تصريحات لافتة أدلى بها رئيس الوزراء الإثيوبي أمام مواطنيه بالولايات المتحدة، خلال حفل نظمه ائتلاف لمسلمي إثيوبيا بولاية فرجينيا، أفصح فيه الرجل عن حديث شخصي عرض فيه على ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، خلال زيارته للإمارات الأسبوع الماضي، خطته لإنشاء معهد ديني بإثيوبيا، سائلًا إياه: “بأي شيء تساعدوننا”؟ فقال ابن زايد: “نحن معكم بكل شيء وسنقوم بتعليمكم” ليرد آبي أحمد: “أما أن تعلمونا فلا حاجة لنا بكم؛ لأن الدين ضاع منكم، والذي نريده أن نتعلم العربية سريعًا ونفهم الدين جيدًا ثم نعيدكم أيضًا إلى الطريق الصحيح”.
أسئلة كثيرة تطرحها تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي، وتستدعي الإجابة عنها الذهاب في رحلة للبحث عن الهوية الإماراتية العربية والإسلامية، بعد أن أصابها تهشيم وتهميش ممنهجان، برضى السلطات الإماراتية أو دون رضاها، حتى أصبح الدين هو المال وليس الإسلام.
إمارات جديدة بما “يخالف شرع الله”
أراد #مبز أن يصور نفسه رجل السلام بين #أثيوبيا و #أريتريا بعد 20 سنة من الصراعات والقطيعة فحضر رئيس وزراء أثيوبيا ليقول له في #أبوظبي:
“أنتم ضاع الدين منكم وما نحتاج له هو تعلم اللغة العربية جيدا لنفهم الإسلام ونعيدكم له”!
تُرى هل سيحتاج #مبس هو الآخر للدعوة للإسلام من جديد ؟! pic.twitter.com/g3cEHAAvCb— ﮼ابتسام ﮼آل ﮼سعد (@Ebtesam777) July 30, 2018
لم تكن هذه التصريحات كل ما قاله رئيس الوزراء أمام الحفل، لكنها لأسباب عديدة لفتت أنظار المتابعين، فمنذ أن أقسم آبي أحمد، مطلع أبريل/نيسان الماضي بدت سياسته متجهة بقوة نحو تعزيز سياسة بلده الكبير وتدشين مرحلة جديدة من العلاقات مع الجيران تقوم على احتواء المشاكل المزمنة، وقد بدا هذا جليًا في طي عقدين من الخلاف مع الجارة الإريترية، فيما وُصف بالخطوة التاريخية في القرن الإفريقي.
اللقاء الذي جمع آبي أحمد وابن زايد الأسبوع الماضي، ودار فيه الحديث بشأن الإسلام وتعليمه وتعاليمه، لم يكن الأول بل الثالث في غضون 4 أشهر منذ ولاية آبي أحمد، ففي مايو/أيار زار الإمارات، ثم رد ولي عهد أبوظبي الزيارة منتصف يونيو/حزيران، وأخيرًا عاد آبي أحمد مع جاره الإريتري لعقد قمة ثلاثية مع محمد بن زايد.
لا يبدو في الأشهر الماضية ما يعكر العلاقات الثنائية بين إثيوبيا والإمارات حتى يفصح رئيس الوزراء الإثيوبي في هذا الحوار الذي رأى فيه مراقبون تسليطًا للضوء على ما بات يعتبر على نطاق واسع دورًا سلبيًا لأبو ظبي في القضايا الإسلامية.
رأى مراقبون في تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي تسليطًا للضوء على ما بات يعتبر على نطاق واسع دورًا سلبيًا لأبو ظبي في القضايا الإسلامية
الأمثلة فيما يخالف تعاليم الإسلام كثيرة، فلم تعد تخفى أطماع الإمارات في القارة الإفريقية، وتحديدًا في القرن الإفريقي، وإن كانت إثيوبيا ليست شريكًا في تلك السواحل إلا أن سواحلها وثراء مواردها يبقيانها في بؤرة اهتمام دولة باحثة عن توسيع النفوذ بأي ثمن كالإمارات، وأي صلة للإسلام بذلك؟
أيًا تكن الإجابة فلا يغيب تلميح المسؤول الإثيوبي لولي عهد أبو ظبي بشأن تدمير جوهر الإسلام الداعي للسلام والتسامح، وهي قراءة تتلقاها الإمارات من دولة يُفترض أن العلاقات معها واعدة، لكنها في النهاية تقع في محيط تضرر مؤخرًا من رغبات التمدد والاستحواذ الإماراتية.
