عندما تفكّر في إسطنبول، ماذا قد يخطر على بالك، بعيدًا عن البسفور وغلاطة والسلطان أحمد وتقسيم؟ ألا تفكّر أيضًا بالكباب أو الشاورما أو البقلاوة والحلقوم وغيرها من الأطعمة والمأكولات التي لا تعدّ ولا تُحصى؟ ولو قلتُ لك تخيّل نفسك في إيطاليا، ألا يتبادر إلى ذهنكَ سريعًا البيتزا والمعكرونة بأصنافها ومذاقتها المختلفة؟ أمّا حين حديثنا عن بلاد الشام فلا بدّ أنّ الفلافل والحمّص سيكونان حاضرين دائمًا، أليس كذلك؟ أما حين يتعلّق الأمر بالهند فالبهارات ستكون أول ما يخطر على بالك.
تشتهر مدينة أضنة التركية بكبابها المميز الذي يقصده السياح لتجربته
إذن فلا بدّ أنّنا لن نختلف عن أنّ الطعام والسياحة أو السفر يعدّان مترابطين جدًا بحيث لا نخطئ إنّ قلنا أنّ السفر من دون تجربة الطعام المحلّي للبلد الذي تزوره سيكون تجربةً ناقصة على مدىً واسع جدًا. فبمجرّد تجريبك لأكل المكان الذي أنتَ فيه، سواء أعجبك أم لم يعجبك، فأنتَ بذلك تكون قد شكّلت رابطةً وكوّنت علاقةً أكثر قوة بذلك المكان وسكّانه.
الطعام والثقافة: ثنائية متلازمة
ثمة نظرية بسيطة يتداولها الدارسون لأنثروبولوجيا الإنسان تقترح أنّ “الذكاء البشريّ” لم يكن هو الحلقة التي تميز عن الإنسان عن غيره من المخلوقات، وإنما قدرته على التحكم في النار وطهي طعامه هما ما سمحا له بالتطوّر من مخلوقٍ بدائيّ إلى مخلوقٍ أكثر تطورًّا يمتلك القدرة على إنشاء المجتمعات والحضارات. وبالتالي، يمكننا القول أنّ الطعام يشكّل المجتمع والثقافة التي يعبّر عنها وتعتبر جزءًا أساسيًّا من هوية أفراده ومرآةً تعكس تاريخه الممتد إلى آلاف السنين. فماذا نأكل وكيف نصنعه وكيف نقدّم كلّ طبق وماذا نُطعم أصدقاءنا وضيوفنا وغيرها من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بأسلوبٍ حياتنا الطعاميّ اليوميّ، جميعها تصطف جنبًا إلى جنب عاكسةً جزءًا من هوية الأفراد وجماعاتهم الأصيلة.
كما يعمل الطعام على ربطنا بالأرض وتراثها وثقافتها وتاريخها، لذلك لا عجب أنّ وجبةَ طعامٍ واحدة قد تعمل عمل كتابٍ يأخذنا في رحلةٍ معرفية عن تاريخها وأصلها وأناسها وما يتعلّق بهم من جوانب حياتية عديدة. لهذا نشأت في السنوات الأخيرة ما يمكن تسميتها بمصطلح “سياحة الطعام” أو “سياحة الطهي” أو “سياحة التذوّق”.
سياحة الطعام” هي السعي وراء الاستمتاع بتجارب الأكل والشرب الفريدة والمميزة في كلّ منطقةٍ جغرافية أو بلدٍ في العالم سواء محليًّا أو دوليًّا
ما هي سياحة الطعام؟
يمكن تعريف “سياحة الطعام” باختصار بأنها السعي وراء الاستمتاع بتجارب الأكل والشرب الفريدة والمميزة في كلّ منطقةٍ جغرافية أو بلدٍ في العالم سواء محليًّا أو دوليًّا. وتأتي فكرة هذه السياحة استنادًا إلى الفكرة التي تنظر للمطبخ على أنه أحد الجوانب الثقافية للأفراد والجماعات، وبوصفه طريقة فعّالة وديناميكية لتبادل القصص والاتصال بالتاريخ وتشكيل العلاقات وبناء المجتمعات. فالطعام في نهاية المطاف هو أحد العناصر الرئيسية لثقافة أي دولة وهويتها، إلى جانب تاريخها ورموزها وأساطيرها وحادثها.
يمكن لسياحة الطعام أنْ تُبنى على جانبين؛ أن يستكشف الفرد المسافر الطعام الجديد في المكان بعد سفره إليه، أو أنْ يستخدم الطعام كوسيلة لتحديد سفرياته واستكشاف الثقافات التي يرغب في استكشافها، وتتضمن تلك الاستكشافات العديد من السلوكيات المرتبطة بالطعام والتي تعكس نطاقًا واسعًا من الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية إضافةً للتفضيلات الفردية للشعوب والأفراد.
