دخلت العلاقات التركية الأمريكية مرحلة جديدة من التصعيد على خلفية محاكمة القس الأمريكي أندرو برونسون بتهم تتعلق بالإرهاب، وهو ما انعكس بصورة سلبية على الليرة التركية ما دفعها للهبوط إلى مستويات قياسية، إذ بلغت أمس الجمعة 3804 للشراء و6.3704 للبيع (عند 6:40 بتوقيت غرينتش)، مقابل 5.5424 للبيع، و5.5359 للشراء مساء الخميس.
وبينما تبحث أنقرة سبل الخروج من أزمتها وسط اشتعال المضاربة على عملتها، إذ بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يصب الزيت على النار بتغريدته أمس التي أعلن من خلالها مضاعفة الرسوم على الصلب والألومنيوم المستورد من تركيا، لتصبح نسبة الرسوم على الألومنيوم 20% وعلى الصلب ستصبح 50%” مختتمًا بـ”علاقاتنا مع تركيا ليست جيدة في الوقت الحاضر”.
I have just authorized a doubling of Tariffs on Steel and Aluminum with respect to Turkey as their currency, the Turkish Lira, slides rapidly downward against our very strong Dollar! Aluminum will now be 20% and Steel 50%. Our relations with Turkey are not good at this time!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) August 10, 2018
وفي المقابل وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما يحدث بأنها “حرب اقتصادية” داعيًا الشعب التركي لمواجهتها بكل السبل، مضيفًا: “الدولار الأمريكي لن يقطع طريقنا وسوف نرد بعملتنا الوطنية على الأطراف التي شنت هذه الحرب علينا”، متعهدًا بالدفاع عن بلاده في مواجهة تلك الهجمات، قائلاً “زيادة الإنتاج والصادرات والتوظيف أفضل رد على التحديات التي تواجهها البلاد”.
تزامن الحملة المعلنة ضد تركيا مع بدء تطبيق العقوبات الاقتصادية ضد إيران ومن ثم روسيا بالتبعية ومن قبلها التصعيد مع الصين يكشف ملامح الحرب الاقتصادية التي تشنها أمريكا ضد الدول المغردة خارج سربها، ليبقى السؤال: ما الخيارات أمام هذه الدول للتصدي لجنون ترامب ومواجهة هذا النوع الجديد من الحروب التي تستهدف الشعوب قبل الأنظمة؟
الحرب الإقتصادية على تركيا فى ذروتهااليوم انخفضت الليرة بشكل حاد ..دول الغرب لا تريد لأى دولة مسلمةالإستقلال فى قرارها السياسى وتركيا تقف وحدها بعدمااصطفت كثير من الدول الإسلامية مع الغرب ضد تركيا مشهد عصر دويلات الأندلس التى كانت تتحالف مع ملوك قشتالة ضد المسلمين تتكرر
— A Mansour أحمد منصور (@amansouraja) August 10, 2018
تركيا تحذر
في أول رد فعل رسمي على ما وصلت إليه الأوضاع من تدهور قيمة العملة المحلية، حذرت أنقرة واشنطن من أن العقوبات والضغوط ستؤدي فقط إلى الإضرار بالروابط بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، وقالت إنها ستواصل الرد عند الضرورة على الرسوم الجمركية الأمريكية.
المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي في بيان له قال إن تركيا تريد حل الخلافات عن طريق الدبلوماسية والحوار والنوايا الحسنة والتفاهم الثنائي، ومن ثم فلا مجال للحديث عن ردود حاسمة كما طالب البعض خلال الساعات القليلة الماضية، وهو ما لفت إليه بعض المحللين المقربين من دوائر صنع القرار داخل تركيا.
الأسواق تنتظر رد تركيا على أزمة سوق الصرف الأجنبي، وتأمل في مزيد من السياسة النقدية الموثوقة فضلاً عن المبادرات الدبلوماسية
أما المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالن فقال إنه لا يمكن لأي تهديدات أو ابتزازات أو عمليات أن تفت في عضد تركيا، ذاكرًا في تغريدة نشرها على حسابه الرسمي على “تويتر” أن كل المخططات قد انهارت بعد المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا منتصف يوليو/تموز 2016، وأنها ستهزم مجددًا.
