“أسبرطة الصغيرة” هو مصطلح أطلقه الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزير دفاع الرئيس الأمريكي الحاليّ على الإمارات، للحديث عن “مدينة صغيرة تلعب دورًا أكبر من حجمها” بعد أن أصبح ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد يحل ويربط في المنطقة، بل حتى يتدخل في تعين ولي العهد للشقيقة الكبرى السعودية.
ماتيس ليس المسؤول العسكري الأمريكي الوحيد الذي قارن بشكل إيجابي بين الإمارات وسبارتا أو “أسبرطة”، المدينة اليونانية القديمة التي امتازت بقوة جيشها رغم قلة عدده وانتصارها على الفرس، فالمقارنة استهوت الكاتب والمخرج الإماراتي منصور اليبهوني الظاهري لتصوير فيلم طويل حمل الاسم نفسه.
وعلى عكس الرواية المغلوطة التي يسردها الفيلم الإماراتي عن دور الإمارة الخليجية في عمليات حفظ السلام العالمي والإغاثة الإنسانية، تحولت الإمارات من عالم مسالم للأعمال التجارية إلى مشروع احتلال عسكري يبسط نفوذه خارج الحدود، ويعكس الدور الحقيقي الذي يلعبه حاليًّا ابن زايد في المنطقة والأوراق الخفية التي تكشف براغماتية دولة تلعب مع “الأسماك الكبيرة”.
الإمارات تمضغ أكثر مما تستطيع أن تبلع
تحولت الإمارات خلال حقبة محمد بن زايد من تركيزها على أعمالها الخاصة لتصبح الأكثر تدخلًا في العالم العربي، ومع تدفقات البترودولار تحولت الدولة الصغيرة التي يبلغ عدد سكان إماراتها الـ7 نحو 10 ملايين (منهم نحو مليون نسمة فقط مواطنين أصليين) لتصبح ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم وجندت المئات من المرتزقة، بل تحدثت حتى عن استعمار المريخ.
تعاظم الدور الإماراتي تدريجيًا في المنطقة، فانتجت نهجًا صقوريًا تجاه الأزمة القطرية التي شكلت فرصة جيدة لمحمد بن زايد لإضعاف الدور القطري أو القضاء عليه باعتباره المنافس الأكبر للدور الإماراتي، فظهر ابن زايد كأحد “صقور” الأزمة والطباخ الرئيسي لها، في مسعى لتشويه سمعة قطر دوليًا وتحجيم دورها الإقليمي والتحريض على استهدافها أمنيًا وسياسيًا واتهامها بتمويل العمل الإرهابي.
تحاول الإمارات أن تلعب دورًا ونفوذًا جيوسياسيًا يغطي على دور دول الخليج الأخرى حتى أقرب الحلفاء، وهي السعودية، ما ينذر بتنافس بين المحمدين
طبيعة الدور الإماراتي الذي يتعدى حجمها بدا أكثر في “الزلزال السياسي” الذي حدث في السعودية بعد قيام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بإقصاء ابنه عمه ولي العهد محمد بن نايف من ولاية العهد واستعداده للانقضاض على عرش أبيه، وهو ما أكدته صحيفة “ديلي بيست” الأمريكية التي نشرت مجموعة وثائق مسربة من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، تكشف العديد من التفاصيل المتعلقة بهذا الشأن.
وأدرك محمد بن زايد منذ البداية أن الطريقة الأهم لخطب ود أمريكا هو التقارب المباشر مع الكيان الإسرائيلي، فغطى بتطبيعه على من سبقوه من دول مجلس التعاون، وأصبح التنافس السعودي والإماراتي علنًا في هذا الموضوع، فأقام علاقات واسعة مع تل أبيب وقدم عدة عروض لتطبيع كامل معها.
ووفق رؤية ابن زايد تحاول الإمارات أن تلعب دورًا ونفوذًا جيوسياسيًا يغطي على دور دول الخليج الأخرى حتى أقرب الحلفاء، وهي السعودية، ما ينذر بتنافس بين المحمدين (محمد بن زايد ومحمد بن سلمان) في المرحلة القادمة للظفر بالرضى الأمريكي من جهة، والسيطرة على مقدرات الأمور في اليمن من جهة أخرى.
