تحولات سريعة ومذهلة تشهدها الساحة الإثيوبية على الصُعُد كافة بعد انتخاب آبي أحمد رئيسًا للوزراء في أواخر مارس/آذار الماضي، إذ استهل فترة حكمه بجولاتٍ داخلية وخارجية هدفت في مجملها إلى طمأنة الجماهير واستعادة السلام داخليًا، إلى جانب تجديد الشراكة مع دول الجوار ودولٍ في الشرق الأوسط.
وتأتي التغيرات التي تبناها رئيس الحكومة الإثيوبية الجديد في وقتٍ تشهد فيه المنطقة توترًا واستقطابًا إقليميًا مستمرًا منذ ما يزيد على عام على وقع الأزمة الخليجية التي اندلعت في 5 من يونيو/حزيران 2017، بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من الجهة المقابلة.
قرارات جريئة وغير مسبوقة
اتخذ آبي أحمد قرارات جريئة أثبتت أنه يسعى لتحويل تصريحاته التي جاءت في خطاب التنصيب إلى واقع ملموس، كقبول الحكومة الإثيوبية تنفيذ اتفاق الجزائر لحل النزاع مع إريتريا وهو ما يعني تلقائيًا التنازل للأخيرة عن بلدة “بادمي” رغم التبعات التي قد تحدث نتيجة القرار خصوصًا وسط قومية “التقراي” حيث تقع المنطقة داخل أراضيهم “شمال إثيوبيا”.
تباينت ردود الفعل في التعليق على خطوات آبي أحمد، فبعض المراقبين يرون أن سياسة رئيس الوزراء الجديد ترمي إلى “تصفير” المشاكل السياسية لبلاده مع دول الجوار حتى يتم التفرغ للتنمية والإصلاحات الاقتصادية التى وعد بها الشعب الإثيوبي فور أدائه اليمين الدستورية أمام أعضاء البرلمان.
وجد قرار خصخصة المؤسسات الإثيوبية وفتح المجال للاستثمار فيها استحسانًا من مراقبين اقتصاديين
لكنّ البعض الآخر يعتقد أنه كان على رئيس الحكومة التأنِّي وعدم الاستعجال في اتخاذ القرارات السياسية مثل ترسيم الحدود مع إريتريا إلى جانب اتخاذه – بموافقة الائتلاف الحاكم ـ قرارًا آخر لا يقل خطورة وهو السماح بطرح أسهم العديد من المؤسسات الحكومية للبيع بواسطة المستثمرين المحليين أو الأجانب.
وهي خطوة غير مسبوقة جاءت مفاجِئة لجميع المهتمين بالشأن الإثيوبي لأن حكومة أديس أبابا كانت تتشدد في طرح أسهم المؤسسات العامة للجمهور ولا تسمح لجهاتٍ أجنبية بالاستثمار فيها، فالخطوط الجوية الإثيوبية هي شركة النقل الجوي الوحيدة التي تعمل في البلاد وشركة Ethio Telecom المشغل الوحيد للهاتف السيار في إثيوبيا التي يبلغ عدد سكانها نحو 102 مليون نسمة، وكذلك الحال بالنسبة لقطاعات المصارف والسكة حديد وصناعة السكر والطاقة الكهربائية.
تحفظات على خصخصة الطيران
وجد قرار خصخصة المؤسسات الإثيوبية وفتح المجال للاستثمار فيها استحسانًا من مراقبين اقتصاديين، إذ يرى الخبير السوداني هيثم محمد فتحي في إفادةٍ لـ”نون بوست”، أن طرح حصص من شركات القطاع العام للبيع يحقق إيجابيات طويلة الأجل من بينها إعادة تنشيط البورصة الإثيوبية بخلق كيانات عملاقة تعمل على جذب استثمارات خارجية كبرى.
لكن فتحي رهن في الوقت نفسه، نجاح الخطوة بمدى وجود خطة ناجحة للاستفادة من الأموال التي توفرها العملية لإعادة هيكلة وتطوير الشركات للمنافسة في سوق العمل، بالإضافة إلى وضع سعر عادل للأسهم، داعيًا الحكومة الإثيوبية إلى طرح تلك الشركات في البورصات العالمية.