الأمر لا يتوقف هنا، فالإمارات لم تخض في شؤون السياسة والاقتصاد وقضايا الساعة وحسب، بل اتجهت أيضًا نحو التاريخ والجغرافيا؛ لتضفي على نفسها عمق الحضارة، أملاً في صناعة إمبراطوريتها المزعومة، واستسهلت في سبيل ذلك أن تنسب لنفسها ما ليس لها، وتلوي الحقائق التاريخية انسجامًا مع هوسها بالبحث عن الهوية.
مقابل الثراء الفاحش الذي تعيشه دولة الإمارات كان لا بد من التنازل عن الهوية الأصلية للشعب الإماراتي
رحلة فقدان الهوية.. من استيراد الآثار إلى استيراد العمالة
بالعودة إلى نشاة دولة الإمارات، أي قبل أقل من نصف قرن، حيث قضى كبار السن من الإماراتيين طفولتهم بين الخيام، وترعرعوا وسط عائلات بدوية بسيطة، وقد كانوا يستخدمون الصقور في الصيد ويغوصون في أعماق البحار بحثًا عن اللؤلؤ، أما اليوم، فيرون بلادهم وقد ازدهرت، حيث أصبح بإمكانهم التزلج على الجليد في إحدى القاعات ورؤية الفن الأوروبي الحديث، فضلًا عن الاستمتاع بالمشروبات الساخنة في أكواب الذهب المزينة.
وهنا يمكن القول: “الإمارات دولة دون هوية”، خاصة أن نسبة سكانها الأصليين لا تتجاوز 12%، فيما ينحدر بقية السكان من دول جنوب آسيا وأوروبا وفي كل سنة يزور 21 مليون سائح دولة الإمارات، ولكن، لماذا يشعر الكثيرون منهم بأنهم في دولة ديكتاتورية متسامحة تفتقر إلى الهوية عند زيارة هذا البلد الخليجي؟
لعل الأمر الملفت للانتباه أن العديد من المعالم الجذابة الموجودة في هذه الدولة، تنحدر من ثقافات أخرى، ويعزى ذلك إلى أن هذه الدولة كانت تفتقر قبل الثورة النفطية إلى الثقافة المحلية والمعالم الحضارية، ونظرًا لأنها تستورد كل شيء من الخارج، فإنها لا تمانع في استيراد الجماهير والمعالم الثقافية الأجنبية.
وفي الوقت الحالي، تعيش الإمارات في حرية تامة، بعد أن تخلصت من القيود كافة التي يفرضها الدين
تبدو هذه المعالم أكثر وضوحًا في سرد الصحفي الألماني إيفوليغاتي بصحيفة فيلت عن مفارقات الدولة العربية المسلمة، ففي وسط الصحراء، وفي الطريق السريع في اتجاه دبي، يلوح في الأفق مبنى أبيض يبدو كأنه قبة معبد هندوسي، لكنه في الواقع جزء من منتزه “بوليوود باركس دبي”، المتاخم لمنتزه “ليغولاند دبي” المائي وبعض الملاهي الأخرى.
وبالقرب من كل هذه المعالم الجذابة، يقع “منتجع لابيتا” الذي يتميز بطابعه البولندي، وفي مدخله تماثيل بابا نويل كما في جزيرة الفصح، أما في البهو، فيمكن أن تتصفح الصحف العربية، بينما يوجد في الرواق طباخ هندي يطهو كاري السمك، وفي الخارج، تقف عربات غولف في انتظار الزوار، التي ستقلهم إلى مكان آخر.
ومؤخرًا، يُعتبر متحف اللوفر أبو ظبي الذي اُفتتح في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2017، أول خطوة في نطاق إستراتيجية القوة الناعمة التي تنتهجها الإمارات العربية المتحدة منذ سنوات، فقد عمل المشرفون على هذا المتحف على عرض لوحات وتماثيل تنحدر من مختلف الحضارات والثقافات ليكون بلا هوية.