بينما المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي راندا النجار، قالت في تصريحات لها أمس الجمعة، إن تركيا لم تتصل بالصندوق من أجل طلب مساعدة مالية، مشيرة إلى أن الصندوق “لم يتلق أي إشارة من السلطات التركية وأنها تدرس طلب مساعدة مالية”، مؤكدة أنها لن تعقب على هبوط الليرة كون الصندوق “لا يعقب على التحركات اليومية للعملات” بحسب “رويترز“
https://twitter.com/allouch88/status/1028003802279043072
الأسواق العالمية تهتز
تسبب تقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي يفيد بقلقه حيال انكشاف البنوك على الانحدار الحاد في الليرة التركية، في تراجع اليورو إلى أقل مستوياته في أكثر من عام، حيث تدافع المستثمرون القلقون على الملاذات الآمنة (الدولار والين والفرنك السويسري) وتخلصوا من العملات ذات المخاطر مثل عملات الأسواق الناشئة.
كما تراجعت الأسهم الأوروبية يوم الجمعة وسط هزة عنيفة في السوق، حيث أغلق المؤشر ستوكس 600 الأوروبي منخفضًا 1.1%، منهيًا الأسبوع على خسارة قدرها 0.9%، بينما انخفض المؤشر داكس الألماني 2% في حين جاء مؤشر الأسهم الإيطالية في مقدمة الخاسرين بين المؤشرات الرئيسية في أوروبا مع هبوطه 2.5% إلى أدنى مستوى منذ يوليو/تموز من العام الماضي.
تركيا وشريكتيها (إيران وروسيا)، باتوا وبشكل واضح ومباشر في مرمى نيران الحرب الأمريكية، ما دفع البعض إلى الحديث عن إستراتيجيات جديدة ربما تتبناها العواصم الثلاثة لمواجهة تلك الحرب
كيت جوكيس المحلل لدى سوسيتيه جنرال، قال تعليقًا على الأزمة: “الأسواق تنتظر رد تركيا على أزمة سوق الصرف الأجنبي، وتأمل في مزيد من السياسة النقدية الموثوقة فضلاً عن المبادرات الدبلوماسية”، مضيفًا “كلما طال انتظار السوق، زادت إمكانية اتساع نطاق الأزمة، ليس إلى أصول الأسواق الناشئة فحسب بل إلى الأسواق المتقدمة أيضًا”.
تداعيات هبوط الليرة التركية لم تقتصر على الأسواق الأوروبية فحسب، فقد فتحت الأسهم الأمريكية على انخفاض أمس مع اهتزاز معدلات الأداء في البنوك بصفة عامة، وتراجع المؤشر داو جونز الصناعي 108.04 نقطة بما يعادل 0.42% ليفتح عند 25401.19 نقطة وانخفض المؤشر ستاندرد أند بورز 500 بمقدار 13.94 نقطة، ونزل المؤشر ناسداك المجمع 57.07 نقطة.
#ترمب مغردا عبر تويتر: سنزيد رسوم الألمنيوم على #تركيا لتصبح 20% ورسوم الصلب ستصبح 50% ـ الحرب المكشوفة ، عيني عينك
— جمال سلطان (@GamalSultan1) August 10, 2018
حرب اقتصادية شاملة
منذ تنصيب ترامب رئيسًا وهو يضع نصب عينيه تفريغ الكيانات الاقتصادية والسياسية في العالم من مضمونها خاصة تلك التي تتمتع بشيء من الاستقلالية عن القرار الأمريكي، فكانت السياسة العدائية التي تبناها ترامب هي المنهج والعقيدة التي تشكل ملامح السياسة الخارجية لواشنطن خلال العام الأخير.
الحرب المعلنة ضد تركيا الآن ليست الجبهة الوحيدة التي تحارب فيها أمريكا، إذ جاءت بالتزامن مع حزمة العقوبات الجديدة التي فرضتها ضد إيران ودخلت حيز التنفيذ قبل ساعات، هذا بخلاف تداعياتها على روسيا التي تربطها علاقات اقتصادية إستراتيجية مع طهران على رأسها تصدير النفط الذي تأثر كثيرًا بالقيود الأمريكية المفروضة على خطوط التصدير الإيرانية.
التصعيد الأمريكي مع أنقرة على خلفية محاكمة القس برونسون، بخلاف عرقلة الجانب التركي لطموحات ترامب في المنطقة، ساهم بشكل كبير في زعزعة ثقة المسثتمرين في السوق التركية، خاصة بعد تهديد واشنطن بفرض عقوبات تطال مسؤولين حكوميين وقطاعات مالية ومصرفية تركية، هذا بخلاف الدور الذي لعبته الوكالات العالمية مع خفضها التصنيف الائتماني لتركيا في تأجيج الموقف.
