أحد أقوى المشاهد الحربية في تاريخ السينما، تلك التي قدمها المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا Akira Kurusawa في فيلم كاغيموشا Kagemusha، لا لخدعها البصرية المبهرة والفيلم مليءٌ بها، ولا لمحاكاتها الدقيقة للواقع التاريخي والحربي وهو ما لا يعجز المخرج عن إنجازه، ولكن لأنها حربٌ وقعت خارج إطار القمرة/الكاميرا، ما جعل وقعها شديدًا في النفوس.
لقد تفطن المخرج الدانماركي غوستاف مولر Gustave Möller إلى هذه العلاقة، فقال في هذا المعنى: “أقوى الصور السينمائية وقعًا، تلك التي لا نراها”! ولم يكتف غوستاف بهذا القول، وإنما اعتمد عليه في إنجاز أحد أهم أفلام الإثارة لهذا العام: فيلم المذنب.
لأن الفيلم جديدٌ ويعتمد أساسًا على الإثارة، فسوف أكون حذرًا في تقديمه، والحديث عنه حتى لا أحرق الأحداث، في الحقيقة ليس هناك الكثير لقوله في هذا المستوى، فقصة الفيلم من نوع “ما وراء الباب المغلق” (No-Exit أو لمن يعرفون المصطلح الفرنسي Huis-clos)، إذ يحدث كل شيء تحت سقف واحدٍ، هو سقف مركز استقبال مكالمات نجدة الشرطة في الدانمارك.
هناك، يعمل بطل الفيلم أصغر هولم Asger Holm (يعقوب سدرْغرن Jakob Cedergren)، نستنتج منذ المكالمات الأولى، أنه ضابط ميدان في الأصل، وينشط في وظيفته الحاليّة مؤقتًا، كما ندرك أنه شخصٌ نبيهٌ فطنٌ، ويحاول أن يعمل بتفان رغم ضيقه من مهمته المؤقتة، يحدث منعرج القصة حين يتلقى أصغر نداء استغاثةٍ من إيبن Iben المخطوفة.
“المذنب” ليس أول فيلم يحدث وراء الباب المغلق
يتحول الفيلم منذ تلك اللحظة إلى رحلةٍ ذهنيةٍ مثيرةٍ، والمشاهد يتنقل بين مكالمات البطل المتوالية في محاولةٍ لكشف الحقيقة وإنقاذ المرأة، أجل، لا نرى إيبن ولا أي طرف فاعل في الأحداث، وعدا بعض الوجوه الثانوية العابرة التي يمثلها زملاء أصغر في المركز، فإننا لا نرى سواه طيلة الفيلم، ومع ذلك، لا يبدو التقاط الأنفاس بسيطًا خلال مشاهدة “المذْنب” Den Skyldige!
والمذنب ليس أول فيلمٍ يحدث وراء الباب المغلق، فمنها الكثير، وأشهرها تحفة سيدني لومي “اثنا عشر رجلاً غاضبًا” (Twelve angry men) التي أنجزها منذ الخمسينيات، كما أنه ليس أول فيلم من هذا النوع يعتمد على المكالمات الهاتفية للسير بالأحداث، فقد سبقه فيلمٌ رائع من بطولة كولن فارل بعنوان قمرة (أو كابينة) الهاتف Phone Booth (سنة 2002) وآخر من بطولة توم هاردي بعنوان لوك Locke.
لكن الجديد في فيلم المذنب، أن المكالمات الهاتفية التي يجريها/يستقبلها بطلنا أصغر، لا تقتصر على حوارٍ يكشف عن الحقائق أولاً بأول، بل هي أقرب للقمرة/الكاميرا التي تنقل إلينا ما يحدث خارج إطار الصورة، إن الأحداث الحقيقية تجري أولاً بأول خلف سماعة الهاتف، ولا نحصل منها سوى على الأصوات، نركبها على مشاهد من صنع أذهاننا، لنحصل على الأحداث الفعلية للفيلم، وهنا وجه الطرافة.
إن الإخفاء من عادات سينما الإثارة الحميدة، فما الذي سيثير خوفنا أو تشويقنا أو توترنا إلا ذلك الذي لا نعرف كنهه ولا نستطيع تحديده؟ في الأفلام النـْوار (سينما الجريمة Noir) يكون القاتل غامضًا، وتكون نوايا الفتاة الحسناء غير مفهومة للبطل، وفي أفلام الرعب، يكون الخطر عصيًا على المخيلة، ويعمل صانع الفيلم على تيمة الإخفاء، ليتلاعب بمشاعر المشاهدين، فلا يظهر إلا مقدار ما يسمح باستكمال بقية المشهد ذهنيًا.
