سنوات من الحصار وضنك العيش سببه النظام لأهالي الغوطة الشرقية، في ظل انعدام الحياة قاومت الغوطة بكل ما لديها من قوة، وتحملت ما لم تتحمله منطقة في الأراضي السورية، فكانت منبتًا للرجولة والشهامة على حد وصف الثورة لها، حصار مطبق وتجويع انتهجه النظام وحلفاؤه على المدنيين هناك، صبروا بكل ما أوتوا من قوة، لكن القصف العنيف بأقوى أسلحة العالم أجبرهم على التخلي عن صمودهم مقابل الحفاظ على ما تبقى من المدنيين، فقد قصفوا بالبراميل والقنابل العنقودية والصواريخ البالستية والأسلحة الكيماوية وكان لصمودهم قصة تكتب على مر التاريخ.
انتهت الحياة الضيقة التي كان يعيشها أهالي الغوطة الذين طالبوا بالحرية والنظام الذي كان له رد مختلف تمامًا عما توقعوه، إذ إنك إذا سرت في شوارعها لا ترى بناءً كاملًا، فالدمار يخيم بلونه الحالك الشاحب على أحيائها ومدنها، دوما والرمق الأخير للمعارضة بعدما صمدت تعرضت للقصف الكيماوي من النظام ليجبروا من لم يقبل بتهجير، ولم يكن يسمح أن تحتل أرضه ميليشيات إيرانية وأفغانية، فعلًا كان تحديًا صعبًا بالنسبة للنظام، ولكن حفاظًا على المدنيين كان التهجير هو الخيار الأفضل للمعارضة.
بعدما هجرت مدن وبلدات الغوطة بقيت مدينة دوما التي كان خيارها الأخير هو التهجير، مصطفى 37 عامًا، انطلق مع أسرته وآلاف الناس إلى مكان انتظار الحافلات التي ستنقلهم إلى ريف حلب الشمالي، كان هناك في منطقة وجود الحافلات آلاف الناس ينتظرون منذ ساعات، على الأوستراد الذي يوجد به الناس الذين فقدوا الكثير من أبنائهم كانوا ينتظرون ساعة الانطلاق، أناس يبيعون السلاح وبسطات أخرى تبيع ما تبقى لديها من حاجيات عسى أن توفر بعضًا من المال يعينهم بعد وصولهم ريف حلب، جهز حقيبته وطفليه وزوجته وصعد إلى الحافلة بعدما جرت عدة خلافات على من سيخرج في الدفعة الأولى.
بعد مرور ثماني ساعات من الانتظار خرجت الدفعة الأول، تودع أطلال الأبنية المدمر والشرفات المبعثرة، كان الحزن مخيمًا على وجوه المهجرين، جلس وعائلته في المقاعد الخلفية من الحافلة ينتظر الانطلاق حتى انطلقت الحافلة وعيون المهجرين تنزف دمًا كحزن لم يسبقه آخر.
في الحافلة من الأطفال والنساء والرجال ما يقارب 30 شخصًا، باتت الوجوه صعبة التفسير مع اقترابهم من حواجز النظام حين اقتربت الحافلات من الحواجز، قال أحد الشباب: “انزلوا الستائر تجنبًا لإعلام النظام” الذي يستقبلهم بكل ذل عبر كاميراته التي تغير الواقع ومراسليه الذين يوجهون إساءات للركاب.
توقفنا على بعد أمتار من الحاجز كي يصعد الضابط الروسي ويفتش القافلة ثم دخل عنصر سوري طلب تسجيل أسماء الركاب لكننا أعطيناه أسماءً وهمية، ثم صعد الضابط الروسي وأمر سائق الحافلة بالسير، توجهت الحافلة عبر مناطق لا تشبه مناطقنا، مناطق تمتلئ بالنور لا ترى للظلمة فيها مكان على غير ما تعودنا عليه بالغوطة، حيث افتقدت الغوطة الكهرباء من عدة سنوات عندما قصف النظام المراكز بالإضافة إلى قطعها بشكل تام عن المنطقة، وأصبحنا لا نرى النور ليلًا إلى لساعات محدودة.
كانت جدران الأبنية تختلف تمامًا عن جدران أبنية الغوطة المهدمة والمتصدعة التي لا تصلح للسكن والطريق الذي تسير عليه الحافلات يختلف كثيرًا ولا يمكن مقارنته مع طرقات الغوطة التي امتلأت بالركام.
وصلت الحافلات ريف طرطوس حتى كانت حواجز قوات النظام وشبيحته تستقبل الحافلات برفع “البوط العسكري” أمام المارين وسط صمت مخيم على الركاب
أكملت الحافلة سيرها حتى واجهتها سيارة من شبيحة النظام ومؤيديه، ثم صاح المنادي: “انزلوا الستائر” أنزلت الستائر، كانت الشتائم تقرع آذان الركاب والأحذية تتطاير، هكذا كان مؤيدي النظام وكأن الغوطة قطعة غير سورية وسكانها من كوكب آخر، خرج الرتل من دمشق عبر أستراد دمشق حمص، وكان تخوفنا يزيد خشية تعرض الحافلة لشبيحة آخرين ونتعرض لما تعرضنا له من ذل وحقد من مواليي الأسد.