تأتي فكرة هذه السياحة استنادًا إلى الفكرة التي تنظر للمطبخ على أنه أحد الجوانب الثقافية للأفراد والجماعات
ووفقًا لمنظمة السفر الغذائية العالمية، فإنّ نسبةً كبيرة من الرحّالة أو المسافرين يميلون لاختيار وجهاتهم استنادًا للمطبخ أو الطعام، وغالبًا ما تتضمّن جولاتهم دروسًا في الطهي أو تذوق المشروبات أو أنشطة أخرى متعلقة بالطعام مثل زيارة الأرياف والمزارع لاستكشاف عملية الطهي من ألفها إلى يائها، الأمر الذي يشي بأنّ ثمّة علاقة متطورة ومميزة بين مسافري هذا الجيل والطعام، حيث أنّ المسافرين باتوا يريدون تغذية أصيلة بمعرفة كيفية إنتاج الطعام الذي يتذوقونه وبرغبتهم بإيجاد تجربة مشتركة بينهم وبين ذلك الطعام، لدرجة أنّ الكثيرين قد يبخلون على أنفسهم بأماكن السكن والبيات، لكنهم لا يفعلون ذلك حين يتعلّق الأمر بالطعام.
وبالتالي، تعود سياحة الطعام بالفائدة والتأثير الإيجابي على الاقتصاد والعمالة والتراث المحلي، حيث يسعى السياح إلى التعرف ليس فقط على المأكولات المحلية ولكن أيضًا لمعرفة منشأها ومراحل عمليات إنتاجها. كما يساعد هذا النوع من السياحة على زيادة التنوع الاقتصادي الريفي، لا سيما في المناطق النائية التي قد يتجاهلها الزوار بشكلٍ عام.
سياح أجانب يشاركون عائلة ماليزية طعامهم المحليّ
ومن جانبٍ آخر، تشجّع سياحة الطعام المدنَ على التواصل مع الجذور الريفية والقروية، وتضيف قيمةً كبيرة لتجربة السيّاح من خلال ربط المنتِجين والطهاة معًا، وخلق تجارب جديدة لا تنسى تمكّن الزائر من رؤية المكان أو المنطقة بكافة حواسه المتنوعة. وعلى عكس أنشطة السفر والجذب السياحي الأخرى، تتوفر المأكولات على مدار العام وفي أي وقت من اليوم وفي أي طقس، ما يعطيها أهميةَ كبيرة لا تقتصر على فصلٍ أو موسم، فقد تنتظر الصيف لزيارة أحد الشطآن والشتاء لزيارة أحد الجبال الثلجية، لكنّك حتمًا تستطيع تذوّق وتجربة أيّ نوعٍ من الطعام في أيّ وقتٍ شئته وأردته دون أنْ تهتمّ لأيّ عاملٍ آخر من حولك.
تشجّع سياحة الطعام المدنَ على التواصل مع الجذور الريفية والقروية، وتضيف قيمةً كبيرة لتجربة السيّاح من خلال ربط المنتِجين والطهاة معًا
وعلى عكس الأنشطة السياحية الأخرى أيضًا، فالجميع يحبّ الأكل، أو فالجميع يحتاج أنْ يأكل، فتجوالك لعدة ساعاتٍ بين أزقة مدينة قديمة أو زيارتك لعدة متاحف فيها حتمًا سيؤدي بكَ إلى الجوع، لذلك تستفيد السياحة الغذائية من حاجة البشر هذه من خلال تقديم الأنشطة المرتبطة بها والترويج لها، وبالتالي يمكن لسياحة الطهي أن تستهدف سوقًا أوسع من أي نوع آخر من أنواع السياحة.
كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا واضحًا وجليًّا في خلق الاهتمام والحماس في تجارب الطعام ودفعهما نحوها. فعلى اختلاف تلك التجارب والرحلات، إلا أنّ أكثر ما يميزها قد يكون هو حبّ المسافرين لتصوير ما يأكلونه ويتذوقونه ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة لمشاركة تجاربهم وآرائهم مع متابعيهم، ما يساعد في الترويج للفكرة.
وجهة المرء وسفره ليست مكانًا أبدًا، بل هي طريقة جديدة لرؤية الأشياء وتجربتها. وبالتالي، فإنّ استكشاف الثقافات المختلفة من خلال الطعام والمأكولات لهو مغامرة مميزة يمكنها إيقاظ حواسنا وفتح أعيننا لاكتشافات لا تُنسى قد تؤدي في نهاية المطاف إلى فهمٍ ومعرفة أكبر للحضارات والتاريخ والناس والمجموعات، وبالتالي إلى رؤية مستنيرة للعالم المذهل الذي نعيش فيه على اختلاف ثقافاته وتعقيداتها.