وعلى الرغم من بناء متحف اللوفر، ظل جامع الشيخ زايد الكبير المعلم الأكثر شعبية في أبو ظبي، فإلى جانب فخامته بزخارفه المصنوعة من اللازورد والصدف وأحجار سواروفسكي، يجمع هذا المسجد بين الجمال والتصميم البسيط، ويحمل هذا المسجد اسم الشيخ زايد آل نهيان الذي وحد الإمارات ويعد رائد النهضة الاقتصادية والرخاء المالي في أعين الشعب الإماراتي.
حفلات الرقص في فنادق دبي لا تهدأ
لكن دلائل الثراء في تصميم أحد المساجد يعد استثناءً؛ فكل شيء في البلاد يشير إلى أن الدين الحقيقي للدولة لم يعد الإسلام، وإنما المال، ومقابل الثراء الفاحش الذي تعيشه دولة الإمارات حاليًّا، كان لا بد من التنازل عن الهوية الأصلية للشعب الإماراتي، وفي الوقت الحاليّ، تعيش الإمارات في حرية تامة، بعد أن تخلصت من القيود التي يفرضها الدين.
فعلى سبيل المثال، يسمح للسائحات القادمات من الغرب بارتداء ما يحلو لهن من الملابس، كما أن شرب الكحول متاح في كل الأماكن والمنتجعات السياحية، وفي بعض الأحيان، ويعتبر ذلك أمرًا إيجابيًا، حيث يستطيع العمال المسيحيون والهندوس ممارسة شعائرهم الدينية الخاصة في الكنائس والمعابد.
كثيرًا ما تؤكد الإمارات امتدادها على هذه الأرض من قرون، حتى أصبح البحث عن الهوية الإماراتية هوسًا معديًا لدى بعض الإماراتيين
مع ذلك، لا تعتبر الإمارات متسامحة إلى هذه الدرجة، فهناك العديد من النساء الأوروبيات اللاتي يقبعن في السجن لأشهر طويلة بسبب إبلاغهن عن تعرضهن للاغتصاب لأن السلطات في الإمارات تعتبر أن الاغتصاب مجرد ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، بالإضافة إلى ذلك، هناك قوانين اعتمدت في سنها على الشريعة الإسلامية، كما أن إمارة الشارقة المحافظة تحظر تداول الكحول مطلقًا.
وسبق أن نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تقريرًا بعنوان “الحياة الليلية في دبي”، تحدث فيه الصحفي ويليام بتلر عن الحياة الجنسية في إمارة دبي، بعد أن عاش فيها أربع سنوات كاملة، وبحسب الصحفي البريطاني، فإنه “من المستحيل الحصول على عدد العاهرات في دبي؛ لأن السلطات لن تقدم أبدًا مثل هذه الأرقام، كما أنه من الصعب أيضًا حساب العاهرات المتخفيات أو اللاتي يمارسن الجنس في أوقات الفراغ”.
هوس الهوية.. من لا يملك التاريخ يحاول صناعته
لم يكن الحديث عن مشاركة اليهود في بناء الأهرامات مجرد مزحة نطق بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجن في حضور الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، بل كانت الشرارة الأولى للترويج فيما بعد عن الأمر كحقيقة، حيث قام المخرج ريدلي إسكوت، عام 2014، بإنتاج فيلم عن قصة حياة النبي موسى اسمه “الخروج”، فقدم ريدلي اليهود وهم يشاركون في بناء الأهرامات من خلال الفيلم كحقيقة مسلَّمة.
تلك طريقة الذين لا يمتلكون عمقًا تاريخيًا فيحاولون صناعته، ومثال على ذلك، دولة الإمارات التي كانت تعرف بساحل عمان قبل عام 1971 ولها حدود واضحة مثل تاريخها، ولكن ما يلفت النظر أنها لم تبحث تاريخها جيدًا أو أنه قد غُيب عنها الأمر حين نطق محمد بن زايد قائلًا: “نحن حقيقة ولسنا حدثًا، نحن عندنا تاريخ يرجع إلى آلاف السنين”.