تركيا وشريكتيها (إيران وروسيا)، باتوا بشكل واضح ومباشر في مرمى نيران الحرب الأمريكية، ما دفع البعض إلى الحديث عن إستراتيجيات جديدة ربما تتبناها العواصم الثلاثة لمواجهة تلك الحرب التي تجاوزت كل أشكال الدبلوماسية المعهودة في مثل هذه المواجهات وكانت تعتمد على الأسلوب المستتر غير المباشر، ليبقى السؤال عن الخيارات التي تملكها هذه الدول الملف الأكثر حضورًا على موائد النقاش خلال الساعات القادمة، وهو ما استبقه الرئيس التركي باتصال هاتفي أجراه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أمس الجمعة، أكد خلاله عمق العلاقات الاقتصادية بين البلدين وتفعيل سبل التصدي لأي تهديدات خارجية في ضوء العمق الإستراتيجي الذي تمثله كل دوله للأخرى.
أعلن #ترمب تصعيد حربه الاقتصادية على #تركيا مشيراً إلى أنه أمر بزيادة تعرفة أسعار وارداتها من الفولاذ بنسبة 50%،ووارداتها من الألومنيوم بنسبة 20%، ومبدياً فرحه بهبوط سعر الليرة مقابل ما أسماه "دولارنا القوي"، ما يؤكد أن بلاده وراء الأزمة. اثبتي يا تركيا! معارك الحرية ليس لها ثمن! pic.twitter.com/3VYHrF3p9R
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty) August 10, 2018
ما الخيارات؟
لماذا لم تتخذ الحكومة والبنك المركزي التركي إجراءات حازمة وقرارات سرعية لدعم موقف الليرة أمام العملات الأجنبية؟ سؤال فرض نفسه بقوة منذ الوهلة الأولى على ألسنة الباحثين والمحللين، غير أن البعض ذهب في تفسير ذلك إلى أن المؤسسات الاقتصادية المعنية في تركيا لم تتدخل حتى الآن إدراكًا منها أن الأزمة لا علاقة لها بالجوانب الاقتصادية، فهي امتيازية في المقام الأول، والرد عليها لا بد أن يكون في نفس الاتجاه.
تملك تركيا خيارين لمواجهة الحرب الشعواء التي تشنها الولايات المتحدة، خيار تتحكم فيه وحدها، في تفاصيله كافة وتملك مفاتيح إنجازه، والآخر يتوقف على قدرتها على التوصل إلى صيغة تفاهمية مع شركائها – روسيا وإيران وأوروبا – للتوحد في مواجهة جنون ترامب.
المشكلات الاقتصادية التي تواجه الليرة التركية يمكن التغلب عليها أو التعامل معها، لكن حجم المضاربات الموجود الآن على الليرة يرجع إلى التصعيد السياسي بين واشنطن وأنقرة بشكل رئيسي
الدكتور أشرف دوابة أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة “إسطنبول صباح الدين زعيم” أشار إلى عدد من الإجراءات العاجلة التي يجب على أنقرة اتخاذها لمواجهة تراجع سعر صرف الليرة، أبرزها: بث عوامل الثقة لدى المواطنين لا سيما من خلال مسؤولي السياسة النقدية الذين لم نسمع لهم صوتًا وزيادة الوعي لدى الشعب بعدم الدولرة باعتبار المحافظة على وضع الليرة واجب وطني وشرعي ووضع قيود على السحب والتحويل للدولار وتفعيل نظام الرقابة النقدية لا سيما في المطارات ورفع سعر الفائدة مؤقتًا.
هذا بالإضافة إلى وضع حدود سعرية للعملة لا يتم تجاوزها واستخدام ما تيسر من الاحتياطي لزيادة عرض الدولار وتفعيل نظام المدفوعات المتبادلة بعيدًا عن الدولار ومنح حوافز للمستثمرين ضريبية وغيرها لا سيما ما يتعلق بمنح الجنسية وتقديم تسهيلات إضافية للسياح.
الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، توقع أن تلقى دعوة الرئيس التركي للشعب تحويل مقتنياتهم من الذهب والعملات الأجنبية إلى الليرة التركية تعاطفًا من جانب عدد من المواطنين، لكنه سيكون – بحسب رأيه – تعاطفًا على المدى القصير أو المتوسط على أحسن الفروض، مشيرًا في تصريحات لـ”عربي 21” أن هذا التعاطف “سيفرض على الحكومة التركية أن تتخذ خطوات جادة تجاه تقليص مشكلاتها مع أمريكا”، لافتًا إلى أن الارتفاعات الأخيرة على مدار الشهرين الماضيين لم تكن لأسباب اقتصادية على الإطلاق ولكنها كانت لأسباب سياسية تتعلق بالعملية الانتخابية في 24 يونيو/حزيران الماضي ونتائجها، ثم الخلاف مع أمريكا والتطورات التي تشهدها المنطقة”.