وصلت الحافلات ريف طرطوس حتى كانت حواجز قوات النظام وشبيحته تستقبل الحافلات برفع “البوط العسكري” أمام المارين وسط صمت مخيم على الركاب، فهم لم يستيقظوا من الوهلة الأولى خلال ما تعرضوا له من أشقائهم في القسم الآخر السوري.
أكملت سيرها الحافلات في أرياف طرطوس وقراها وكان الخوف قد ظهرت ملامحه على الركاب الذين لم يناموا منذ يومين على الأقل خشية من قوات النظام، فبعض الحافلات رميت بالحجارة وتعرضت لتكسير الزجاج من الموالين، استمرت الحافلات حتى وصلت حماة التي لم تكن أقل من تلك المدن، فقد تعرضت إحدى الحافلان إلى رشقة من الرصاص من شبيحة النظام أودت بحياة طفل وإصابات عدة في صفوف المهجرين.
اتجهت الحافلات نحو حلب لتصل معبر أبو الزندين عبر أرياف حلب وحماة، وفي المعبر الواقع جنوب الباب انتظرنا ساعات الصباح الأولى ولم يكن هناك تجاوب من الجيش الحر الذي يسيطر على مدينة الباب من الجهة الشمالية للمعبر، وكانت الحافلات تتعرض للإهانات من قوات النظام المتاخمة للجيش الحر.
أربع ساعات من الانتظار كانت كفيلة أن نقارن ما كنا عليه بالغوطة من صمود وما وصلنا إليه، لم نتمكن من الدخول بعد العديد من المحاولات وكانت قوات المعارضة تقول: “لا يوجد تنسيق بينها وبين المهجرين”، وآخرون يقولون إن الأتراك يمنعون دخولهم، على إثر ذلك خرج أهالي مدينة الباب وأشعلوا الدواليب بساحات المدينة، وطالبوا الجهات المعنية بتحمل المسؤولية وإدخال المهجرين إلى الباب، ومناطق درع الفرات.
فتح المعبر أمامنا، وكأن الجنة والحياة عادت للمهجرين بعدما تعرضوا لأسوأ الإهانات من شبيحة الأسد، كان استقبال أهالي المنطقة جميلًا جدًا، ووجوه تبتسم لنا وتقول أنرتم أرضكم، وتجد أن الفارق كبير بين حرية آل الأسد المرهونة للعائلة الحاكمة، والحرية التي تقبع في نفوس سكان المناطق المحررة.
لا تزال دفعات المهجرين من مدينة دوما تصل منطقة درع الفرات في الشمال السوري، على عدة مراحل ووصلت إلى 9 مراحل متتالية، الأولى منها كانت وجهتها قلعة المصيق بريف حماة، حيث تضمنت 1100 شخص، وأغلبهم من مهجري مدينة عربين إلى دوما، فيما اتجهت المرحلة الثانية إلى مدينة الباب وضمت 1150 شخصًا، موزعين على 21 حافلة بينهم 400 طفل و320 من النساء.
والمرحلة الثالثة التي وصلت الثلاثاء 3 من أبريل/نيسان وضمت 1200 شخص موزعين على 24 حافلة بينهم 415 طفلاً، وتقل 300 من النساء، فيما وصلت الدفعة الرابعة في الأربعاء 4 من أبريل/نيسان وتقل 650 شخصًا، بينهم 225 طفلاً و200 امرأة، ووصلت الدفعة الخامسة الإثنين 9 من أبريل/نيسان وضمت 3550 شخصًا بينهم 1346 طفلاً، 877 من النساء، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى.
بلغ عدد الذين وصلوا من مدينة دوما إلى ريف حلب الشمالي، قرابة 17600 شخص
فيما وصلت الدفعة السادسة 10 من أبريل/نيسان وضمت نحو 3860 شخصًا 1050 من النساء، 1500 طفل وعدد من الجرحى، كما وصلت الدفعة السابعة في 11 من أبريل/نيسان وتقل 1500 شخص بينهم 550 طفلًا و350 من النساء، كما وصلت الدفعة الثامنة وتقل 3550 شخصًا بينهم 1500 طفل و1000 امرأة، فيما وصلت الدفعة التاسعة وتقل 3615 شخصًا.
بلغ عدد الذين وصلوا من مدينة دوما إلى ريف حلب الشمالي، قرابة 17600 شخصًا، وتوزع المهجرون على المناطق التالية: “مركز إيواء شميران قرب بلدة قباسين بريف حلب الشرقي، مركز إيواء أعزاز، مساجد مدينة الباب وأعزاز، منازل سكنية بعدد محدود جدًا في منطقتي الباب وأعزاز”، ويعاني المهجرون قسرًا من نقص كبير في الخيام وصعوبة تأمين منازل سكنية، إضافة إلى ضعف إمكانية المنظمات في تغطية الكم الهائل من المهجرين.