يؤمل أن يجد قرار خصخصة قطاع الاتصالات في إثيوبيا تأييدًا كبيرًا نسبة لاستحواذ مشغل واحد هو شركة Ethio Telecom على السوق الإثيوبية الواعدة التي تضم أكثر من 100 مليون نسمة
نشطاء إثيوبيون على مواقع التواصل تخوفوا من تبعات بيع أسهم الشركات الناجحة، لافتين في هذا الصدد إلى ما ألمّ بدول الجوار التي خصخصت مؤسساتها العامة، وتحسروا على الخطوط الجوية الإثيوبية التي حققت نجاحات متتالية على مدى السنوات الماضية وضعتها في خانة أكبر شركات الطيران على مستوى العالم.
حيث من المقرر أن تحتفل في يوليو/تمّوز القادم بتسلم الطائرة رقم 100 لتصبح أول ناقلة إفريقية يصل أسطولها إلى هذا العدد من الطائرات ذات السعات العريضة، وعلى الرغم من تخوفات الشباب الإثيوبي على الناقل الوطني، فإن قرار الخصخصة والسماح للمستثمر الأجنبي بالدخول في مجال الطيران سينهي احتكار الخطوط الإثيوبية لحركة الطيران داخل البلاد على الأقل، إذ إن الشركة تُسيِّر ما لا يقل عن 100 رحلة داخلية يوميًا بين مدن البلاد التي يوجد بها 22 مطارًا داخليًا بعضها يدخل في التصنيف الدولي مثل مطار بحر دار غربي البلاد، مما سيوفر للمسافرين خيارات أقل تكلفة ويعزز التنافسية بعد دخول شركات أخرى أجنبية أو محلية مجال النقل الجوي في إثيوبيا.
قطاع الاتصالات.. تأييد كامل للخصخصة
يؤمل أن يجد قرار خصخصة قطاع الاتصالات في إثيوبيا تأييدًا كبيرًا نسبة لاستحواذ مشغل واحد هو شركة Ethio Telecom على السوق الإثيوبية الواعدة التي تضم أكثر من 100 مليون نسمة، فهي تمتلك رخصة موحدة لإدارة كل خدمات الاتصالات (هاتف ثابت ومحمول وإنترنت)؛ ما انعكس سلبًا على أدائها لانعدام المنافسة وعدم وجود بديل أمام المواطنين والمستثمرين والسياح، فالكل هناك يشتكى من رداءة الاتصال الصوتي وضعف شبكة الإنترنت وقطعها أحيانًا دون سابق إنذار.
مبنى شركة إثيو تيليكوم
ويبدو أن الحكومة الإثيوبية تعرّفت على حجم الانتقادات الموجهة لقطاع الاتصالات فرأت أن تعطي الأولوية للمستثمرين بالدخول في القطاع سواء عن طريق شراء أسهم في الشركة المحتكرة أو بدخول مشغلات جديدة، فالسوق الإثيوبية واعدة كما ذكرنا ويمكنها استيعاب 4 أو 5 شركات اتصال جديدة بارتياح.
وكنّا قد تنبأنا في مقالٍ سابق بضرورة أن تفتح حكومة أديس أبابا المجال لشركات عالمية في قطاع الاتصالات من أجل راحة السكان وجذب المزيد من الاستثمارات وتنشيط السياحة فما إن يصل الزائر إلى إثيوبيا إلا ويفاجأ بتخلف الاتصالات مقارنة بالنهضة الشاملة التي تشهدها البلاد.
وفور الإعلان الإثيوبي موافقة الائتلاف الحاكم على خصخصة قطاع الاتصالات، سارعت شركتا “إم تي إن” و”فوداكوم” من خلال ممثلَيْن للقول إنهما مهتمتان باستكشاف فكرة شراء حصة في شركة “إثيو تليكوم” بعد إعلان الحكومة السماح بذلك.
وقالت متحدثة باسم “إم تي إن” إن الشركة متحمسة تجاه الانفتاح المحتمل للسوق الإثيوبية إذ إنها ستكون فرصة مواتية لتوسع بصمة “إم تي إن” الإفريقية الحاليّة.
