إنها نهاية اليوم. أنتَ مرهق، وقد حانت ساعة النوم، لكنّ أطفالك ما زالوا مستيقظين يركضون في أرجاء البيت، ويرغبون باللعب كما لو أنهم استيقظوا للتوّ. وفي لحظةٍ كهذه، قد تسائل نفسك عن السبب الذي يجعل الأطفال يلعبون كلّ هذا المدة، وعن مصدر طاقاتهم ورغباتهم التي قد لا تنتهي أبدًا.
لستَ وحدك من سأل هذا السؤال. فعلى مدى سنين طويلة جدًا، وجد علماء النفس والفلاسفة أنفسهم يتأملون وراء السبب الذي يجعل الأطفال يلعبون لأوقات متواصلة دون كدٍّ أو تعب، وعن أهمية هذا الفعل وأثره على حياتنا وشخصيّاتنا ومراحلنا المتنوعة والمتعددة.
الانتقاء الطبيعي: هل تطوّرنا لنلعب؟
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية الذي يليه، كان عالم النفس والفيلسوف الألماني “كارس جروس“، واحدًا من أولئك العلماء الذين حيّرهم سؤال اللعب. وقد توصّل إلى فكرةٍ بسيطة من خلال مراقبته لصغار الحيوانات، الثدييات على وجه التحديد، الذين يشكّل اللعب جزءًا من حياتهم أيضًا.
تقول فكرة “جروس” باختصار أنّنا كبشر، نميل في طفولتنا إلى اللعب وتسلّق الأشجار والقفز بالحبال وصنع البيوت، كنتيجةٍ للانتقاء الطبيعيّ الذي تنصّ عليه نظرية التطوّر. أيْ أنّنا نسعى من خلال تلك الأفعال وغيرها، بوصفها وسيلة تعلّمنا المهارات البدنية والعقلية التي نحتاجها للبقاء والاستمرار والتكاثر.
يرى علماء النفس التطوريون أنّ اللعب كان وسيلة تعلّمنا المهارات البدنية والعقلية التي نحتاجها للبقاء والاستمرار والتكاثر
لاحقًا وخلال القرن العشرين، حاول علماء آخرون أيضًا دراسة العمليات النفسية والفيزيولوجية الكامنة في اللعب بشكل أكثر وضوحًا. وعلى سبيل المثال، جادل بعض الباحثين مثل كارل مينينجر أنّ اللعب هو شكل من أشكال التنفيس؛ يطهّرنا من المشاعر والتوترات غير المرغوب فيها من خلال العمليات التعبيرية التي نقوم بها داخل أُطرنا الاجتماعية.
اللعب هو وسيلة للتنمية الشخصية والعقلية والعاطفية، تساعدنا لمواجهة العديد من مشاعر الضعف والقلق والعجز
تدين نظرية التنفيس هذه بالكثير ليسغموند فرويد ومن قبله أرسطو. وفي حين كان فرويد يرى بالبداية أنّ اللعب هو شكل من أشكال إشباع الرغبة وتحقيق السرور، رأى فيما بعد أنه أيضًا وسيلة لسيادة الأنا وسيطرتها، والتي بدورها تتحكم بالرغبات وتسيطر عليها.
ثمّ جاء تلميذه “إريك إريكسون” ليخبرنا بأنّ اللعب هو وسيلة للتنمية الشخصية والعقلية والعاطفية، تساعدنا لمواجهة العديد من مشاعر الضعف والقلق والعجز. ولهذا غالبًا ما يلعب الأطفال الألعابَ التي تعتمد على الخيال، فتكون الإناث أميراتٍ قوّيات ويكون الذكور فيها أبطالًا خارقين أقوياء أو جنودًا منقذين أو أي شيءٍ آخر. فالخيال هو أحد الطرق التي يلجأ إليها الأطفال لتقريبهم من العالم الحقيقي وخوض تجاربه.
دمية الطفولة بديلًا عن الأمّ الغائبة
سعت مدرسة التحليل النفسي، شأنها في ذلك شأن غيرها من الحقول النفسية، لتقديم تفسير مقنع لحبّنا للدُمى والألعاب في مرحلة الطفولة، والذي قد يستمرّ معنا لاحقًا. باختصار، نحنُ مدينون في هذا الأمر لعالميْ النفس الأسكتلندي “إيان سوتي” والبريطاني “دونالد وينيكوت“، اللذين قدّما أكثر التفسيرات إقناعًا فيما يتعلّق بالدُمى والألعاب.
