كثيرًا ما نسمع عن الحضارات التي تعاقبت على حكم منطقة شمال إفريقيا منذ بداية التاريخ البشري، غير أننا قليلا ما نسمع عن حضارات قامت وازدهرت داخل القارة الإفريقية لابتعادها عن طرق الرحالة والمستكشفين، ووقوعها في مناطق صحراوية يصعب المرور والعيش فيها، فلم تنل نصيبها من الدراسة.
من تلك الحضارات التاريخية، “إمبراطورية غانا” التي قامت في المنطقة الواقعة بين الصحراء الكبرى والساحل الغربي للقارة السمراء، التي أطلق عليها قديما كلّ من الرحالة المغربي ابن بطوطة والمؤرّخ التونسي ابن خلدون اسم “منطقة السودان”، ثمّ سميت باسم “السودان الغربي”.
أقدم حلقات تاريخ غرب إفريقيا
تعتبر إمبراطورية غانا أقدم حلقات تاريخ غرب إفريقيا فهي أول إمبراطورية قامت في السودان الغربي، ويطلق هذا الاسم على البلاد الواقعة جنوب الصحراء، قبل أن تقتصر هذه التسمية على البلاد التي تحدها الصحراء شمالاً ومنطقة الغابات الكثيفة جنوباً والتي تمتد حتى المحيط الأطلسي وتضم البلاد الواقعة غرب بحيرة تشاد.
يرجع بعض الباحثين، أصل كلمة “غانا” إلى كونها لقبا يلقب به ملوك هذه الإمبراطورية، ثم اتسع مدلول هذا اللفظ وأصبح علما على العاصمة وعلى الإمبراطورية. وتعني “غانا” وفقا للغة “السونتك”، القيادة العسكرية ومن هنا أطلقت هذه الكلمة على المدينة التي كانت بها القيادة.
شملت هذه الإمبراطورية في بداية تأسيسها موريتانيا والجزء الشرقي من السنغال، وبعض المناطق من دولي جامي
ويقول البكري في كتابه المغربي في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب “وغانة سمة لملوكهم واسم البلد أو كار“، ويقول ياقوت في معجم البلدان، “غانة كلمة أعجمية لا أعرف لها مشاركا من العربية، وهي مدينة كبيرة في جنوبي بلاد المغرب، متصلة ببلاد السودان”.
فيما يقول القلقشندي في كتابه صبح الأعشى، إن بلاد غانة تقع “غربي صوصو، وتجاور البحر المحيط الغربي، وقاعدته -أي قاعدة هذا الإقليم- مدينة غانة، وهي محل سلطان بلاد غانة، ويقول المقريزي في كتاب الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الاسلام، “ومدينة غانة محل سلطان بلاد غانة”.
حدودها الجغرافية
شملت هذه الإمبراطورية في بداية تأسيسها موريتانيا والجزء الشرقي من السنغال، وبعض المناطق من دولي جامي، حيث تكونت في تلك الأقاليم الواقعة بين نهر السنغال ونهر النيجر، وبعد عقود من التأسيس عرفت هذه الإمبراطورية توسعات كبرى، وقد أشار البكري في كتابه المغربي في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب، “أن حدود مملكة غانا الشمالية الغربية كانت تمتد حتى حدود مدينة سلي على نهر السنغال وبينها وبين مدينة غانا مسيرة عشرين يوما في عمارة السودان القبلية“.
ويختلف المؤرخون في تحديد تاريخ تأسيس الإمبراطورية، ذلك أن البعض منهم يقول إنها ظهرت في القرن الأول ميلادي، فيما يقول أخرون إنها ظهرت في القرن الرابع ميلادي، بينما يذهب أخرون إلى أبعد من ذلك مؤكّدين أنها ظهرت في القرن الخامس ميلادي، ويعود هذا الاختلاف إلى عدم اهتمام سكان تلك المنطقة بالتدوين.
قبائل السوننك
رغم اختلاف المؤرخين في أصل سكان إمبراطورية غانا، فإن معظمهم يؤكّدون أن قبائل السوننك، هي أهم القبائل التي كونت أغلب سكان الإمبراطورية، وتعتبر قبائل السوننك، من فروع الماند الأساسية، أي من مجموع الشعوب أو القبائل المتكلمة بلغة الماند، وتنفرد مجموعة السونتك عن بقية فروع الماند الأخرى، بصفات جثمانية خاصة، وتقاليد اجتماعية معينة، وفقا لمصادر تاريخية متعدّدة.
وتقول بعض كتب التاريخ، إن قبائل السوننك كانوا يقيمون في الصحراء، ثم تركزوا بعد ذلك على حافتها الجنوبية، فيما اشتهر باسم “الساحل” وامتزجوا بالبربر والفولانين، وهم زراع مرتبطون بالأرض، غير أن هذا لم يحل دون عملهم في التجارة.
يعرف السوننك عند سكان المغرب باسم “أسوانك”
وتضم مجموعة السوننك فروعاً مختلفة، اشتهرت بأسماء متنوعة، تبعاً للأماكن التي قامت بها، أو تبعا لأسماء العشائر التي برزت من بينها، أو بحسب تسمية جيرانهم لهم. فقبائل البامبارا، وهي فروع من الماندنجو، تطلق على السوننك المقيمين في منطقة منحنى النيجر، اسم ماركا أو ماركنك ويعرف السوننك في ديا غربي ماسنه على النيجر باسم ديا كانك نسبة إلى محل إقامتهم.
كذلك يعرف السوننك عند سكان المغرب باسم “أسوانك” واشتهرت هذه التسمية على فريق من السوننك يقيم جنوبي نهر النيجر، ونسب المقيمون منهم في مدينة طوبي إليها، وهذه تسمية عربية إسلامية، انتقلت إلى غرب إفريقيا، ولذلك فهم يعرفون باسم الطوباكي.
وفي مدينة جنى اشتهر السوننك باسم نونو نسبة إلى اسم أول عشيرة سوننكية هاجرت إلى جني، أما المجموعات القليلة التي بقيت في الصحراء فاشتهرت باسم الأزير. فيما استعمل الفولانيون والهوسا والصنغي، تسمية أخرى، أطلقها على السوننك وهي: أنجرا أو نقاره، أو وعكري.
الذهب مصدر رزقهم
استمدّت إمبراطورية غانا قوتها من سيطرتها على مسالك التجارة وعلى رأسها تجارة الذهب، وكانت تجارة الذهب مصدر ربح كبير للإمبراطورية، حيث تحكمت في طرق المناجم بالإضافة إلى أن البلاد كانت تضم بعضا من هذه المناجم.
ولعب تجار الإمبراطورية دور الوسيط بين منتجي الذهب في الجنوب وبين العرب في الشمال، ويحصل تجار المغرب على الذهب من منتجيه في أعالي السنغال عن طريق ما اصطلح على تسميته بالتجارة الصامتة، فكان التجار المغاربة يأتون بسلعهم من الملح ويذهبون إلى كومبي صالح عاصمة الإمبراطورية، وفيها يجدون زملائهم وعملاءهم الغانيين في انتظارهم، فيخرج الجميع نحو أعالي السنغال في أماكن معلومة، حيث يضرب التجار بطبولهم إعلاناً عن وصولهم بالبضائع.