يختلف بعض أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” وشركاؤها فيما يُعرف بتحالف “أوبك+” كثيرًا من الناحية السياسية، لكنهم اجتمعوا أخيرًا على زيادة إنتاج النفط خوفًا من التأثيرات السلبية على الاقتصاد العالمي، فالنفط والسياسة توأمان يصعب فصلهما، خاصة في المراحل المفصلية في تاريخ صناعة النفط العالمية.
النفط بين حسابات السياسة والاقتصاد
البداية كانت بتفاهم سعودي إماراتي إيراني في إطار منظمة “أوبك”، ثم امتد “الاتفاق” إلى الدول المنتجة للنفط من خارج هذه المنظمة (أوبك+)، حيث اقترحت روسيا – غير العضو في أوبك – زيادة الإنتاج بـ1.5 مليون برميل يوميًا، وذلك بعد أن حذر مستهلكون كبار من نقص في المعروض.
الزيادة المقررة بواقع مليون برميل شهريًا اعتبارًا من بداية شهر يوليو/تموز القادم، أي ما يعادل 1% من الإنتاج العالمي، تأتي بعد أن غرد الرئيس الأمريكي معبرًا عن أمله بأن تزيد “أوبك” الإنتاج بشكل كبير للإبقاء على أسعار النفط منخفضة، لكن إيران كانت العقبة الرئيسية أمام إبرام صفقة جديدة، حيث قالت إنه من المستبعد أن تتوصل أوبك إلى اتفاق، وإنها ينبغي أن ترفض ضغوط الرئيس الأمريكي لضخ مزيد من النفط.
الحرب التجارية الدائرة بين أمريكا والصين خير دليل على لعبة النفط
آمال ترامب شاركه فيها خصومه الصينيون وكذلك الهند، ورأوا أن زيادة الإنتاج تحول دون زيادة العرض بما ينعكس سلبًا على الاقتصاد العالمي، ودعوا معًا لتهدئة أسعار الخام والحيلولة دون حدوث نقص يضر بالاقتصاد العالمي، ومن المقرر أن يجتمعوا مجددًا في سبتمبر/أيلول المقبل لمراجعة الاتفاق.
ويأتي اجتماع المنظمة في فيينا ليضع النفط بين حسابات السياسة والاقتصاد، فالحرب التجارية الدائرة بين أمريكا والصين خير دليل على لعبة النفط، ففي الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الأمريكي إغلاق أبواب لحروب نووية مخافة أن تقع، فإنه يفتح الباب واسعًا أمام حروب جديدة، السلاح فيها ليس الصاروخ أو القنبلة بل الدولار واليوان، فقد هددت الصين بأنها سوف تطال قطاع النفط الأمريكي، حيث إن صادرات النفط الأمريكية للصين نحو 14 مليون برميل شهريًا.
يُضاف إلى تلك المخاوف الأمريكية من “التنين الصيني” الوضع الاقتصادي في الصين باعتبارها لاعبًا خفيًا داخل سوق النفط
يُضاف إلى تلك المخاوف الأمريكية من “التنين الصيني” الوضع الاقتصادي في الصين باعتبارها لاعبًا خفيًا داخل سوق النفط، وهي مرتبطة بإيران وأمريكا، فمعدل النمو في الصين يجاوز الـ7%، ما يشكل هاجسًا خطيرًا بالنسبة للولايات المتحدة، لا يتم قراءته داخل أروقة أوبك لكن على مستوى صناعة القرار الأمريكي، ولـ”أوبك” التي تأسست في 1960 تاريخ من تنسيق السياسة النفطية رغم اختلاف وجهات النظر بل وحتى الحروب بين بعض أعضائها على مر السنين.
وتنتج حاليًّا الدول الأعضاء في أوبك التي يبلغ عددها 14 دولة إلى جانب الدول غير الأعضاء فيها ويبلغ عددها 10 دول، كميات من النفط أقل مما اتُفق عليه في أواخر عام 2016، ويرجع السبب في ذلك إلى الأزمة السياسية التي تمر بها كل من فنزويلا وليبيا، بينما تستعد إيران لمواجهة آثار تجدد العقوبات الأمريكية عليها.
السعودية وإيران.. عملاقا النفط اللدودان على طاولة أوبك
تحتاج أوبك نظريًا إلى موافقة جميع الأعضاء من أجل إبرام اتفاق، لكنها في الماضي أقرت اتفاقات دون إيران التي انتقدت فكرة زيادة الإمدادات لأن ارتفاع الأسعار يصب في مصلحة الدولة التي تعتمد إلى حد كبير على إيرادات النفط.