فلا تكاد تخلو طفولتنا من دميةٍ أو دبدوبٍ أحببناه وتعلّقنا به وحملناه معنا من مكانٍ لآخر ووضعناه بجانبنا على السرير وأعطيناه اسمًا وخلقنا له حياةً كاملة بتفاصيل عديدة لدرجة تصديقها واعتقادها واقعية حيّة، لدرجة أنّنا كنّا نتأثر ونتفاعل بسلبية إنْ حاول أحدهم انتزاعه منّا أو لمسه أو مشاركته معنا، أو أنّنا حتى لم نكن نسمح لأمّهاتنا بغسله وتنظيفه، وإنْ فعلتْ فمشاعر الاستياء والتوتّر والخوف من فقدانه هي سيدة الموقف. فهل فكّرت من قبل بالدوافع النفسية وراء تعلّقك بدميتك؟
يبحث الطفل عن الطمأنينة من خلال اتصاله مع ألعابه كبديلٍ لاتصاله مع أمه التي تبدأ بالغياب عنه في تلك الفترة
يخبرنا “إيان سوتي” أنّ ارتباطنا بدُمانا وألعابنا هو فعلٌ ناتجٌ عن بدء انفصالنا عن الأم وفقداننا جزءًا من ذلك الارتباط الشديد الذي نكوّنه معها في مرحلة الحمل وحتى نهاية مرحلة الرضاعة. وبالتالي، يبدأ الطفل بالبحث عن بعضٍ من الطمأنينة من خلال اتصاله مع ألعابه أو أصدقائه كبديلٍ لذلك الاتصال الوحيد في عالمه الصغير والذي كوّنه مع والدته.
وحتى في مرحلة البلوغ، يرى “سوتي” أنّنا نبقى بحاجةٍ إلى طمأنة ومداعبة ألعابنا أو مشاركة أصدقائنا بها، لكنّ إدراكنا للعالم من حولنا يتمركز حول ذواتنا وداخل أنفسنا أكثر منه من العالم الخارجي، ما يجعلنا نخوض تجارب المشاعر والعواطف المختلفة كالخسارة والقلق والضياع والفراغ بشكلٍ ذاتيّ بحت من خلال تحريك النشاط الإبداعيّ.
تعلّق الطفل بدبدوبه أو دميته يأتي كخطوةٍ أولى نحو الاستقلاية وتكوين الذات
دونالد وينيكوت اعتقد تمامًا كما “سوتي”، إلا أنه عمل أكثر على هذه النظرية وكرّس لها حياته. ورأى أنّ تعلّق الطفل بدبدوبه أو دميته يأتي كخطوةٍ أولى نحو الاستقلاية وتكوين الذات، الخطوة التي تأتي جنبًا لجنب مع بدء الطفل بالانفصال عن أمه وإدراكه لفكرة أنهما كيانان منفصلان لكلٍّ منهما إرادته وذاته ورغباته وقدراته المختلفة. كما أنّ الأمّ تبدأ بالغياب أكثر من ذي قبل، فيجد الطفل نفسه يبحث عن وسيلةٍ لتعويض غيابها من خلال غرضٍ ما، أطلق عليه وينيكوت اسم “الأمّ الغائبة”، وهي أيّ دمية أو شيء قد يتبنّاه الطفل مع اقترابه من نهاية عامه الأول.
الدمية هي وسيلة تعويض عن الأمّ في المرحلة الانتقالية ما بين التوحّد الكامل بينها وبين طفلها، وبين تكوين الطفل لشخصيته وذاته المستقلة والحرّة.
تساهم الدمية في تخفيف التوتّر والخوف والقلق الناشئ عن غياب الأم، وتمنح الطفلَ الشعور بالأمان من خلال قيامه بتفريغ جزءٍ من مشاعره من خلالها. وبكلمات أكثر وضوحًا، فالدمية هي وسيلة تعويض عن الأمّ في المرحلة الانتقالية ما بين التوحّد الكامل بينها وبين طفلها، وبين تكوين الطفل لشخصيته وذاته المستقلة والحرّة.
قد يستمرّ تعلّق الطفل بدميته لسنين طويلة، الأمر الذي قد يُقلق الأبوين ويُخيفهم من تحوّله لتعلّق مرضيّ، خاصة في حال دخل الطفل سنّ المدرسة دون أنْ يُبدي أيّ علامة على قدرته على الابتعاد عن الدمية بطريقةٍ صحية. لنتفق أولًا أنّ هذا النوع من التعلّق هو طبيعيّ نابعٌ بالأساس من حاجة عاطفية ونفسية ومن المضر نزع الطفل منها بقوّة وسيطرة. فعندما يبني الطفل حالةً كافية من الأمان العاطفيّ تعتمد على العالم الخارجيّ المحيط به، فسيقوم بنفسه بالتخلّي عن الدبوب وتعلّقه الزائد منه. أمّا إن حدث العكس، فهنا تجب استشارة أخصائيّ نفسيّ، لأنّ استمرار التعلّق قد ينمّ عن وجود خلل عاطفيّ ممزوج بعدم الشعور بالأمان والاطمئنان.
