هناك فيلسوف واحد أثر على كثير من أعظم وأشهر فلاسفة العالم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من بينهم سيجموند فرويد ونيتشه وفرانز كافكا، كما أثرت أفكاره على كثير من الكتاب المعروفين مثل تولستوي وكثير من العلماء أيضًا منهم أينشتاين، وعلى الرغم من أن ذلك الفيلسوف يبدو واسع الانتشار إلا أنه كان يفضل العزلة، ووجد أن السبب الرئيسي لبؤس وتعاسة الإنسان يكمن في علاقاتنا مع الآخرين.
هذا الفيلسوف يُدعى “آرثر شوبنهاور”، فيلسوف ألماني اشتهر بفلسفته السوداوية أو التشاؤمية، وهو أول فيلسوف غربي اهتم بالفلسفة البوذية، حيث اعتبر الكثيرون أفكاره ومؤلفاته أنها تأويل غربي للفلسفة التشاؤمية الموجودة في البوذية، كما كانت له فلسفته الخاصة حول بؤس الإنسان، حيث اعتبر أن كل تاريخ لحياة كل إنسان على الأرض هو تاريخ من البؤس والمعاناة، واعتبر أن هناك من خلق الكون فقط ليبتهج من معاناة البشر فيه.
كان لـ “شوبنهاور” تفسيرًا عجيبًا لبؤس الإنسان في الحياة، الذي عرف سببه من خلال أطلق عليه “الرغبة في الحياة”، والتي وجد فيها قوة ملحة تدفع البشر للأمام بشكل دائم وبشكل يجعلهم متمسكين في الحياة من خلال البحث عن مصالحهم الشخصية، مما يجعل تلك الرغبة في الحياة قوة عمياء من وجهة نظر الفيلسوف الألماني، التي تدفع البشر لفعل أفعال غير عقلانية بسبب رغبتهم الملحة في التمسك بالحياة، من بين تلك الأفعال غير المنطقية من وجهة نظر “شوبنهاور” كان الوقوع في الحب والزواج.
يعتبر الحب والزواج أكثر الأفعال غير عقلانية بالنسبة للفيلسوف شوبنهاور حيث يعتبره مجرد عملية اختيار شركاء حياة مناسبين لمشروع إنجاب أطفال
الفيلسوف الكاره للحب والزواج والأطفال
الفيلسوف الألماني “آرثر شوبنهاور”
كانت لـ “شوبنهاور” أفكارًا متطرفة حول الزواج والوقوع في الحب بشكل عام وأهم من ذلك كانت له أفكارًا متطرفة حول إنجاب الأطفال، حيث آمن الأخير أن الناس لا يقررون إنجاب الأطفال إلا حينما يفقدون عقلهم، حيث كان إنجاب الأطفال أكثر الأفعال غير العقلانية بالنسبة لـ “شوبنهاور” واعتبره السبب الوحيد الذي يدفع الناس للوقوع في الحب ويحدد اختيارهم لشريك حياتهم وذلك بسبب رغبتهم في الحياة، تلك الرغبة الملحة التي تدفعهم أيضًا لإنجاب الأطفال واختيار شريك الحياة الملائم لذلك.
ولأن عملية اختيار شريك الحياة غير عقلانية بالنسبة للعالم الألماني فإنه آمن أنه في حالة عمل العقل بشكل كامل أثناء اختيار شريك الحياة، بدلًا من الانسياق وراء الرغبة الملحة للتمسك بالحياة والانصياع حول الرغبة في الإنجاب لاختار الناس شركاء حياة مختلفين بشكل جذري عن الذين اختاروهم في المقام الأول وربما أكملوا حياتهم معهم وأنجبوا منهم أطفالًا.
رأى العالم الألماني أن الزواج بالشريك المثالي لإنجاب الأطفال يختلف تمامًا من الزواج من الشريك المثالي والمناسب لنا، ولهذا يعيش البشر من وجهة نظره مع الشخص المناسب للإنجاب لأكثر من عقدين ليكتشفوا بعد ذلك أنه لم يكن مناسبًا لهم، إلا أنهم يستمرون معه بشكل بائس للتكفير عن ذنوبهم ولرعاية الأطفال، ولهذا يرى “شوبنهاور” أن وجوه الكثيرين خاصة كبار السن محفورة بخيبة الأمل بشكل دائم.
اتبع “شوبنهاور” ما فعله الكثير من الفلاسفة وإن اختلفوا في الغاية في الانحياز للذات وجعلها هي مركز الحقيقة، حيث أصبحت الفلسفة في العصر التنويري. وبالنسبة للفيلسوف الفرنسي ديكارت فإن الفلسفة تحليل للوعي ولملكاته وقواه، حيث أن وعي الإنسان لذاته أساس كل فكر لديه، وانطلاقًا من ذلك الوعي وحده، يقوم المرء بوصف لظاهرات العالم، ولهذا وُصفت الحداثة بأنها “استقلالية الذات البشرية” وتقابل الإنسان مع نفسه كذات واعية.