على الحكومة إعطاء أولوية لخصخصة قطاع المصارف والبنوك والسماح للأفراد والمؤسسات المالية بفتح شركات مالية خاصة واستثمار أموالهم داخل القطاع لتحفيز النمو وحل مشكلة النقد الأجنبي التي تعاني منها إثيوبيا
البنوك والمصارف.. قطاع ينتظر الخصخصة والسماح بالاستثمار الأجنبي
ظلّت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة تفرض قيودًا على قطاع المصارف والأنظمة المالية بشكلٍ عام، إذ لا تسمح للأجانب بالاستثمار في القطاع المالي وتقصره فقط على المواطنين الإثيوبيين أو من لديهم أصول إثيوبية، بل إن الحكومة تتبنى سياسة دعم البنوك المملوكة للدولة أو التي تساهم فيها بنسبة كبيرة.
والزائر كذلك لإثيوبيا يلاحظ عدم وجود صرافات خاصة Exchanges حيث توجد البنوك فقط وأهمها البنك التجاري الإثيوبي المملوك للدولة الذي تنتشر فروعه في أغلب المناطق الحيوية بالعاصمة أديس أبابا والمدن الأخرى، كما يعاني المستثمرون من صعوبة تحويل أرباحهم وإرسال الأموال بصورة عامة خارج البلاد.
لذلك نعتقد أنه كان على الحكومة إعطاء أولوية لخصخصة قطاع المصارف والبنوك والسماح للأفراد والمؤسسات المالية بفتح شركات مالية خاصة واستثمار أموالهم داخل القطاع لتحفيز النمو وحل مشكلة النقد الأجنبي التي تعاني منها إثيوبيا.
المبنى الجديد للبنك التجاري الإثيوبي (قيد التنفيذ)
ماذا عن الأزمة الخليجية والتحولات الإثيوبية؟
ليس من المستبعد أن تستغل أطراف الأزمة الخليجية التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة الإثيوبية خاصة في المجال الاقتصادي لاقتناص الفرص التي جاءت دون سابق إنذار.
فربما تتنافس شركتا الخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات من أجل شراء حصة في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية التي تسجل نجاحًا مطردًا ونموًا تمكنت معه من السيطرة على أجواء القارة السمراء بصورة شبه كاملة.
وللخطوط القطرية خبرة جيّدة في هذا المجال حيث استحوذت قبل شهرين على حصة في “جيت سويت” الأمريكية، والعام الماضي تمكنت من الاستحواذ على نصيبٍ آخر في شركة “كاثي باسيفيك” التي يقع مقرها في هونغ كونغ.
كما قد تحاول شركات اتصالات سعودية وقطرية وإماراتية الدخول في مجال الاتصالات من أجل تنويع الاستثمارات ومحاولة خلق نفوذ وقوة ناعمة في إثيوبيا التي توصف بالبطاقة الرابحة والنجمة المضيئة في سماء القارة السمراء.
سيشكل احتفاظ الحكومة بالنصيب الأكبر في مؤسسات القطاع العام حماية وضمانًا لها من الضياع وتدمير الشركات الوطنية، مع بعض التحفظات على خصخصة الخطوط الجوية الإثيوبية التي تسجل نجاحًا مطردًا باستمرار
ونعتقد أن تحرك إثيوبيا نحو الخصخصة قد يكون ضرورة لا بد منها رغم قسوتها ـ بعد سنوات من استمرار النقص الحاد في العملات الأجنبية وفرض القيود على تحويل الأموال ـ فقد حثّ صندوق النقد الدولي الحكومة الإثيوبية بداية العام الحاليّ على فتح المجال للمستثمرين في معظم القطاعات لحل أزمة النقد الأجنبي.
أيًا كان رأي الناس في السياسات الإصلاحية التي اتخذتها حكومة آبي أحمد علي، فإنها تشكل خطوة شجاعة غير مسبوقة نحو إدماج الاقتصاد الإثيوبي في الاقتصاد الدولي، وسيشكل احتفاظ الحكومة بالنصيب الأكبر في مؤسسات القطاع العام حماية وضمانًا لها من الضياع وتدمير الشركات الوطنية، مع بعض التحفظات على خصخصة الخطوط الجوية الإثيوبية التي تسجل نجاحًا مطردًا باستمرار.