يُعتبر لبنان من البلدان الغنية بالمواقع التاريخية التي تنتشر في أكثر من منطقة من مناطقه، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى موقعه الجغرافي من ناحية، وقربه من بيت المقدس، الذي كان مهد الأنبياء من ناحية ثانية، وتاريخه القديم حيث يعتبر من المناطق التي كانت مأهولة منذ وقت طويل، وما يدلّ على ذلك، الآثار القديمة المنتشرة في العديد من مناطقه.
تعود الآثار التاريخية في لبنان إلى حقبات تاريخية متعددة، وتختلف في أشكالها وهندستها بالنظر إلى الفترة التاريخية التي تنتمي إليها، فمنها ما يعود إلى العصر الروماني، ومنها ما يعود إلى العهد الأموي الاسلامي، ومنها ما يعود إلى فترة الحملات “الصليبية”، ومنها ما يعود إلى العهدين المملوكي والعثماني.
أبرز المواقع الأثرية في لبنان
– قلعة بعلبك : تعتبر قلعة بعلبك في شمال البقاع اللبناني من أبرز المواقع الأثرية التاريخية في لبنان، فهي قلعة رومانية مبنية من الحجارة الضخمة والكبيرة، وتتحدث الروايات أن عمرها يزيد عن خمسة آلاف سنة، وتتميز بهندستها الفنية الرائعة، واتساعها في السهل، كما تحوي على ثلاثة معابد قديمة، إضافة إلى مسجد إبراهيم الذي بناه الأيوبيون.
– قلعة صور : وهي من القلاع الكبيرة والمهمة أيضاً وتقع قرب مدينة صور في جنوب لبنان، ومن المواقع الأثرية القديمة التي تعود في تاريخها إلى العهد الروماني، وقد اكتُشف فيها أيضاً أثار “فينيقة” و”كنعانية” و”بيزنطية”. وتتميز أيضاً بضخامة حجارتها وبنائها.
السراي الحكومي في بيروت: وهي عبارة عن ثكنة عسكرية بناها العثمانيون وتحوّلت فيما بعد استقلال لبنان إلى مقر لرئيس الحكومة اللبنانية، وما تزال حتى الساعة مقراً لرئيس الحكومة
– قلعة تبنين : وهي من القلاع القديمة التي تقول الروايات التاريخية إن الأراميين هم من بنوها في القرن التاسع قبل الميلاد، وتقع في مدينة تبنين في جنوب لبنان قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، وتتميز ببنائها العادي، وهي ليست كبيرة. وقد دًمّرت وأعيد بنائها أكثر من مرّة عبر التاريخ.
– قلعة الشقيف : وتقع على رأس جبل ينحدر نحو فلسطين المحتلة في جنوب لبنان، لا يُعرف على وجه الدقة من الذي بنى هذه القلعة، فتذهب بعض الروايات إلى القول إنها من زمن الرومان، وتذهب روايات أخرى إلى القول إنها من زمن “الصليبيين”.
– قلعة الهبّارية : وتقع أيضاً في بلدة جنوبية قديمة تُسمّى الهبارية بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة، وتتناثر في محيط هذه البلدة مجموعة كبيرة من القلاع الصغيرة التي تعود إلى العهد الروماني حيث تتميز قلعة الهبارية، التي تُسمّى “بعل جاد”، بحجارتها الصوانية الضخمة، وهندستها الفريدة، ويقع إلى جنوبي القلعة على بعد مئات الأمتار “حفرة” كبيرة تسمّى “الجوبة” لا يُعرف على وجه الدقة سبب وجود هذه الحفرة الكبيرة والعميقة، كما تنتشر في محيط البلد مجموعة قلاع صغيرة دّمّرت أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
– قلعة طرابلس : وتقع في مدينة طرابلس شمال لبنان، وبناها “الصليبيون” أثناء الحملات التي شنّوها على الشرق في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم أحدث عليها المماليك بعض التعديلات في العهد المملوكي، وتتميز بسورها العالي.
قلعة صيدا : وتقع في البحر بمحاذة مدينة صيدا حيث يربطها بالمدينة جسر حجري، وإلى جانب القلعة البحرية هناك القلعة البرية على طرف المدينة، وتعود في بنائها إلى زمن الحملات “الصليبية”، وقد بنى فيها المماليك مسجداً، وتضم خاناً وملحقات أخرى.
– قلعة جبيل : وبناها “الصليبيون” أيضاً في مدينة جبيل الساحلية في القرن الثاني عشر الميلادي.
– قلعة عنجر : وتقع في وسط سهل البقاع اللبناني، وبناها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على مقربة من عاصمته في دمشق، وتتميز باتساعها وفنّها المعماري الذي طبع تلك الفترة.
هناك مجموعة كبيرة من المساجد التاريخية المتنشرة في معظم المناطق اللبنانية، لا سيما في المدن الساحلية (بيروت، طرابلس، صيدا)، وتعود إلى العهود الأموية والمملوكية والعثمانية، وقد جرى ترميم وإعادة تأهيل كل المساجد التاريخية التي تضررت أثناء الحرب.
