القادمة استنادًا إلى القانون الجديد وفق عدة اعتبارات خاصة بعد التغير المتوقع لتطبيق النظام الجديد على أرض الواقع لا سيما فيما يتعلق بالتزحزح تدريجيًا عن النظام الأكثري، وذلك وفق ما أورده مقربون من دوائر صنع القرار.
التحدي الأكبر حال إجراء الانتخابات القادمة على أساس النظام الجديد سيكون لكتلة رئيس الوزراء سعد الحريري “تيار المستقبل” الذي يمتلك أكبر كتلة داخل البرلمان (34 نائبًا)، وذلك في ضوء ما سيترتب على القانون من خلط لكل المكونات السياسية والشعبية على الساحة السنية التي يمثلها الحريري؛ مما قد ينجم عنه تراجع في حصته لصالح آخرين.
شيعيًا.. ربما لا تكون هناك أي مفاجآت على مستوى النتائج التي من الممكن أن يحققها ثنائي حركة “أمل” و”حزب الله”، فيما توقع البعض أن يتعرضا لاختراق في بعض الدوائر البعيدة عن الجنوب، على رأسها دائرتيْ بعبدا وبعلبك/الهرمل، أما في الجنوب وبقية الدوائر فالمتوقع أن يبقى وضعهما التمثيلي كما هو دون تأثير.
مسيحيًا.. فإن النظام الجديد سيحدث حالة من الإرباك وخلط الأوراق، ومن ثم من الصعب أن يحقق “التيار الوطني الحر” تقدمًا ملموسًا، بل سيكتفي بالحفاظ على وضعيته الحاليّة كثاني أكبر كتلة نيابية بعد “تيار المستقبل”، فيما من المتوقع أن يحقق قيادات “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب والقيادات المسيحية المستقلّة” تقدمًا نظرًا لما تتمتع به من قدرات شعبية وجماهيرية قادرة على إحراز الفارق في الانتخابات القادمة.