أما مع غوستاف مولر، فقد بلغت تيمة الإخفاء مبلغ التطرف، فلم نعد نرى من المشهد حتى ذلك النزر القليل، بل فقط أصواتًا برع الرجل في تصميمها وهندستها، فوصلت إلينا عبر سماعات أصغر، موحيةً بكل القصص والأحداث التي أرادنا أن نعرفها.
البطل في أفلام الإثارة يحتاج إلى التمرد على التعليمات، وإلى المبادرة وتجاوز هيكلة المنظومة أو المؤسسة، حتى يحقق بطولته، لكن بطلنا أصغر يفعل ذلك ليحقق خيبته، ليعلمنا الدرس العكسي
لا تحتاج الأصوات إلى هوامش للشرح، حين هاتفتْ إيبن بطلنا، فهمنا مثلما فهم أنها في سيارةٍ، فهمنا أن رضيعًا بين يديها، وأنها تحاول إخفاء طبيعة المحادثة عن شخصٍ آخر يرافقها، هو غالبًا مختطفها، وحين أقدمتْ إيبن على الهجوم، كانت الجلبة بليغةً إلى حدٍ ترى به أذهاننا تفاصيل ما حدث، وبلغت المشاهد الصوتية ذروتها مع بحث الشرطة عن أخي ماتيلده، فكان لوقع خطواتهم عبر الهاتف وانقطاعها أثر نفسيٌ هائلٌ هو أبرز نجاحات الفيلم.
هذه أكثر أشكال الاختزال الفني تطرفًا في السينما، لا ينافسها في ذلك سوى الجنون (الفني) الذي أقدم عليه دانماركي آخر سنة 2006 هو الشهير لارس فون ترييه Lars Von Trier في فيلمه Dogville حين جرد الإطار المكاني تمامًا وجعله فضاءً مسرحيًا بلا جدران أو أبواب، والأهم في ذلك أن هذا الاختزال Minimalism كان متناسقًا تمامًا مع فكرة الفيلم الأدبية، لقد كان إخفاء المشهد ضروريًا حتى نشارك بطلنا الخطأ ونعيد رسم علاقتنا بحواسنا.
من المهم هنا أن أحذر الاقتراب كثيرًا من التفاصيل، رفقًا بالقارئ الذي لم يشاهد الفيلم بعد وأغلبكم لم يفعل، فليتجنب قراءة هذه الفقرة وليمر إلى الفقرة الأخيرة.
تقوم القصة على ثنائيةٍ ـ مألوفة ـ بين واقع البطل ومغامرته، في الأولى هو متهم وعاجز وينتظر الحكم له أو عليه في تسليم مطلق، وفي الثانية، يصبح قويًا مبادرًا، مهووسًا بتجاوز قدراته المحدودة كعون استقبال مكالمات النجدة، ليتحول إلى المنجد الفعلي للضحايا.
لا شك إذًا أن الحالة الأولى وهي سابقةٌ، تصبح دافعًا وعلةً لوجود الحالة الثانية، وبعبارة الأخرى، فإن اندفاع أصغر المفرط لإنقاذ إيبن يعود إلى ذلك الشعور بالذنب الذي يخبئه وراء تعلته الرسمية التي يتدرب من أجل إعلانها للقضاء: تعلة الدفاع عن النفس، لا تتعلق تسمية الفيلم إذًا بالمذنب الحقيقي في قضية اختطاف إيبن، وهو ما يجعلها مناورةً داخل المناورة.
المذنب لا يخلو من عيوبٍ فنية بالأساس، لقد أجمع أغلب النقاد على تشبيهه بدراما إذاعية، لما بدت عليه الصورة من ثانويةٍ أمام الصوت
ناورنا المخرج في نقطة ثانيةٍ، فالبطل في أفلام الإثارة يحتاج إلى التمرد على التعليمات، وإلى المبادرة وتجاوز هيكلة المنظومة أو المؤسسة، حتى يحقق بطولته، لكن بطلنا أصغر يفعل ذلك ليحقق خيبته، ليعلمنا الدرس العكسي، ربما في عالم يحاول فيه الجميع أن يكون بطلاً، قد يكون أفضل لو يمنح كل شخصٍ ثقته للآخرين ويؤمن أنهم سينجزون مهامهم بذات التفاني الذي يراه في نفسه.