– آثار كامد اللوز : وهي مجموعة آثارات قديمة تنتشر في محيط بلدة “كامد اللوز” في البقاع الغربي، وتعود أغلبها إلى عصور قديمة تناثرت في أكثر من مكان في محيط البلدة، ولم يبقَ منها إلا الأطلال.
– السراي الشهابية في حاصبيا : وهي قلعة استخدمها أمراء آل شهاب أيام فترة الإمارة الشهابية، ويحيط بها سور عال ويلتحق بها مسجد وباحة كبيرة أمامها.
– السراي الحكومي في بيروت: وهي عبارة عن ثكنة عسكرية بناها العثمانيون وتحوّلت فيما بعد استقلال لبنان إلى مقر لرئيس الحكومة اللبنانية، وما تزال حتى الساعة مقراً لرئيس الحكومة، وهي تشرف على وسط بيروت، وعلى ساحة الشهداء، وساحة رياض الصلح، ومسجد محمد الأمين، وتعتبر تحفة في البناء العثماني.
هناك أيضًا مجموعة كبيرة من المساجد التاريخية المتنشرة في معظم المناطق اللبنانية، لا سيما في المدن الساحلية (بيروت، طرابلس، صيدا)، وتعود إلى العهود الأموية والمملوكية والعثمانية، وقد جرى ترميم وإعادة تأهيل كل المساجد التاريخية التي تضررت أثناء الحرب.
وإضافة إلى القلاع والأبراج التي بناها القدماء ممن مرّ على لبنان، هناك العديد من المعالم الطبيعية التي تعتبر تحفة في الفن والجمال والإبداع، كصخرة الروشة على ساحل بيروت، والعديد من المغاور والكهوف الكبيرة كمغارة “جعيتا” و”قاديشا” و”الزحلان”، وغيرها، فضلاً عن الأودية السحيقة والجبال العالية.
آثارت لبنان وتحديات الحرب والإهمال
صمدت آثارات لبنان العديدة أمام عوامل الطبيعة كالطقس والمناخ من ناحية، وأمام العوامل التاريخية من ناحية ثانية، وإن كانت هذه العوامل أثّرت إلى حد ما بهذه الآثارات، خاصة في ظل الإهمال الرسمي وغياب الإهتمام الكافي من مؤسسات الدولة.
تركّز اهتمام الحكومات منذ استقلال لبنان في العام 1943 من القرن العشرين على المناطق التي كانت معروفة بجبل لبنان، وتمّ إهمال الأطراف بشكل كبير
لقد كان لبنان المعروف تاريخياً قبل العام 1920 هو الجبل الذي يطلق عليه اليوم محافظة جبل لبنان، ولم تكن بقية المحافظات جزءاً من لبنان، ثم جاء “الإحتلال الفرنسي” بعد الحرب العالمية الأولى وسيطر على معظم المنطقة، وأعلن الجنرال “غورو” الذي كان يدير الحملة الفرنسية في لبنان، أعلن قيام دولة لبنان الكبير بحدوده المعروفة حالياً.
لقد تركّز اهتمام الحكومات منذ استقلال لبنان في العام 1943 من القرن العشرين على المناطق التي كانت معروفة بجبل لبنان، وتمّ إهمام الأطراف بشكل كبير، ومن ذلك إهمال المناطق التاريخية والقلاع والآثارات المتواجدة فيها، ما جعلها عرضة للتخريب والتدمير والسرقة والإتلاف. ثم جاءت الحرب الأهلية المشؤومة ما بين عامي 1975 و1990 فـ “زادت الطين بلّة” وشكّل غياب الدولة بأجهزتها الرسمية والأمنية والقضائية، وضعفها وتراجع أداءها، فرصة للتنكيل بالمواقع الأثرية التاريخية، وسرقة العديد منها وتهريبه إلى أوروبا وأميركا، أو بيعه في السوق السوداء.
وقد ذاع صيت بيروت خلال الحرب الأهلية كمركز لتوزيع وبيع الآثار، وشكّل تواجد القوات السورية والميليشيات المسلحة غطاءً وافراً للتجار والمافيات المهتمة بهذا النوع من التجارة، فجرى جرف العديد من المواقع الأثرية كما في بلدة كامد اللوز البقاعية، واستخراج قطع أثرية كثيرة من الموقع وبيعه في الداخل أو الخارج. كما جرى التنقيب بشكل غير رسمي في معظم المواقع الأثرية، خاصة تلك التي كانت تقع تحت هيمنة المليلشيات خلال الحرب، لا سيما في بعلبك وصور، وقد تم اكتشاف العديد من الآثار في تلك المواقع، وبيع العديد منها إلى الخارج، لا سيما إلى أوروبا، كما هُرّبت بعض القطع الأثرية الثمينة من آثارات كامد اللوز إلى فنزويلا وأميركا.