هذه المرة جاء الاتفاق بعدما تمكنت السعودية – أكبر منتج للنفط في المنظمة – من إقناع إيران – ثالث أكبر منتج في “أوبك” – بالتعاون، حيث التقى وزير النفط السعودي خالد الفاتح بنظيره الإيراني بيجن زنغنه على هامش اجتماع أوبك، ووُصف الاجتماع إيرانيًا بـ”الجيد والبناء”.
وزير الطاقة السعودي خالد الفالح خلال اجتماع أوبك
وقال وزير النفط الإيراني في تصريحات للصحفيين بعد اجتماع مع وزير الطاقة السعودي: “ستكون هناك تسوية بيننا وبين السعودية والإمارات لإدارة السوق بحيث لا تواجه إيران أي صعوبات وحتى لا نبعث بإشارات خاطئة إلى سوق النفط العالمية”.
جمعت أولويات الطاقة إذًا خصوم السياسة الألداء، رغم أن إيران كانت العقبة الرئيسية حتى الآن أمام إبرام صفقة جديدة، وقد حضت طهران “أوبك” على رفض طلب الرئيس الأمريكي بزيادة الإنتاج، بدعوى أنه ساهم في ارتفاع الأسعار في الفترة الأخيرة بفرض عقوبات على إيران وفنزويلا.
هذه العقوبات لم تمكن الدولتين من مجاراة الزيادة والاستفادة منها، كما لن يُسمح للدول النفطية وفق الاتفاق الأخير بتعويض عجز تلك الدول، كما أنه من المرجح تراجع إنتاج إيران في النصف الثاني من العام الحاليّ بسبب عقوبات أمريكية جديدة، وهو ما دفع مراقبين لتوقع أن تكون الزيادة الفعلية دون حاجز المليون برميل المقررة.
وحسبما قال العراق فإن الزيادة الحقيقية ستكون نحو 770 ألف برميل يوميًا فقط، لأن بضع الدول عانت مؤخرًا من تراجعات في الإنتاج وستجد صعوبة في الوصول إلى الحصص الكاملة المخصصة لها، في حين قد لا يكون بمقدور منتجين آخرين سد الفجوة.
لعل ما دفع الجانب الإيراني للموافقة – بعد رفضه لأي زيادة في إنتاج النفط – تلك الضغوط الاقتصادية التي أعقبت خروج أمريكا من الاتفاق النووي
لكن المفاوضات العسيرة التي أدت للاتفاق الأخير تدفع للتساؤل عما ألان المواقف في اللحظات الأخيرة بين السعودية وعدوتها اللدودة إيران، خاصة بالنظر إلى كون القرار جاء تلبية لتغريدات ترامب التي علَّق عليها وزير النفط الروسي بالقول إن تحالف “أوبك+” يتخد قرارات المعروض النفطي بناءً على تحليلات السوق وليس تغريدات الرئيس الأمريكي.
لعل ما دفع الجانب الإيراني للموافقة – بعد رفضه لأي زيادة في إنتاج النفط – تلك الضغوط الاقتصادية التي أعقبت خروج أمريكا من الاتفاق النووي، إضافة إلى استمرار العقوبات وخروج الكثير من الشركات الأوروبية الكبيرة، كشركات فرنسية من قبيل “توتال” أو شركات أخرى مرتبط بالنفط منها قطاع السيارت كشركة “بيجو”، فلم يعد أمام إيران خيارات.
قد يبدو واضحًا موقف إيران التي تواجه تأثيرات تجدد العقوبات الأمريكية على صادراتها من النفط، لكن الموقف السعودي الإماراتي يبدو غريبًا، فالسعودية لديها حاجة كبيرة باتجاه رفع أسعار النفط، لأن مجموعة من المشاريع العملاقة مرتبطة بتلك الأسعار، لكن محللين يرون أنها غير مستفيدة من زيادة إنتاج النفط، لأنه لن يزحزح “رؤية 2030” ويعيق الاستفادة من عائدات النفط في مشاريع أخرى تخص قطاعات كالسياحة والصناعة.
هنا يتدخل العامل السياسي بشكل كبير، فترامب أبدى انزعاجه بشكل واضح خلال الفترة السابقة، سواء على المستوى الإعلامي أم من خلال تصريحات مباشرة قال فيها إنه يجب على حلفاء أمريكا، والمقصود السعودية، أن تغير من سياستها تجاه مُنظمة “أوبك”، على الرغم مما يُروج داخل المنظمة – خاصة من طرف السعودية وروسيا – أن الهدف ليس الرفع من أسعار النفط ولكن محاولة لتصحيح وضبط سوق النفط.