تحولت الإمارات خلال حقبة محمد بن زايد إلى دولة أكثر تدخلًا في العالم العربي
أحلام أسبرطة الصغيرة تبدأ من اليمن
على إثر الصراع الذي ألقى بظلاله على المشهد اليمني، توالت المستجدات السياسية والعسكرية في المنطقة الجنوبية التي حظيت باهتمام إماراتي غير مسبوق، حتى بدت الدولة الخليجية الصغيرة في ثوب المستعمر، فما زرعته دول التحالف ومعهم أشقاء وحلفاء آخرين، استأثرت أبوظبي بحصاده.
الإمارات الطامحة لدور إقليمي ودولي سياسي يوازي دورها الاقتصادي ويفوق حجمها الجغرافي، تسابق الخطى لتحقيق أحلام “أسبرطة الصغيرة” التي ترادوها، وتعزيز سيطرتها على مضيق باب المندب الإستراتيجي الذي يمثل البوابة الأساسية للسيطرة على 12% من التجارة العالمية.
في هذه المنطقة عدة موانئ رئيسة ستسيطر عليها الإمارات واحدًا تلو الآخر، والبداية مع ميناء عدن الذي كان أشهى الموانئ للإماراتيين بسبب موقعه الإستراتيجي، وترى فيه تهديدًا صريحًا لها في مجال المدن اللوجستية، وتعتبره المنافس الأول لمينائيها جبل علي وراشد الإماراتيين.
وفي جزيرة ميون أو بريم جنوب اليمن عند مدخل مضيق باب المندب من الشمال أقامت القوات الإماراتية قاعدة عسكرية لم تستأذن فيها أصحاب الأرض، مستغلة موقعها الإستراتيجي الذي جعلها محط أطماع الغزو الخارجي، منذ أوائل القرن الـ16 على يد البرتغاليين.
أصبحت حكومة أبو ظبي لا تدير تجاريًا فحسب وإنما عسكريًا أيضًا مشهد موانئ اليمن كلها باستثناء ميناء الحديدة الذي يعد أكبر الموانئ اليمنية
الأطماع الإماراتية لم تتوقف هنا، بل شملت عددًا من المواقع الإستراتيجية في الساحل اليمني، لعل أبرزها بلدة “ذباب” القريبة من باب المندب التي تحولت إلى قاعدة عسكرية إماراتية خالصة يتحكمون فيها بالكامل، كذلك تحول ميناء المخا غرب اليمن إلى قاعدة عسكرية لهم محظور على اليمنيين دخولها، وأصبح حكرًا على سفنهم الحربية وإمداداتهم العسكرية.
وفي جزيرة “سقطرى” الساحرة مخطط “احتلال” إماراتي يُستكمل وفقًا لمصادر محلية يمنية قالت إن قوات إماراتية وصلت بشكل مفاجئ إلى مطار جزيرة سقطرى أمس الأربعاء، بلا تنسيق مع الجانب اليمني، وذلك بالتزامن مع زيارة رئيس الحكومة أحمد عبيد بن دغر ووزراء للجزيرة منذ أيام.
وللإمارات وجود في “أبين” اليمنية أيضًا من خلال قوات مكافحة الإرهاب، كما تحكم السيطرة على ميناء البريقة الذي يعد المورد الرئيسي لجميع الإمدادات اللوجستية، بما يشمل السلاح والمواد الإغاثية، وثمة المزيد وراء الأجندة السياسية لتقويض مؤسسات الدولة في اليمن.
وفي محافظة المهرة بوابة اليمن الشرقية، ما زالت الإمارات توسع من نفوذها جنوب شرقي اليمن على الحدود مع سلطنة عُمان، وكانت خدمات الهلال الأحمر الإماراتي في اليمن؛ الغطاء الذي انطلقت تحته الإمارات في المهرة لتتحرك عسكريًا وأمنيًا.