العقلانية كمشروع للنقد لدى العرب
المفكر الإسلامي المغربي طه عبدالرحمن
كانت العقلانية التي ميزت كثير من فلاسفة عصر التنوير وميزت أفكار “شوبنهاور” أيضًا مشروعًا للنقد لدى المفكرين العرب، وبالأخص المفكر المغربي “طه عبد الرحمن” الذي أكدت مؤلفاته من بينها “سؤال الأخلاق” أن العقلانية ليست عقلانية واحدة، وقد التبس الأمر على دعاة العقلانية من المُحدثين فظنوا أن العقلانية واحدة لا ثانية لها، وأن الإنسان يختص بها بوجه لا يشاركه فيه غيره، وليس الأمر كذلك، فالبنسبة لـ “طه عبدالرحمن” فإن للعقلانية قسمين كبيرين، هناك العقلانية المجردة من الأخلاقية، وهذه التي يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسددة الأخلاقية وهي التي يختص بها دون سواه من المخلوقات.
اعتبر المفكر “طه عبد الرحمن” أنه لا يوجد إنسان بغير أخلاق، حيث كانت الأخلاقية بالنسبة إليه هي أصل العقلانية، حيث يعتقد أن مبدأ التخلق مقابل لمبدأ التعقل، وعليه فإن الأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع منه كل صفات الإنسان والعقلانية التي تُنسب إليه تكون نابعة لهذا الأصل الأخلاقي.
يرى المفكر الإسلامي أن تلك المناهج العقلية في تحليل أفعال الإنسان كالتي اتبعها “شوبنهاور” في نظرته التحقيرية للزواج وللمرأة أنها لا تستند إلى مفاهيم إنسانية أخلاقية تحترم كرامة الإنسان
كان للمفكر الألماني “شوبنهاور” نظرة متطرفة نحو القلب، وبناء أفعال بناءًا على قلب الإنسان لا عقله، الذي وجد فيها أفعالًا غير منطقية وغريزية وتجعل من الإنسان كائنًا بائسًا في حياته، من بين تلك الأفعال كان الوقوع في الحب والزواج وإنجاب الأطفال. إلا أن فكر “طه عبد الرحمن” كان على العكس، حيث اعتمد العقل فعلًا من أفعال القلب، فكما للسمع أداته الحاملة وهي الأذن، فإن العقل أداته الحاملة وهي القلب، والقلب قوة لا تبقى على حال، حيث إنه دائم التحول والتقلب، وإذا ما كان الحامل متقلبًا فشأن المحمول أن يتبعه في التقلب والتحول.
بالنسبة لفكر “طه عبد الرحمن” فإن القلب يقوم بربط الأشياء بعضها ببعض، أي أنه يقيم علاقات بين الأشياء، إلا أن المفكرين الغربيين سلموا بربط الأشياء عن طريق العقل، حيث أنه يربط بين الوسائل والغايات فيما يعرف بالعقل الأداتي، وهو المبدأ الذي يقوم على أنه لا بد من إيجاد الوسيلة المناسبة للحصول على الغاية، إلا أنه في نظر طه عبد الرحمن أن هذه الميكانيكية في ربط الأشياء استقلت لنفسها وتسير وفق منطقها بغير بصيرة من الإنسان.
طه عبد الرحمن: “لا يوجد إنسان بغير أخلاق، فالعقل المجرد هو بالذات العقل الذي يخلو من اليقين في نفع المقاصد التي اختارها”
يرى المفكر الإسلامي أن تلك المناهج العقلية في تحليل أفعال الإنسان كالتي اتبعها “شوبنهاور” في نظرته التحقيرية للزواج وللمرأة أنها لا تستند إلى مفاهيم إنسانية أخلاقية تحترم كرامة الإنسان وتصون قيمته، فمن وجهة نظره يرى أن العقلانية الإسلامية الإيمانية لها تصور يربط بين الأشياء بشكل مختلف عما وصفه المفكرون العقلانيون.
التصور العقلاني الإسلامي بالنسبة لطه عبد الرحمن يربط بين الوسيلة والقيمة، فيربط الأسباب بالقيم وليس بالغرائز، لأنه في هذا التصور سترفع القيمة الوسيلة إلى مستوى فوق المادي، حتى ولو كانت الوسيلة مادية فهي تحقق دائمًا معنى مثالي.
اعتبر الأخير أن من أسباب بؤس الإنسان في العالم على عكس ما تحدث عنه “شوبنهاور” هو تقديره المبالغ فيه للعقل على حساب القيم الأخلاقية، وقال في مؤلفاته أنه “لا يوجد إنسان بغير أخلاق، فالعقل المجرد هو بالذات العقل الذي يخلو من اليقين في نفع المقاصد التي اختارها، وبالأولى من اليقين في نجوع الوسائل التي اتخذها ولا نستغرب إذ انقلب على الإنسان في النهاية بالضرر”.