واختتم الصاوي حديثه قائلاً: “المشكلات الاقتصادية التي تواجه الليرة التركية يمكن التغلب عليها أو التعامل معها، لكن حجم المضاربات الموجود الآن على الليرة يرجع إلى التصعيد السياسي بين واشنطن وأنقرة بشكل رئيسي”.
يذكر أن الرئيس التركي أصدر دعوة مماثلة في ديسمبر/كانون الأول 2016، وقد لاقت أصداء واسعة لدى مؤسسات الدولة وقطاعها الخاص والمواطنين على السواء، ما دفع البعض إلى التفاؤل بشأن معدلات الاستجابة للدعوة الثانية التي أطلقها بالأمس لإنقاذ اقتصاد بلاده من الحرب الشعواء المعلنة عليه من الجانب الأمريكي.
بجانب الإجراءات السابقة التي تصنف بـ”العاجلة” أمام تركيا الكثير من الأوراق على المستوى الإقليمي والعالمي، كما لديها خيارات كثيرة، سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، خاصة أن واشنطن لم تتلق حتى الآن أي رد فعل من أنقرة، إذ إنها لا تزال تسعى لمحاولة حل الأزمة بالسبل الدبلوماسية والسياسية، وهو الخيار الذي يفضله الأتراك في الفصل الأول من الحرب.
الحرب المعلنة على تركيا هي جزء من المخطط الأمريكي للقضاء على التجارب الديمقراطية الناشئة كافة التي استطاعت أن تضع نفسها على خط السباق العالمي بما يهدد مصالح واشنطن في المنطقة
الاتصال الهاتفي الذي أجراه اليوم أردوغان مع بوتين والحديث عن زيارة مرتقبة خلال الأيام المقبلة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لتركيا، يشير إلى خطة ما تعد داخل المطبخ السياسي في أنقرة وموسكو بشأن الإعداد للمرحلة القادمة وبحث سبل التصدي للحرب الأمريكية.
في مايو 2017، شارك الرئيس التركي بقمة “طريق الحرير” في بكين، وكانت بمثابة إطلاق رسمي لرؤية المشروع الذي تلعب تركيا فيه من الناحية الجيوبوليتيكية دورًا محوريًا، تكثفت الزيارات الرسمية بعدها بين المسؤولين الأتراك والصينيين.
وقبل عدة أيام فقط، أعلن أردوغان أن بلاده تعتزم إصدار سندات مقومة باليوان الصيني للمرة الأولى، وذلك بهدف تجاوز العقبات التي يتم وضعها أمام تركيا للاقتراض من الخارج، في وقت يسعى فيه المشرعون الأمريكيون إلى حرمانها من القروض عبر المؤسسات الدولية على خلفية ملف القس برانسون.
تركيا عضو قوي في حلف شمال الأطلسي والنسبة العظمى من الأسلحة والمعدات التي تستوردها من الغرب النصيب الأكبر فيها للولايات المتحدة، ما يعني أنه إن اتجهت أنقرة إلى شراء احتياجاتها العسكرية من دول أخرى كالصين أو روسيا أو حتى دول أوروبا ستكون واشنطن الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، ما يمثل ورقة ضغط أخرى.
نجاح أنقرة في تدشين تكتلات جديدة تنحاز فيها إلى المعسكر الشرقي (روسيا – الصين – إيران) بالتزامن مع الحفاظ على أرضية مشتركة مع دول أوروبا المعتدلة التي تعاني بدورها كذلك من سياسات ترامب العدائية، يمكن أن يعيد رسم الخريطة الدولية، اقتصاديًا وسياسيًا، ويعيد الأمور إلى نصابها مرة أخرى، خاصة أن نسبة كبيرة من الجهات السيادية في أمريكا لديها تحفظات على إستراتيجيات إدارة الرئيس الأمريكي لملف العلاقات الخارجية لبلاده الذي أكسبه كل يوم عدوًا جديدًا.
وفي المجمل فإن الحرب المعلنة على تركيا جزء من المخطط الأمريكي للقضاء على التجارب الديمقراطية الناشئة كافة التي استطاعت أن تضع نفسها على خط السباق العالمي بما يهدد مصالح واشنطن في المنطقة التي تحتاج إلى حلفاء تابعين ينفذون ما يؤتمرون به دون جدال أو مناقشة حفاظًا على مناصبهم وكراسيهم.