الشخصيات التاريخية هي الأخرى كانت جزءًا من هذا الهوس؛ فقد نسبت شخصيات تاريخية إليها كعنترة ابن شداد والرحالة أحمد بن ماجد
ومنذ نشأتها، لم تُوقف الإمارات بحثها عن الهوية والحضارة، فما لم يذكره التاريخ أن تكون تلك الدولة الحديثة مركزًا للعالم قبل الميلاد، وأن الصحراء ليست فقط كومة من الرمال، بل قد تخبئ تحتها الكثير؛ ولأن التاريخ هو المقياس وكل شيء بعده سريع التلف، سعت الإمارات إلى إطلاق حملات عدة، ففي مطلع مايو/أيار العام الماضي أعلنت المديرة العامة للمكتب الإعلامي لحكومة دبي منى المري، مبادرة “دبي قبل الميلاد”، ومهمتها الترويج لتاريخ حضارة الدولة بل إنها قد تكون مركزًا تجاريًا عالميًا أيام الفراعنة.
وتواصل الإمارات ملاحقتها التاريخية للهوية التي تحاول صناعتها، حيث صرح الشاعر الإماراتي سلطان العميمي بأن اللهجة الإماراتية كانت لغة العرب قبل قرون، وفي السياق ذاته، ذكر الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، “أن الأنباط قدموا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة قبل 4 آلاف عام، من منطقة شرق الأردن عندما كانت المنطقة خالية تمامًا من السكان، وكانت أول منطقة بدأت التطور في تاريخ البشرية، حتى قبل تطور الصين بآلاف السنين”.
اكتشاف مركز تسوق (مول) في دبي عمره 3000 عام…أقول أنا ليش نحن هوبيس مولات pic.twitter.com/INNAXRJWwY
— ضاحي خلفان تميم (@Dhahi_Khalfan) ٤ مارس ٢٠١٨
وكثيرًا ما تؤكد الإمارات امتدادها على هذه الأرض منذ قرون، حتى أصبح البحث عن الهوية الإماراتية هوسًا معديًا لدى بعض الإماراتيين، فقد غرد القائد السابق لشرطة دبي ضاحي خلفان عن اكتشاف مركز تسوق في دبي عمره 3000 عام، ونقلت صحيفة البيان الإماراتية عن الشاعر الإماراتي سلطان العميمي قوله “اللهجة الإماراتية كانت لغة العرب قبل 15 قرنًا“.
لم يعد الأمر إذًا يُشعر بالخجل المهم أن تجد تحليلًا مناسبًا لقصتك ثم ترويها
الشخصيات التاريخية هي الأخرى كانت جزءًا من هذا الهوس؛ فقد نسبت شخصيات تاريخية إليها كعنترة ابن شداد والرحالة أحمد بن ماجد، ففي عام 2002، ذكرت وكالة الأنباء الإماراتية خبرًا مفاده أن عنترة بن شداد من أصول إماراتية، وعزت إلى “تحقيق ميداني” أجراه الباحث الإماراتي حسين البادي نقل فيه عن عدد من كبار السن في منطقة “ليوا” الذين قالت إنهم “تناقلوا الأخبار من أجدادهم أن قبر عنترة العبسي” موجود في “ليوا” القريبة من أبو ظبي التي كان يطلق عليها اسم الجواء.
لم تكتف الإمارات بعبثها التاريخي، بل أصبح قضم الجغرافيا جزءًا من رحلة البحث عن الهوية، ففي يناير/كانون الثاني الماضي عرضت الإمارات في متحف لوفر أبو ظبي خريطة ضمت فيها محافظة “مسندم” العمانية إليها، وادعت أن سكان سقطرى اليمنية أصولهم من قبائل إماراتية، كما قال الباحث الإماراتي جمعة الجنيبي.
لم يعد الأمر إذًا يُشعر بالخجل المهم أن تجد تحليلًا مناسبًا لقصتك ثم ترويها، ففي برنامجه “رحيق الإيمان” على قناة أبو ظبي، عزا الشيخ وسيم يوسف اللهجة الإماراتية إلى القرآن الكريم، وزعم يوسف في مقطع صوتي آخر نشر له عبر مواقع التواصل أن الثوب الإماراتي هو ثوب السنة لكونه بلا عنق، حسب قوله.
هكذا تحاول الإمارات أن تسوق ما تعتقد بأنها معطيات لبناء “رواية جديدة لتاريخ حضاري” لا تقوم الشواهد الجدية على وجوده، ولا يساعد على بنائه تاريخ المنطقة المحفوظ نسبيًا، والمسطر بطريقة لا تترك “فراغات وثائقية” كبرى يمكن ملؤها بالفرضيات والنظريات، لكن ماذا سيجني الذي استبدل هويته العربية والإسلامية بأخرى أكثر رعونة؟