دبدوب الكِبار: ماذا يخبرنا عن الطفولة؟
لا تختفي الدمية بانتهاء مرحلة الطفولة. فهل فكّرت يومًا وراء السبب الذي يدفع العديد من الكِبار، خاصة الفتيات، إلى التعلّق بالدمى والميل لامتلاكها حتى بعد مرحلة البلوغ؟ لا بدّ وأنْ فسّرت الأمر سريعًا تبعًا للطبيعة العاطفية للأنثى، أليس كذلك؟
وينيكوت كان له تفسير آخر. فقد اعتبر الدمية أو الدبدوب كظاهرة تبقى موجودة داخل الذات البشرية، أيْ عند الكبار أيضًا، على اعتبار أنّها الحيّز الافتراضي الذي يفصل بين الخيال والواقع.
عاد وينيكوت بتفسيراته إلى المرحلة الأولى من الولادة، حيث لا يكون للمولود أيّ تصوّر للعالم الخارجيّ، ولا أيّ فلسفات ونظريات حول العالم وما هو موجود فيه. فتجاربه الأولية والبدائية لا تتعدى الجوع والبرد والعطش وربّما الألم؛ يجوع فيجد الحليب، أو يشعر بالبرد فيجد لباسًا أو بطّانية دافئة، دون أنْ يفكّر كيف ولا من أينَ جاءت هذه الأشياء. وبكلماتٍ أخرى، يبدو للطفل في مرحلته الأولى أنّ لديه القدرة على خلق العالم كما يشاء، وكأنّه حين حاجته لشيءٍ ما فإنّه يتخيّل وجوده.
لاحقًا، سيكتشف الطفل أنّ هناك ما هو أكثر من خياله الخاص، وأنّ طعامه ليست تجربة خاصّة، وأنّ حاجته ليست ملبّاةً بالشكل الذي اعتاد عليه من قبل، فالإحباط ممكنٌ حدوثه بأيّ لحظة. وهنا ينشأ التناقض، ما بين شعوره بأنه قادر على إيجاد حاجته من العالم، وشعوره بأنه معرّض للإحباط في أيّ لحظة. فيجد نفسه في منطقة وسيطة ضبابيّة، بين ذاته الداخلية والواقع الخارجيّ من حوله.
اللعب عند الطفل هو فعل “خَلْق” يستند إلى الخيال ويسمح للذات بإخراج جزءٍ منها أو من عالمها الداخليّ والشخصيّ إلى العالم الخارجيّ
فتنشأ الحاجة للّعب، كفعلٍ يحدث في المقام الأول بالوسط بين عالمنا الداخليّ وواقعنا الخارجيّ. أي أنه لا يجري في خيالنا ولا في العالم الخارج الحقيقي، وإنما يحدث في تلك المساحة حيث يكون فيها خيالُنا قادرًا على تشكيل العالم الخارجي دون الشعور بسيطرته أو إذعانه، أو حتى بالقلق والتوتّر حياله والخوف منه. وبهذا التعريف، يسمح اللعبُ للذات بإخراج جزءٍ منها أو من عالمها الداخليّ والشخصيّ إلى العالم الخارجيّ من أجل تشكيل أو رسم أجزاء من الواقع الخارجي.
ونتيجةً لذلك، تُزرع بذور الإبداع الأولى. فاللعب عند الطفل هو فعل “خَلْق” يستند إلى الخيال، وهذه المساحة الوسيطة، التي أطلق عليها وينيكوت مصطلح ” الغطاء الآمن Security Blanket“، تتوسع في الحياة الفكرية والإدراكية الكاملة للإنسان، حيث سيحدث الإبداع والثقافة لاحقًا.
التعلّق المستمر بالدمية في مرحلة ما بعد البلوغ قد يكون إشارة عن خلل عاطفي حدث في الطفولة
فاللعب إذن هو الشرارة المحتملة للإبداع، وغيابه ينعكس سلبًا عليه في مراحلنا القادمة. ولهذا نجد الشخصيات الصارمة من الكِبار غير قادرة على التفاعل مع الجانب الإبداعي من الحياة، سواء في الأدب أو الموسيقى أو الألعاب، كما أنهم يستصعبون تخيّل أنفسهم في أدوار أخرى غير أدوارهم أو وضع أنفسهم مكان الآخرين.
تخبرنا نظرية وينيكوت أنّ الجفاف الإبداعيّ هذا والعجز عن استخدام الخيال، يعود إلى خلل في المرحلة الانتقالية أثناء الطفولة، أي مرحلة انتقال الطفل من الاعتماد التامّ على الأمّ والتوحد التام معها، إلى مرحلة اكتشاف الذات والإرادة الحرّة والقرار الشخصي. أمّا التعلّق المستمر بالدمية أيضًا في مرحلة ما بعد البلوغ، فهو أيضًا إشارة عن خلل ما مختلف في تلك المرحلة. حاول أن تتذكّر علاقتك في دميتك، لتستكشف مرحلتك الانتقالية تلك وأثرها عليك الآن.