القرار في النهاية يبدو أنه وافق هوى واشنطن
من المستفيد الأكبر من زيادة إنتاج النفط؟
يبدو أن القرار في النهاية وافق هوى واشنطن التي يُفترض أنها تعتمد منذ فترة على النفط الصخري الذي شهد إنتاجه مؤخرًا تراجعات، ما دفعها لإعادة الاهتمام بـ”أوبك” وصادراتها.
ويرى مراقبون أن هذا القرار فرضته واشنطن على دول أوبك وخاصة السعودية، فالحلف السعودي الروسي كان مزعجًا لأمريكا، وليس أدل من ذلك تغريدة ترامب الشهيرة إبان اجتماع جدة التي كانت بمثابة “جرس إنذار” للدولتين وبقية دول “أوبك”.
يُضاف إلى ذلك تغييرات بانضمام متوقع لروسيا للمنظمة باعتبارها أحد أهم المنتجين، فقد دعت “أوبك” روسيا للانضمام إلى المنظمة بصفة مراقب، وهو ما يمثل مخاطر جيوسياسية على أمريكا، الأمر الذي دعا لتدخل السياسة في الحقل الاقتصادي.
وكانت “أوبك” قد اتفقت مع دول منتجة خارج المنظمة على خفض الإنتاج منذ العام الماضي بنسبة 1.8 مليون برميل يوميًا، واستطاعت بذلك أن تعيد التوازن إلى الأسواق الدولية في الـ18 أشهر الأخيرة، فرفعت سعر البرميل إلى 75 دولارًا، مقابل 27 دولارًا عام 2016.
يبدو الاتفاق وكأنه يمنح بلدًا كالسعودية الفرصة لتنتج فوق حصتها السابقة في “أوبك”
وبموجب القرار الأخير تطلب أوبك من أعضائها النظر في حجم الإنتاج بشكل شامل بدلاً من تحديد أهداف لكل بلد، ما يمهد الطريق لإعادة توزيع الحصص من بلد إلى آخر، لكن تعطيلات إنتاج غير متوقعة في فنزويلا وليبيا وأنغولا قلصت الإمدادات بنحو 2.8 مليون برميل يوميًا في الأشهر الأخيرة.
بدا هذا وكأنه يمنح بلدًا كالسعودية الفرصة لتنتج فوق حصتها السابقة في “أوبك” لتسد الفجوة لدى دول مثل فنزويلا التي لا تستطيع الضخ بما يكفي للوصول إلى حصته الرسمية، وهو ما حذرت منه إيران.
وعلى الرغم من قرار أوبك بزيادة متواضعة في الإنتاج للتعويض عن خسائر في الإمدادات في وقت يتزايد فيه الطلب، فقد قفزت أسعار النفط العالمية بنحو ثلاثة دولارات في ختام تعاملات أمس، إذ إن الأسواق رأت أن الزيادة المقررة في الإنتاج ليست كبيرة بالدرجة التي تؤثر على حساباتها.
ورغم أن انخفاض أسعار النفط – إن حدث – مرتبط بهذا القرار، فإن الاستقرار مرتبط بعوامل سياسية، فهناك الأوضاع السياسية والاجتماعية في فنزولا، وهناك آثار لخروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وأيضًا الأوضاع السياسية المعقدة في الشرق الأوسط، فهل يستمر توافق “أوبك” وحلفائها أن يتواصل انفلات سعر برميل النفط على وقع انخفاض الإنتاج الراهن لو انهار الاتفاق؟
لقد أصبح النفط محورًا للسياسة العالمية، ومن ثم يجب إعادة النظر فيما يحدث في منطقة الشرق الأوسط على ضوء هذه الحقيقة، ليتسنى فهم العلاقات الثنائية والإقليمية، فلم يعد خافيًا اهتمام أمريكا بحربها في العراق على حساب موقفها في أفغانستان، والحكمة الأمريكية في التعامل مع النووي الإيراني، والمساعدة بكل قوة في القتال الدائر بالصومال، والانفتاح العسكري الأمريكي العاجل على إفريقيا، والوجود العسكري المباشر في الخليج، إنما هو من أجل عيون النفط وليس مصالح دولة من المفروض أن تعيد النظر في سياساتها، وأن تستفيد أيضًا من نفطها لتحقق مصالحها.