بدأ القصف الإسرائيلي سريعًا على مقرات ووزارات مؤسسات السلطة الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، تساؤل طرح في غاية الأهمية وقتها كيف تدمر “إسرائيل” مؤسسات السلطة التي بناها المانحون بأموالهم؟ ومن سيعيد بناء هذه المؤسسات؟
كان التحليل منصبًا على زاوية إعادة الإعمار في الوقت الذي سعت فيه السياسة الأمريكية والإسرائيلية لإزاحة صناعة القرار من غزة، وكانت وتيرة القصف على مؤسسات السلطة في الضفة أقل من تلك التي تدمرت بالكامل في غزة، عاد أبو عمار لغزة معلنًا تفجير انتفاضة الأقصى، وكان مجبرًا للتحول إلى الضفة الغربية.
قرار سياسي لا يخرج عن جغرافيا غزة
كانت “إسرائيل” تواجه مشكلة في التعامل مع غزة منذ بداية تكوين السلطة، هي ليست مهتمة كثيرًا بغزة كحالة سياسية أو تنموية بقدر اهتمامها بالضفة الغربية ذات الاحتكاك المباشر، وكان الانسحاب المباشر من طرف واحد ومن المستوطنات الإسرائيلية كافة في غزة ضمن خطة آرئيل شارون لنقل القرار السياسي للسلطة بالكامل نحو الضفة الغربية.
فغزة غير قابلة للتطويع ولا حتى المناورة بل تتأقلم مع أزماتها بصورة سريعة، لذلك عليها أن تأكل نفسها بنفسها، بحيث يشكل الضغط الاقتصادي ومطالب أهالي غزة عامل تشتيت واستنزاف لصانع القرار.
ووفق هذه الآلية تم التعامل مع غزة كإقليم يصنع قراره بعيدًا عن القرارات الدولية وغير ملتزم بما تم الاتفاق عليه مع السلطة الفلسطينية، ولأن صانع القرار أصبح أكثر إيديولوجية ونشاطًا ومعاداة للاحتلال الإسرائيلي من أبو عمار بعد فوز حماس في انتخابات عام 2006، واجه المجتمع الدولي أيضًا مشكلة في التعامل مع غزة؛ فقد مرت عديد من المناورات السياسية والرؤى والوثائق باتجاه تلك المنطقة التي لا تهدأ، ولكن صانع قرار غزة رفضها واعتبرها تتناقض مع مبادئه.
الإغاثة وليس التنمية.. غزة كحالة إنسانية
ظلت المساعدات الإغاثية تتدفق على غزة بشكل إغاثي يمنع من فيها من الموت، ويرفض أي حالة تنموية هناك، وبدا القرار السياسي منعزلًا بعد الانقسام الفلسطيني عام 2006، لكن نقلة نوعية حصلت على شكل صناعة القرار السياسي الذي بدا أكثر تفاعلًا بعد الثورة المصرية وصعود مرسي للسلطة.
فقد انفتح القرار السياسي أمام الوفود الرسمية التي جاءت من دول مختلفة خصوصًا الدول العربية، حتى بان أن غزة تستطيع أن تدير قرارها السياسي بنفسها بعيدًا عن السلطة أو إملاءات المجتمع الدولي، وسط تخوف الاحتلال الإسرائيلي من هذا التحول لدى صانع القرار في غزة نحو حماية نفسه من الخارج.
الفيل في الغرفة.. كيف أعيد تصميم القرار السياسي لغزة؟
كانت حرب 2014 فاصلة لدى صانع القرار السياسي في غزة الذي أصبح أكثر تعقلًا من دخول أي حرب مستقبلية، معتبرًا الحرب شكلًا من أشكال المفاوضات لانتزاع حقوق على الأرض، وظل مشغولًا وفق هذه المعادلة متخوفًا من دخول أي حرب جديدة ولو كانت نهاية الطريق المسدود كخيار “شمشوني”، ومع أن غزة ظلت تتفاعل مع أزماتها وتتأقلم، قلق الاحتلال الإسرائيلي من خيار الحرب أيضًا خصوصًا أنه قادر على استنزاف صانع القرار نحو اتجاه آخر وفتح أبواب عودته للنظام السياسي ضمن مرحلة طويلة المخاض، حتى تفقد جماهير غزة الثقة في صانع القرار الموجود.
لذلك كانت حرب خفية بين أجهزة المخابرات التي تعمل في غزة بكل أشكالها الدولية وأجهزة حماس الأمنية، تلك الفترة بالضبط تزامنت مع زيادة مطردة في الجماعات التكفيرية المتشددة المرتبطة خارجيًا وحرب حماس معها وممكن إطلاق المصطلح السياسي على تلك الفترة “الفيل في الغرفة”.
بقاء القرار السياسي لصانعه في غزة محصورًا باتجاه الجنوب، وإجراء كل اللقاءات والاجتماعات التنظيمية والفلسطينية في القاهرة قد تعتبر خطوة إيجابية لإحداث ذبذبات على شكل انفراجات مؤقتة
إزاحة جديدة لقرار غزة نحو الجوار
حين وضعت أمريكا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على لوائح الإرهاب نهاية يناير 2018 كانت التحليلات السياسية تنصب في تفسيرات القرار مقارنة بحالة قرارات سابقة، ظهر ذلك جليًا من خلال تصريح هنية قائلًا: “هذا القرار انقعوه واشربوا مْيْتهُ”، فقد وضع عدد من قيادات حماس العسكرية والسياسية على قوائم الإرهاب على مدار السنوات الأخيرة دون مبالاتهم بتداعيات القرار، وكما أشرت سابقًا أن صانع القرار في هذه البقعة الصماء التي تحولت لغابة من الإسمنت يتعامل بمعزل عن أي قرار دولي، لكن تحليلًا مختلفًا يفسر سعي أمريكا و”إسرائيل” لإزاحة كتلة القرار المركزية في حماس التي تتحكم بمجريات الأمور في الساحة الغزية باتجاه مصر.
بقاء القرار السياسي لصانعه في غزة محصورًا باتجاه الجنوب، وإجراء كل اللقاءات والاجتماعات التنظيمية والفلسطينية في القاهرة قد تعتبر خطوة إيجابية لإحداث ذبذبات على شكل انفراجات مؤقتة تمنع الوضع الفلسطيني العام في غزة من الانفجار، لكن في اتجاه آخر فإن بقاء قرار غزة بعيدًا عن أي تحالفات جديدة تدفعه باتجاه بدائل تعزز أوراق الضغط والمناورة لديه يبقيه تحت السيطرة، أو إعادة التأقلم مع القضمات الجديدة في مساحة بدائله، لقبول أي إملاءات قادمة.