سنحت الفرصة أمام الإمارات لاسترداد ما خسرته بالقوة، فاستولت على موانئ الشحر وبلحاف وذباب والمخا، وهكذا أصبحت حكومة أبو ظبي لا تدير تجاريًا فحسب وإنما عسكريًا أيضًا مشهد موانئ اليمن كلها باستثناء ميناء الحديدة الذي يعد أكبر الموانئ اليمنية، وامتلكت بتدخلها العسكري ما يفوق الأطماع الاقتصادية في اليمن.
ميناء بربرة الصومالي الذي وقعت شركة موانئ دبي اتفاقية لاستغلاله دون علم الحكومة المركزية في مقديشو
الإمارات تشعل حرب الموانئ في البحر الأحمر
بالنظر إلى نشاط أبو ظبي العسكري المتسارع، لا يمكن الوقوف عند حد التوغل في اليمن فحسب، إذ يمضي المخطط الإماراتي في محيط باب المندب بثبات وتنسيق كامل مع حلفائها، ممثلًا في قواعدها اللوجيستية والعسكرية في إريتريا وجيبوتي والصومال.
ويبدأ التوسع الإماراتي من ميناء جبل علي في دبي، أكبر ميناء في الشرق الأوسط، يمتد نطاقه على طول الحافة الجنوبية من الجزيرة العربية حتى القرن الإفريقي وإلى إريتريا (حيث يشارك جنود الإمارات وسربها من قاذفات ميراج في الحرب في اليمن)، واستمرارًا إلى ليماسول وبنغازي في البحر الأبيض المتوسط.
تواصل أبو ظبي “اللعب مع الكبار” فترسل الدعم العسكري إلى الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر
وفي إريتريا أنشأت الإمارات أول قاعدة عسكرية خارج حدودها، وتحديدًا في محيط ميناء عصب الذي تحول إلى قاعدة جوية حديثة وميناء عميق المياه ومنشأة للتدريب العسكري، وفي عام 2014، ألغى رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غيله عقد امتياز الإمارات بالاستثمار في محطة حاويات دوراليه، متهمًا إياها بتقديم الرشاوى للفوز بالصفقة.
وسعيًا لتوسيع وجودها العسكري في أفريقيا، وقعت السلطات في إقليم بونتلاند شبه المستقل اتفاقية مع الإمارات مدتها 30 عامًا لتطوير وإدارة ميناء بوصاصو الإستراتيجي بتكلفة بلغت نحو 336 مليون دولار.
ووراء صفوف من أكواخ الصفيح وأشجار السنط غير المهذبة، تُستَحضر الإمارات عظمة ميناء بربرة الصومالي، المفتاح الحقيقي للبحر الأحمر، ومركز حركة المرور في شرق إفريقيا، بعد أن فقدت مؤخرًا السيطرة عليه، وبعد أن دعم ابن زايد الانفصاليين في الصومال؛ الأمر الذي ساعد على صمود كلٍ من بونتلاند.
وتواصل أبو ظبي “اللعب مع الكبار” فترسل الدعم العسكري إلى الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر، ولإغضاب تركيا، فتحت الإمارات سفارة في قبرص العام الماضي، وتشارك في مناورات عسكرية مع اليونان و”إسرائيل”.
ومع تسارع التوسع، يتساءل المراقبون عما إذا كانت الإمارات عازمة على “السعي لتحقيق النفوذ الإقليمي”، ويعبرون عن قلقهم من مخاطر التوسع وإمكانية الاشتباك مع القوى الأكبر التي يزدحم بها البحر الأحمر، فعلى شواطئها الغربية، تملك “إسرائيل” وفرنسا والولايات المتحدة قواعد كبيرة، وتقوم الصين ببناء ميناء في جيبوتي، ويتطلع الإيرانيون إلى إنشاء قواعدٍ بحريةٍ خاصة بهم على ساحل اليمن الذي يسيطر عليه المتمردون.