وتعتبر الفترة التي امتدت من العام 1983 حتى العام 1989 أكثر فترة زمنية راجت فيها عملية التنقيب عن الآثار بصورة غير قانونية، وتهريب وبيع ما يتم اكتشافه إلى الخارج، ما حدا في حينه بالوزير وليد جنبلاط، إلى إصدار قرار في العام 1985 بصفته وزيراً للثقافة منع بموجبه الإتجار بالآثار أو بيعها أو التنقيب عنها، إلا أن ضعف الدولة وأجهزتها حال دون تفعيل هذا القرار، فظلّت التجارة رائجة وقوية في تلك الفترة حتى انتهاء الحرب، واستعادة الدولة زمام الأمر في البلد، وقد تمكّنت فيما بعد من رصد بعض الأثار اللبنانية في متاحف بعض الدول الغربية، وقد عملت الحكومة على استعادتها، فتمكّنت من استعادة قسم منها ولكنها لم تتمكّن من استعادة قسم آخر.
بالنسبة للحرب، فلم توفّر المعارك الداخلية بين الأطراف اللبنانية المواقع الأثرية حيثما كانت تجري هذه المعارك
كما نالت المواقع الأثرية اللبنانية نصيبها من الإحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان في العام 1982 وصولاً حتى بيروت، وقد عمدت قوات الإحتلال إلى التنقيب في العديد من المواقع الأثرية كما في بلدتي الهبارية في الجنوب، وكامد اللوز في البقاع الغربي، مستخدمة في بعض الأحيان الجرافات، وفي أحيان أخرى الوسائل التقليدية، ولم يُعرف على وجه الدقة والتحديد حجم الإكتشافات التي وصلت إليها، ولا الآثار التي تمكّنت من أخذها بقوة السلاح، فقد كانت تضرب طوقاً أمنياً حول الأماكن التي تُجري فيها البحث والتنقيب وتمنع أياً من الناس من الإقتراب منها.
أما بالنسبة للحرب، فلم توفّر المعارك الداخلية بين الأطراف اللبنانية المواقع الأثرية حيثما كانت تجري هذه المعارك، وهنا يشار إلى حجم الأضرار البالغة التي لحقت بقلعة طرابلس جراء المعارك التي اندلعت في المدينة بين أبنائها من ناحية والقوات السورية التي دكّتها بالصواريخ والمدفعية الثقيلة في العام 1985، كما يشار أيضاً إلى حجم الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية في بيروت من مساجد وكنائس جراء الإقتتال الداخلي وانقسام بيروت خلال الحرب إلى شطرين، غربي وشرقي.
كما وأن الحروب المتكررة منذ العام 1970 مع “إسرائيل” لم توفّر المواقع الأثرية، فقد استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي طيلة فترات الحرب التي استهدف فيها لبنان المواقع الأثرية والمواقع التاريخية بذريعة استخدامها من المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية، وكان نصيب قلعة الشقيف في جنوب لبنان كبيراً حيث تعرّضت لمئات الغارات من الطائرات في فترات متعددة بعد تحصّن المقاومة الفلسطينية فيها، وأدّى ذلك إلى تدمير أجزاء منها. كما تم استهداف قلعة صور من قبل الإحتلال، فضلاً عن العديد من القلاع والمواقع التاريخية الأخرى. وقد عمدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ومنظمات عربية ودولية مهتمة بملف الآثار إلى إعادة ترميم هذه القلاع والمواقع، ولكن ذلك كان يجري بوتيرة بطيئة في أغلب الأحيان نظراً لقلّة الإمكانات المالية وعدم توفّر الدعم.
اليوم تعمد وزارة الثقافة اللبنانية إلى تنظيم قطاع الآثار من خلال إدراج المواقع الأثرية على قوائمها، والعمل لإدراج بعضها أيضاً على قوائم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة
وبعد انتهاء الحرب قامت الدولة اللبنانية بإعادة ترميم وتأهيل السراي الحكومي (مقر رئاسة الحكومة) في بيروت، فيما تمّ أيضاً ترميم قلعة طرابلس بمنح وهبات من بعض الدول العربية والإسلامية والمنظمات المهتمة، وكذلك تمّ ترميم سوق القمح في طرابلس، وهو يعود إلى العصر المملوكي، وكان قد تضرر بشكل كبير أثناء الحرب. وكذلك مساجد وكنائس بيروت التي دّمرت أثناء الحرب الأهلية.
اليوم تعمد وزارة الثقافة اللبنانية إلى تنظيم قطاع الآثار من خلال إدراج المواقع الأثرية على قوائمها، والعمل لإدراج بعضها أيضاً على قوائم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، وتحاول قدر الإمكان العمل لاسترداد الآثار المنهوبة أو المسروقة، لكنها تجد صعوبة في ذلك، وتختصر مشهد الآثار المهمة بما تعرضه في المتحف الوطني، والذي يضم أيضاً مجموعة كبيرة من الآثار والقطع القديمة التي تشير إلى قدم هذه الأرض وعراقتها وامتداد جذورها في التاريخ. هذا ويشكل قطاع الآثار مورداً مهماً للخزينة اللبنانية إذ تُعتبر هذه المواقع الأثرية مناطق سياحية بامتياز تدر على الخزينة اللبنانية أموالاً مهمة كلّما نَعِم لبنان بأجواء مريحة من الحرية والإستقرار.