تبقى التيمة الأهم في المذنب، هو تبيين قصور حواسنا على اقتفاء أثر الحقيقة، إن الحقيقة هلاميةٌ ذاتيةٌ، لا نكاد نظفر ببعضها حتى يخيل إلينا أننا امتلكناها جميعًا، دائمة السخرية من ذكائنا ومن ثقتنا بملكاتنا وحواسنا ومنطقنا، إن ما جعل سيناريو “المذنب” مميزًا، هو إشراك المشاهد في عملية الاستنتاج حتى يخدع بذات الطريقة التي خدع بها البطل، ما يجعل شعورنا بنسبية الحقيقة وعجز الحواس مشتركًا مع البطل.
وعلى طرافته، فالمذنب لا يخلو من عيوبٍ فنية بالأساس، لقد أجمع أغلب النقاد على تشبيهه بدراما إذاعية، لما بدت عليه الصورة من ثانويةٍ أمام الصوت، لقد اقتصرت صورة الفيلم على لقطات مقربة ومتوسطة للبطل، فلا أحداث تقع داخل المركز تقريبًا، ما يجعلنا نتساءل: أين السينما هنا؟ في زمنٍ صرنا نتساءل فيه عن معنى كل شيء، لا شك أن السينما من أكثر المفاهيم عرضة للالتباس، لقد غير التلفاز والإنترنت، وخدمة الفيديو عند الطلب VOD وشركات نتفليكس وأمازون، فكرتنا عنها، وباتت كل محاولةٍ لتحدي مفهومها الكلاسيكي محمودةً.
ما زلت مع ذلك أحاول التشبث بشيء ما، يجعل منها فنًا ينفرد عن إخوته، ومن المؤكد أن الفن السابع وإن اعتمد في أحد أشكاله تطرفًا على الصوت، يحتاج إلى أن يعبر بالصورة حتى يحافظ على ذاته أو هويته، لقد كان مولر واعيًا بهذه المسألة، فحاول استعمال أدواتٍ متنوعةٍ للدخول بالمذنب مرة أخرى في بوتقة السينما، فكان أن أضاف بعض المواجهات بين أصغر والعاملين في المركز: يطلب الصفح من زميلٍ له، ويجابه ملاحظات رئيسته بشكل ساخرٍ حادٍ.
مواقف لم يكن لها من داعٍ أو إفادة للقصة الرئيسية سوى كسر سلسلة المحادثات الهاتفية التي يتأسس عليها الفيلم، ومنح المشاهد تجربة السينما البصرية المألوفة عوض تلك السمعية الغالبة عليه، وفي مشاهد متقدمةٍ، حاول المخرج أيضًا أن يعبر عن مشاعر البطل بأكثر من اللقطات المقربة Close-ups، فاستعمل معه لعبة الأضواء، وعكس انفعالاته باللون الأحمر والأزرق والنور والظلمة، الحقيقة أن هذه المحاولة كانت موفقةً، لكن مساحتها كانت محدودةً، وظل التزام الفيلم بالشكل البصري بسيطًا وأقل من المطلوب.
فيلم المذنب Den Skyldige عملٌ تجريبيٌ يستحق التنويه، وهو أهم أفلام الإثارة في هذا الصيف
ولم يساعد أداء يعقوب سيدرغرن Jakob Cedergren كثيرًا في تفادي المشكلة، لم يكن سيئًا طبعًا، وإلا ماكنت أحدثكم عن الفيلم غالبًا، ولكنه لم يكن مميزًا أيضًا، ولم يترك ذلك الأثر الذي يفترض أن يتركه أداءٌ مماثلٌ لأكثر من ساعةٍ، لا أحب أن أقارنه بهنري فوندا Henry Fonda بطل “اثنا عشر رجلاً غاضبًا” لأن المقارنة ظالمةٌ، ولكن، كان من الضروري على يعقوب أن يقوم بعملٍ مماثلٍ لما قام به توم هاردي أو فارل في العملين المذكوريْن في أعلى المقال، وكان ضروريًا على المخرج أن يهتم بهذا الجانب بشكل خاصٍ، لكنه كان منتشيًا ببراعة قصته، وإني لأتفهم نشوته.
فيلم المذنب Den Skyldige عملٌ تجريبيٌ يستحق التنويه، وهو برأيي أهم أفلام الإثارة هذا الصيف، متجاوزًا بفكرته الدنماركية العبقرية كل المليارات الكثيرة التي صرفتها هوليوود على أفلامها من هذا الصنف.