تريلر فيلم “أسبرطة الصغيرة” الإماراتي
بين إمارة ابن زايد وأسبرطة ثميستوكوليس
هناك بعض الأسباب التي يمكنها أن تفسر لماذا قد لا تكون المقارنة بين الإمارات وإسبرطة ملائمة، فالعديد في الغرب لا يعرفون أسبرطة اليونانية سوى من خلال فيلم “300” المتوهج، أما الإمارات فقد اكتسبت شهرتها في الداخل والخارج بممارساتها البراغماتية.
وعند المقارنة بين الطرفين، تشير المعطيات التاريخية إلى أن مقاتلي أسبرطة أضعفوا تقدم الإمبراطورية الفارسية، على العكس من ذلك ما تفعله دولة “محتلة” جزرها من الإيرانيين، فهي تتدخل عسكريًا خارج حدودها بداعي السيطرة لا التحرير أو إعادة الشرعية المسلوبة، وفي حين تنشغل الإمارات بمضيق باب المندب تسيطر إيران على مضيق هرمز المجاور لها.
تبدو المفارقة جلية بين المدينة القديمة التي اشتهرت بمحاربيها الشجعان الذين بنوا إمبراطوريتهم الصغيرة على أكتافهم، ودولة وجدت في “المرتزقة” الكنز المفقود
وبينما تغزو الإمارات جزر الآخرين تترك جزرها تحت السيطرة الإيرانية منذ عام 1971، وبتعزيز حضورها العسكري في المحيط الهندي، سيكون الوطن الإماراتي المتمدد واقع ضمن المدى المجدي لصواريخ إيران الباليستسة، لكن ما تحت الطاولة أكبر من مجرد صداقة بين الدولتين.
وفيما تبدو المفارقة جلية بين المدينة القديمة التي اشتهرت بمحاربيها الشجعان الذين بنوا إمبراطوريتهم الصغيرة على أكتافهم، ودولة وجدت في “المرتزقة” الكنز المفقود؛ فسارعت لتوقيع العقود مع الشركات الأمنية سيئة السمعة لتجنيد العساكر للقتال في صفوفهما مقابل المال.
وعلى الرغم من الصورة التي يتبناها عدد من مؤرخي القرن التاسع عشر لدولة كانت حصنًا للحضارة والقيم الغربية، يعتقد بعض المؤرخين أن الانضباط العسكري الذي اشتهرت به أسبرطة كان نتاج مجتمع على أهبة الاستعداد دومًا لقمع شعبه، فقد كانت أسبرطة القديمة مكان بائس كئيب، غالبية المجتمع تتكون من العبيد، كان الخوف من ثورة العبيد هو ما يسود في المدينة، ركزت الحكومات طاقاتها معظم الوقت في قمع هذه الانتفاضات وترويع السكان المستعبدين.
أما الإمارات، فتضم واحدة من أكبر جاليات القوى العاملة المهاجرة في العالم، حيث لا يشكل الإماراتيون أو حاملو الجنسية أكثر من 10% من إجمالي السكان، ومع ذلك يتمتعون بالكثير من الامتيازات بسبب تلك الجنسية، وهو الأمر الموثق بشكل جيد.
وتؤكد منظمات حقوق الإنسان دومًا وبشكل دوري على الظلم والمظالم التي يعاني منها العمال المهاجرون، وحتى العمال المحليين الذين يواجهونها في دول الخليج الغنية، وعلى سبيل المثال، يجعل نظام الكفالة العمال الأجانب أسرى لدى مشغليهم وأصحاب الأعمال، إلى حد أنهم يعملون في ظروف تشبه العبودية لا تختلف كثيرًا عن المشهد اليوناني الذي انتهي بثورة ضد العبودية.
في النهاية دفعت أسبرطة اليونانية المعروفة بـ”الدولة المدينة” التي حافظت على استقلالها عن إمبراطورية أثينا، ثمن ذلك حروبًا دامية، وكان ازدياد ثروة الدولة وتوسع نفوذها الواقعي والمعنوي على ما جاورها من المدن الإغريقية، أحد النتائج المباشرة لعدة حروب خلال تلك الحقبة الزمنية وهو ما أدى بنهاية المطاف إلى زوالها، فما مصير “أسبرطة الجديدة” اليوم؟